مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

الذات لذاتها في رواية غواية السواد - ذ : عبد الفتاح الحفوف

 

 
رواية "غواية السواد"1 للروائي والقاص المغربي كريم بلاد نجدها من الحجم المتوسط، أي ما يقارب مائة وسبعا وأربعين صفحة، تتشكل من خمسة فصول تتفاوت من حيث حجمها، فهي مترابطة تتصدر كل فصل منها أقوال مأثورة كمنطلق لبداية أو نهاية محتملة. وهي رواية ذات أبعاد دلالية قوية من حيث معناها ومبناها السردي.سنحاول في هذه الورقة قراءتها قراءة فلسفية تنصب على تشكل الذات فيها ووعيها بذاتها، إن على مستوى شخصية "امباي" أو " حجيبة " بطلي الرواية، وذلك لما لها من أهمية في واقعنا الراهن .
1.       افتراض البدء:
بدءَ ذي بدء ، عندما عزمت على قراءة رواية " غواية السواد"، كان الأمر لسببين: أولهما أن صاحبها كان أستاذا لي أيام الثانوية، أستاذ لي أيام وثانيهما ما أثاره عنوان الرواية في نفسي من مشاعر متضاربة، وعلاقته بالصورة وعلاقته بصورة التي اختارها الكاتب غلافا لها. مما جعلني أضع افتراضا مفاده " اغتراب الذات عن ذاتها". فكيف نسج الكاتب روايته على هذا المنوال؟ هل اغتراب الذات هو اغتراب في مكان (الصحراء، المدينة، البحر، الوطن...) كلها أماكن تجعل الذات مغتربة في ذاتها عندما تتسلل إليها.
          الوحدة ( الشعور بنفور الذات من العالم ) ، وهو ما تشير إليه الصورة من جهة أخرى.أم إن اغتراب الذات كامن في ذاتها نفسها، ما يجعل الهوة تعمق بين الذات وذاتها؟
2.       وجود الذات في رواية " غواية السواد" في ذاتها ولذاتها:
يقول فيلسوف ألماني " فريدريك هيغل" إن للذات والموضوع هوية واحدة كل منهما يتحول الى الآخر وليسا ضدين"2 أي؛ ما تنتجه / تخلقه  الذات على أنه موضوع هو في الحقيقة  ما هو إلا نفسها في الآخر، أي هو الذات في خارجيتها الظاهرة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على كون السارد يحاول جاهد إخراج الذات من بواطنها ( الوجود بالقوة )3 الى عالم أكثر وضوحا هو ذاتها (الوجود لذاتها/ مرحلة الوعي بالذات= تحقيق الذات). لهذا انطلق الروائي من إهداء، هو بمثابة  بداية النهاية، الى ما ستعبر عنه الذات. وذلك بعد مجموعة من الإخفاقات التي مرت بها في جل الأماكن التي عرج عليها في سرده للواقع الذاتي من الخارج. إن السيدة التي تتأمل من داخل بيتها (ذاتها ) تحاول أن تستنطق ذاتها من الخارج ،وهذا ما  يسميه هيغل بالثالوث الدياليكتيك4: الذي ينطلق من الوجود بالذات، ويعبر عنه بالمنطق، مرورا بالوجود لذاته ويعبر عنه بالطبيعة، ثم ينتهي إلى الوجود في ذاته  ولذاته، ويعبر عنه بالروح المطلق، فيكتمل وعي الذات بذاتها.
إن الرواية التي  بين أيدينا تمزج بين قضيتين تبدوان متناقضتين في الظاهر، وهما حل النزاع كطرف ثالث في لغة هيغل، الطرف الأول شقاء الذات لما تعانيه في الحياة( التعاسة) وطرف ثاني هو المتعة، متعة الذات بذاتها وهي تبحث عن وجودها الواعي في الأخر.إلا أن السارد لا ينظر الى الأمرين معا، بل يقف عند الطرف الأول وهو ما جعل ولادة الأطفال في لغته ممزوجة بدم السواد( عذاب وشقاء).
وهذا ما يبرزه الشكل الآتي:               
3.       شخصية " امباي" بوصفها ذاتا مغتربة:
انطلق السارد من وصف دقيق ممزوج بالإحساس بالألم والشفقة  وما يعتري الذات من قصف وغربة في موطنها، وهو يعمل على استدراج القارئ للتعاطف مع المهاجر امباي ،باعتباره إنسانا. فمن جهة تعرض لظلم الطبيعة ( التيه والتشرد في الحياة)، وبالتالي غياب عدالة الدولة أو عدالة الطبيعة بلغة أصحاب العقد الاجتماعي، ومن جهة ثانية غياب الوعي الجنسي أو ثقافة الأسرة المسؤولة. وأعتقد أن السارد هو الذي جعل الذات تتحمل مسؤولية خوضها في غمار مغامرة هي ليست في غنى عنها، إلا أن الواقع الإيديولوجي بكل ما يحمل من معنى، أصبح واقع حقيقيا لما يعتريه من مظاهر. وهو ما يترتب على كون ال "هنا " ليس أفضل من ال "هناك"، الشيء الذي جعل الذات تبحث عن ذاتها في الأخر، هو ما عبر عنه هيغل "ما تخلقه الذات هو ذاتها بعد مسايرة التاريخ ، والعودة الى ذاتها"5. إن الوعي بالذات هو وعي بالحرية كمنطلق الوجود ،وهو ما سيتجلى في ثقافة الاعتراف بالذات كحق من حقوقها الطبيعية والمدنية، من هنا التجأ السارد الى البحث عن حقيقة الذات في أماكن أخرى كالمدينة، والحديقة، و الهجرة نحو أوربا ...
سنجد السارد جعل الذات تخرج من التيه أو ما أسماه بالغواية في عالم سواد، وهو الصحراء إلى عالم أكثر وضوحا في الظاهر، إلا أنه أعمق من الأول دلالة.وهو ما عبرنا عنه سابقا بالوجود في ذاته،  وهو حالة كمون أو الوجود بالقوة ، إلى الوجود لذات،ه وهو خروج الذات من ذاتها والعودة إليها. من هنا  سيجد المهاجر "امباي"  ذاته في عالم المدينة  التي قال فيها السارد " أنها حيوان عملاق يلتهم كل شيء قابل للالتهام"6.إن وجود امباي فيها ( الاغتراب الثاني) أول لحظة جعله يحس بأنها مدينة ستمتص دمه (غياب إرادة الحياة). لهذا سيقرر أن يحقق حلمه في سماء فرنسا عن طريق الهجرة عبر البحر، لكن سيفشل بعد معاناة طويلة في البحر ومحاولة النجاة من الغرق بسبب الثقب الذي تسلل عبره الماء إلى المركب وسط البحر. ذكاء المهاجر أو ذكاء السارد جعل السرد يستمر رغم موت من على المركب الملعون،  فخروج المهاجر من غياهب البحر وتلاطم الأمواج بين الصخور، فعاد بصيص الأمل في الاستمرار نحو تحقيق الحلم. بعد ذلك،عاد إلى المدينة  وبحث مرة أخرى عن سبل تحقيق الذات، وهو الرغبة في العمل . قال هيغل" إن الوعي بالذات لا يمكن أن ينشأ إلا حينما ينظر الفرد الى نفسه كما لو كان ينظر إليها من جانب، كما لو كان ينظر إليها بعيني إنسان آخر ، ذات أخرى"7 وهذا يعني أن امباي المهاجر نظر إلى ذاته في مرآة العجوز التي نبهته الى إعادة النظر في  مفهوم الوطن؛ إذ قالت له:  " الوطن امرأة. إذا هجرها زوجها استسلمت لرجل غريب "8. تلك العجوز التي أكرمته بعد نجاحه من أهوال البحر، وعاش معها فترة من الزمن، قبل أن يعود إلى البيضاء.
4.       رهان الرواية:
إن الرواية تراهن اليوم على قضية هامة، وهي الصعوبة التي تواجه الشباب في تحقيق وجودهم من غير دعم من طرف الجهة التي هي أولى بتدعيمهم. لكن بؤس السياسة و أفولها في وجههم جعلهم يبحثون عن بديل في ما يحلمون به، فأصبح الحلم هو الهاجس الأول لكل شاب أراد تحقيق ذاته. وقد جسد السارد واقع الدولة ، واقع الإنسانية في موضوع الهجرة السرية، وما تحمل من معاناة يتكبدها من يريد تحقيق ذاته على حساب غيره.
إنه لأمر مخجل أن يقع ويتكرر مع كل مهاجر لا يحس بالانتماء لوطنه، فالهجرة هنا ليس بالضرورة مرحلة الانتقال، بل هي هجرة الذات عن ذاتها ، من أجل تحقيق وعي كامل. ربما الإرادة بلغة شوبنهاور9 هي التي دفعت  المهاجر "امباي" الى الاستمرار في الحياة ، وهي الحياة التي وجدها عند السيدة "حجيبة المالكي" في مدينة الدار البيضاء، إنها نفسها المرآة التي افترضنا سابقا أنها مغتربة في ذاتها، لقد تحقق وجودها ( وعيها ) في وعي أخر وهو المهاجر "امباي".
لقد اعتمد السارد في الفصل الرابع في سرد قصته بوضوح، مبينا الدور الذي لعبته القيم الكونية كالعفة، والحرية،  والتسامح مع الذات في تحقيق مفهوم الوطن. فالوطن ليس في مكان ما، بل في كل مكان، وهو الأمر الذي لم يستوعبه بعد المهاجر "امباي". قال السارد واصفا لقاء "امباي"  " سامنتا ":" حضن فيها أمه إفريقيا بكل قوة وبكل ما كان في نفسه من شبق السواد المماثل للون بشرته"10،أي  وجوده الأصلي، وهنا إلماعة ذكية من أن "امباي" على وشك لقاء الوطن، والاندماج فيه. إن الوطن امرأة، والمرأة وطن.     
لقد ختم السارد الرواية  بفص أخير، يحمل عنوان  يلخص الحياة، إنه  (الوطن)، وكأنها نهاية لبداية جديدة، بكل بساطة عودة الذات الى ذاتها، أطلق عليها الكاتب اسم التأمل الجوًاني11 بعدما كانت في تأمل براني. هما مفهومان بارزان في لغة هيغل خاصة في كتابه "فينومينولوجيا الروح" . بمعنى تحقيق الذات لا تكمن إلا في ذاتها ،أي موطنها " ويتجلى ذلك في عودة "امباي" الى وطنه ناسيا كل شيء خلفه، لقد فهم أخيرا على أن حلمه لا يتحقق إلا في وظنه، أو بين يدي حبيبته " سامنتا".
 
5.       عود على بدء:
في الفصل الأول الذي عنونه الكاتب بـ" الصحراء"، باعتبارها رمزا على التيه والضلال، تحدث فيه عن مجموعة من الأفارقة حاولوا الهروب من بؤسهم وفقرهم نحو شمال المغرب، بغية تحقيق أحلامهم خارج القارة العجوز. إلا أن دليلهم أضل الطريق في الصحراء، وجعلهم عرضة للموت.ولكن نجاة "امباي"وحده برفقة الدليل من الصحراء كان بالنسبة لنا ولادة جديدة تبعث على أمل جديد، إنها الحضارة كتجلٍ لأفق العيش الكريم .
وفي الفصل الثاني، وعنوانه " المدينة" تجلَ العيش الكريم، لكن هيهات هيهات، فباطنها وحش شرس، الدخول إليها ليس كالخروج منها، فالبيضاء " حيوان بدائي عملاق بسبعة رؤوس وثلاثة اذيال سوداء اللون"12 بلغة السارد. لقد وصف فيها اللحظة التي وطأت فيها رجل المهاجر أرض البيضاء. ومعلوم أن الفصل تضمن حديثا عن الطريقة التي يعيش بها المهاجرون تشردهم وفقرهم، فهناك من وجد ذاته في بيع الحلي والهواتف لكسب لقمة العيش، فالمدينة بالنسبة لهم جسر نحو العبور الى الضفة الأخرى.
 في الفصل الثالث الذي وسمه بـ" البحر"، سيخلق الكاتب سيناريو يلقي فيه  الضوء على مفارقة بين المعاناة و الأمل كتجلٍ لتحقيق الذات؛ الأمل كغاية  في الوصل الى تحقيق الحلم الكبير، والمعاناة كسبيل للخروج من هواجس الذات. وقد تمثل في نجاة المهجر من غرقه بسبب الثقب في المركب، تعرفه على السيدة العجوز ونصائحها التي تحققت في النهاية. "  لن تكون لك أية قيمة ما لم تحبك امرأة ، فإذا أحبتك صرت..."13
في الفصل الرابع، الحديقتان بعد عودة ميمونة من معاناة البحر وضياع الحلم في سماء فرنسا، قرر "امباي" المهاجر أن يمكث في المدينة باحتا عن عمل يحقق ما كان يحلم به ولو كان الامر أشبه بتحقيق معجزة. ستتغير حياته بعد إغوائه من طرف سيدة اسمها "حجيبة المالكي" ، هذه الأخيرة التي مات زوجها سي عبد القادر تاركا إياها في اغتراب وجودي وسط مشروع كبير للسيراميك، وثروة طائلة. أحس "امباي" أنها فرصة لا تعوض، فهو يبحث عن ذاته وهي تبحث عن ذاتها ، فوجد ما كان يبحث عنه فيها، ما كان  وهو العيش الكريم ،ووجدت ما كان ينقصها وهو متعة الجسد الأسود.و بعد زواج لم يدم كثيرا، وكأنه استرجع ذاكرته، قرر سرقة حجيبة، والهروب الى ما كان يؤمن به منذ البداية تاركا حجيبة وابنه الذي يوشك أن يخرج الى الوجود، عند العجوز التي لقيها "امباي" مباشرة بعد نجاحه من الغرق. وتلك مفارقة أخرى.
ولقد كانت خاتمة غير متوقعة من الروائي كريم بلاد والتي لخصها في ثلاث صفحات من  الفصل الأخير بعنوان " الوطن"والمتمثلة في  نزول "امباي" من الطائرة بلباس أنيق وحذاء لامع  ومعانقته أرض الوطن، فالحلم وموضوع الحلم شيئان في الذات، وهو ما أكده هيغل الألماني سابقا " إن للذات والموضوع هوية واحدة كل منهما يتحول الى الآخر وليسا ضدين.
الخاتـــــمة: 
قليل في وطننا العربي من تكون له الجرأة على إبراز قضية كبرى في تعالقاتها بالجسد مثل: " الوطن ،الهجرة السرية، الاغتصاب، التسول... وبعض من هذه القضايا  هو الذي حاول  القاص والروائي كريم بلاد التطرق إليها بأسلوب راق، يجعل القارئ من جهة يحس بموقعه كانسان وكقيمة، ومن جهة أخرى إيثار انتباهه  الى مفهوم الوطن باعتباره جزء لا يتجزأ من كل إنسان.
 إن رواية " غواية السواد" تحاكي الواقع وتبرز تناقضاته ، ولكنها، في الوقت نفسه، رواية تعرَي الذات المغتربة والذات المنتمية الى الوطن كليهما  ، فتبرز تمفصلاتهما في بعضهما البعض. وذلك خيط رفيع قامت عليها بنية السواد فيها. 
 
المراجع المعتمدة:
1.       صدرت عن دار السلام للطباعة والنشر بالرباط مارس 2016
2.       هربرت ماركيوز، نظرية الوجود عند هيغل، ترجمة وتقديم  إبراهيم فتحى، مؤسسة خليفة للنشر والتوزيع، 2017.ص07
3.       الوجود بالقوة: هو مفهوم أرسطي يقصد به الوجود الذي لم يتحقق به ، أي في حالة كون وركود.
4.       تاريخ الفلسفة الحديثة، وليم كلي رايت، ترجمة محمد السيد أحمد،ط1 ،دار التنوير.ص318
5.       هيغل، تطور الروحي، ، ترجمة وتعليق إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة المكتبة الهيغلية، ط1، 2010، دار التنوير.ص74
6.       كريم بلاد، غواية السواد، مرجع سابق ، ص23
7.       هربرت ماركيوز، نظرية الوجود عند هيغل.، مرجع سابق، ص12
8.       كريم بلاد، غواية السواد، مرجع سابق ، ص45
9.       شوبنهاور (1788-1860): هو فيلسوف ألماني معروف بفلسفته التشاؤمية، له كتاب ( العالم كإرادة وتمثل).
10.      كريم بلاد، غواية السواد ، مرجع سابق ،ص124
11.      نفسه،ص 101
12.      نفسه،ص23
13.      نفسه، ص46
 
 

هناك تعليق واحد:

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.