مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

« المقَامــةُ النَّهريــةُ » تأليف : أحمد سعيد



حـدْثَنا عيسى بن هشام قَاَلَ : لمَّا اشتَّد القيــظُ بنا إلى ما آل ، ونـَاَلَ مِنْ أجسادنا ما نال ، هَــرَعَ إليَّ خليـلٌ قـَديم ، وصاحـبٌ حميم ،ونادىَ بصـوتٍ أجشٍ ، اسقطَ مِنَ السَّقفِ القشِ، وتناثرت أعــواد العُشِ ، وأوراق الشَّجر الهش ، وكادت السَّمـاء أنْ ترعدَ وتبرقَ ، وينزل الغيثُ ويغدق ، وما أنْ قعدَ إلا ريثما انصرف ، وقَاَلَ هلُـمَّ لنسبحَ ونغترف ، ثُمَّ نشربَ التَّبغ ونقترف .
عيسى بن هشام : أزعــمُ أيهُا الخلُ أنَّك للتبغ تجيدُ حُبكته ، وإعادة حشوه وصناعته ، فتشربهُ كما الظمأن أو تنهشهُ كذوي المخالبِ أو كُلِّ ذي نابٍ كالثعالبِ ، ثُمَّ تمضغهُ كثعـلبٍ مكارٍ، أو كـلبٍ به سُعــارٍ، فتشدقــهُ بفكيكَ ، وتحدقـهُ بمقلتيكَ وكأنُّه أخر زادك ، وقد حلَّ أجلك وميعـادك ، هلاَّ باللهِ نعتضد ، ونتــوكـل عليّه ونعتمد ، عدا أنني لا أُجاريك في شُربِ التَّبغِ ، أو أنْ اقترفَ الذَّنب ، ثم اتبعتُ صديقـي موازياً ، وقفوتُ أثره محاكـياً حتى دنونا إلى الشَّاطئ ، فإذا كلانا يتفاجـئ ببضع نسوةٍ  محنياتٍ وفتياتٍ آخرياتٍ تقاسمنَ الجمــال بينهن فهذه دعجـــاءٌ فيحـاء ، وأخرى سويجـاءٌ وركـاءٌ ، وثالثةٌ ناهــدٌ هرطل ، ورابعةٌ كاعبٌ راتب ، تتكـأكـأن على الحافةِ ليغسلنَ القـدورَ الجافةَ ، وجميع الصّحون كافة ، فيجليَّن الصّحون مِـنْ آثارِ الدّهونِ ، وتلك عادةٌ موروثة ، عِندَ ريفِ أهل المحروسةِ .

 قال الخلُ القديم : أعيّ أنْ الوصفَ والغزل سجيَّةٌ في الأنام مِنَ الأزلِ  ، فلتغضَّ بصرك ياعيسى عنْ الحسناواتِ ، فهذا طريقُ الانزلاقِ ، ومهوىَ الاندلاقِ ، ثُمَّ وطئنا سكةَ  الْمدقِ  ، وهو ممرٌ ضيقٌ وشق ، حتى انتهينا من هذا المسلك ونجونا من ذلك المهلك ، ففوجئنا بجمعٍ منَ الجُلاسِ فسلُّمنا وجلسنا في مُقدمةِ الناسِ ، نشاركُ الحديثَ ونُبدي ما في الوطابِ ، فأُعجبَ الجمعُ بفصلِ الخطابِ ، وفي تلك الأجواءِ التي شابها الأُنس والإطراء ، وزَّعَ الخلُ التبغ بإغداقٍ ، على الجمعِ مِنَ الرفاق ، ثم احتسينا شاياً حلو المذاقِ .
وقدْ كَثُرَ الحديث ، عنْ مُعاناةِ الغدير، الذيّ أضحى بلا خريرٍ ، وبات مُستنقعَاً للحمير والدَّواب النَّافقة ، والمباني الباسقة ، واكتظَ بالنَّاس على حافتيهِ ، دونَ الحفاظِ عليه ، بيد أنَّ الإنسانَ لمْ يكفْ عنْ العبثِ ، فباتَ الغديرُ مصباً للروث .

قال الخلُّ القديم  : لقد اسْتَفْحلَ الأمرُ  ياسادة ، وأنَّ الطَّامةَ الكُبرى عند ذوي الرّيادة من أصحاب الـمال والصّناعة فهُم ذو خسةٍ ونطاعةٍ، ولقافةٍ ووضاعـةٍ ، فيلقون كافة المخلفات ، من شتى المُبيداتِ ، في مجرى الغدير ، فيشوبهُ الَّتعكير ، ناهيك عنْ نفوقِ الأسماك ، فتعُمَّ الأوبئة ، ويزداد الهلاك .

وبينما نحنُ نسردُ هذا الحديث المُشين، وسط الجمع المبين، قالَ أحدُ الجالسين  (صه) أيها الخلُ عن هذا الحديث التعيس والحكي الخسيس ، فابن سعيّد اللُغَوي قَــدْ هلَّ ، وبدا طيفهُ كنورٍ يُستهل ، ثم تلقاهُ كُلَّ فـردٍ مِن الجمعِ بمُحيا حييٍّ ، وصافحهُ براحةِ أريحيٍّ ، وما أنْ القى السَّلامَ على الجمعِ والعوام ، إلا أنْ انخرطَ معنا بحديثه الشجي ، وسط الجمع البهي عن حديثِ السَّمرِ ، وعنْ جلساتِ السَّهر ،  وبدأ كلٌّ مِنا يشولُ بلسانهِ ، ويخرجُ ما في صوانهِ ، عنْ روعةِ النّيلِ وجمالهِ ، وعذوبةِ مائهِ وبهائهِ ، والحضارات التي نشأت على ضفافهِ ، وأنَّ هذا الغدير قدْ ذُكر في القُرآن والسنة ، بأنَّهُ منْ أنهار الجنة .

قال ابن سعيد الْلُغَوي : يا قوم لقدْ تغنى به الشُّعراءُ في القريضِ ، في موسمِ الغيضِ والفيضِ ، فالنيلُ يا سادة مُلهم الشُّعراء، وشاطئ الغرام والأحباء ،  ومصدر العطاءِ وواهب النماءِ ، ومطمع للغزاة فهذا أمير الشعراء قدْ تغنىَ وقال :
مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ       وبــأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ
ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ       من علْيــا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ

إنَّهُ أجمل مكانٍ لتنزه الأحبة ، فهـو ركنٌ ظليلٌ في رياضٍ نضّر الله ثراها، وسقي من كرم النيل رُباها .
وقدْ تغنى محمود حسن اسماعيل عن هواه العليل وظله الظليل بقصيدة للنَّهر الخالد ، وعنْ حلاوةِ مائـهِ الباردِ وعن سحرهِ ودلالــهِ ، وعطرهِ وظلالــهِ ولمْ يزلْ يسكنُ الديارَ
ويسكب النورَ للحيارى ، والناس في حبه سكارى فقال :
مُسـافــرٌ زادهُ  الـخيــــالُ            والسحرُ والعطرُ والظـلالُ
ظمآنُ والكأسُ في يديــــهِ          والحبُ والفــنُ والجمــالُ
شـابتْ على أرضهِ الليالي           وضيعـتْ عمرَهــا الجبــالُ
ولـمْ يـزلْ ينشــدُ الــدّيـارا           ويسـألُ الليــلَ والنهــــارا
والناسُ في حُبـهِ سُكـارى            هاموا على أفقهِ الـرَّحيبِ

إنَّ بزوغَ الشمس فوق شاطئيهِ ، تجدُ السّحرُ يبرقُ بعينيِه ، والـزَّهـو قد بدا على ضفتيهِ ، والحدائقُ الغناءُ تعلو جانبيه ، والخمائلُ الخضراءُ ممشوقةٌ على طرفيه ، فقدْ خمرت السُّفن مياهه عبر العصور ، تحملُ المسك والبخور ، وحملَ يمُّه خير نبيٍ ورسول ، وأنَّ ماؤه عذبٌ عنبر، وباردٌ سعبر ، وقدْ غنَّى له العندليبُ الأسمر .

قال الجَدُ حسان وهو أحدُ الجالسين مِنَ الأعيانِ ومنْ أصحابِ الأطيان ، أن حديثَكَ معسولٌ يتبعه خيرٌ مأمولٌ ، يا سادة اعتنوا بنيلكم بإحسان ، وامنعوا الفتى غسان مِنْ صب المخلفات من الكيماوياتِ ، وصغار الصبيان ، من إلقاء الروث والأطنان ، والنسوةُ القابعاتُ كالأوثان ، يغسلن الخرق منَ الأدران ، هبوا للحفاظِ عليه ، وحاربوا من يُسئَ إليه فهو شريانُ الحياةِ ، وفيضانه طوقُ النجاة .

قال عيسى بن هشام : أنعم بهذه الصُّحبة ، وأكرم بكم من جمعٍ ونخبة ،حبذا لو أصغيتُم لديّ واستمعتم إليّ ، لعمري إنَّ حديثكم شيق ، لكن الوقتَ ضيقٌ ، وإنَّ جليةَ الأمر عندي ، فتقبلوا مني ، ولا تسألوا أحداً بعدي ، اعلموا أنَّ النّيلَ حرٌ طليق ، منذُ زمنٍ سحيق ، وهو نفحةٌ ربانيةٌ ، مهداةٌ منْ رب البريةِ ،وأنَّ فيضه نعمة ، وغيضه نقمة ، والحفاظُ عليه ثقافةٌ ، وامتلاؤه بالدرنِ لقافة ، ولطالما ما أنفك اللئام من مالكي المصانع الوضاع ومنْ ساكني هذه البقاع ، فلا مفر منْ الإخضاع ، وفرض عقوباتٍ للإصداع ، كي يردعَ الجميع  فيمتنعواعن هذا العبث ، ومن هذا الصنيعُ والخبث .

هناك تعليقان (2):

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.