مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

الأشواك الباكية - هدى حجاجي أحمد - كاتبة من مصر



دخان السنوات الطوال متكاثف على سقف الردهة الوسطى الفرن البارد يقبع في جمود كبير....الحزن يعرش في فناء الدار يحلق في السماء من خلال ثقوب صغيرة.. كوة ضيقة ينام فيها على الدوام قطعتا خشب متقاطعتان.. الأبواب المنهكة متهتكة من حرارة الشمس تتثاءب ذرات التراب المتصاعدة بين حين وآخر .. موقد طيني في الجانب المقابل يجاوره حزمة حطب ثلاث دور تدير ظهرها إلى هذه الدار التي تتوسطها أنين نحلة وشهقات جعلته يبحث عن مسكنه تشعره بثقل السكون وبلادته :
(( لم أدخل هذه الدار منذ أحد عشر عاما كنت في العاشرة يومها كل شيء قد أزداد قدما )) . نظر إلى شرخ في الحائط المواجه تسرب داخله وأحس بأن الماضي يقف في جانب والمستقبل في جانب آخر، و أن الأبواب الموصدة تناصبه العداء.. نقر إحداها سقط عليه فغزت جسده قشعريرة السلم الخشبي، تحطمت بعض أجزائه. قفز فوق أدراجه المحطمة بسهولة رأى ذبابة خضراء لامعة أعجبته، قرأ في رأسه حكاية قديمة روتها له أمه عن هذه الذبابة.. أرهبته قراءة السطور الأخيرة ، كانت مهتزة الحروف غير واضحة، لم يستبين فيها غير جثث الموتى ورؤية القبور وهذه الذبابة اللعينة تلتهم أجسادهم، فكر في أن يهاجمها فينزع أباه من بين أمعائها أدمعت عيناه ... ابتسمت شفتاه .. طاردها، وقف شعر رأسه وجسده.. كف عن مطاردتها، التصق بالجدار القريب غاصت عيناه في دائرة ضيقة نسجها عنكبوت، لمسها برز من الداخل بسرعة محاولا اصطياد أصبعه.. شعر بخوف مضاعف بينما عاد العنكبوت الى الداخل مخذولا، ابتسم هازئا من نفسه :
(( كنت أعبث بكل شيء من قبل .. حتى هذا العنكبوت كنت أوهمه أنني ذبابة وأضحك في بلاهة )) . كل شيء يكتم أنفاسه حتى الأبواب العتيقة التي كانت تجأر بالشكوى عندما تستقبل أو تستدير شخصا أو حتى عندما يزفر النسيم زفرة ارتياح هادئة وكل ما يحيط به قد كف عن الحركة إلا قطعة شاهدها على سطح دار عبد الهادي .. تجري بسرعة ثم تقف بعد قفزة كبيرة.. تقدم قليلا مما جعله يرى جارتهم القصيرة والحاجة أم صابر تجلس أمام بابها دونما حركة، طرد ابتسامة كانت تأخذ طريقها إلى ثغره وزوى ما بين حاجبيه (( كثيرا ما استشرناها ونحن نسكب لها الماء بجانب أحد جدران بيتها الطينى )) .
 
وهم بأن يصدق صوتها وهميا ((ماذا أقول ؟ .. وأين أذهب ؟ .... الماء حول الحائط إلى معجنة من الطين )). وأصوات واغلة تلج أذنيه لأطفال يصيحون طربا .. شاهد نفسه يتزعم شقاوتهم ويزهو لدى سماعه صوت الحاجة أم صابر : (( وأنت يا مقصوف الرقبة .. يا حمو أنا أنا سأقول كل ذلك إلى أبيك )). أعاد حشر هذه الذكريات الى رأسه عبر شريط خزنه في عقله وصاح (( كيف الحال يا خالة أم صابر )) . ترددت فترة حتى تأملته : الحمد الله يا بني..كيف حال والدتك ؟ أحسن من ذى قبل سمعت أنها مريضة ربنا يشفيها المفروض تلفوها فى حرير ترملت في سن باكرة وبقيت عليكم وتمسكت بكم ولم تهملكم . فهم كلماتها وأحس بالروابط الوثيقة التي تربطها بوالدته . . نهر السكون كل الأصوات المحيطة.. البيوت جميعها شبه خالية ... الحقول تستأثر حتى بالصبية في موسم جني القطن، توغلت عيناه على السطح القريب كانت قطة صغيرة تشاهد فى اهتمام بالغ قطة كبيرة وهى تحاول إمساك شيء وهمى بين مخالبها ثم تلتقطه بفمها ببراعة : (( هذه قطة تعلم ابنتها كيف تصطاد الفئران )).. انسكب صوت أبيه في أذنيه وأحس بأن ذراعا حنونا تحمله وبأنه طفل .. حدق في القطة وابنتها ..عاد إلى عمره الطبيعي وراح ينظر بإمعان إليهما معا ..كانت ابنة الأمس أم اليوم. أحس بأن السلام شيء مادي يتأبط ذراع قريته الناعمة وبأن الهدوء سمة مميزة طفق يلعن أشياء كثيرة مغمغما . نطح ذبابة مشاكسة برأسه وتشاجر بعصبية مع ذبابة أخرى كانت تقف على وجهه . حيا بعض النساء القليلات الجالسات أمام بيوتهن ... أندفع الدم إلى رأسه حقنا من نظراتهن المركزة (( ابن المرحوم عطيه ؟ )) . يظهر ..اللهم صلى على النبي ..كبر .. أصبح رجلا .. تلاشت أصواتهن بينما راحت أذنه تتحسس كلمة . لم يعد في الطريق الرئيس المؤدي الى الحقل غير صوت قدميه يلاحق أذنيه .. تلاشى كل ما يحيط به وتضاءل تحول الصهريج الضخم إلى شئ أصم أمام مشروع مياه الشرب الجديد .. عرج الى اليمين قاده ظله ..اضطرب .. تذكر سيارات |الأتوبيس» التي تهاجمه مرارا في شوارع المدينة المزدحمة، أنس إلى ظله ثم عاتبه بنظرة.. لاحظ وجود بعض الأعمدة الكهربائية اتسعت عيناه،، ركز نظراته على الأسلاك التي تخرج من غرفة صغيرة، صوت اندفاع المياه من حنفية .. يجذب حواسه التفت فكانت شابة رقيقة حلوة الملامح عارية القدمين .. تملأ جرة .. وامرأة واقفة: تسمح يا أستاذ؟ نعم ؟ تشيلني؟. تقدم إليها، وساعدها ثم تأخر منتظرا الشابة حتى تفرغ من ملء جرتها ، تسرب صوت، اندفاع المياه إلى نفسه عزبا أطلت روح الشابة من عينيها الجميلتين وبرز من مقلتيه يلتهم ملامحها الباهرة .. أقفلت الحنفية .. ضغط على عنق الجرة بقوة وشعر بلذة خفية تغمر كيانه، استقرت الجرة على رأسها في أسى بالغ .
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.