الوادي الخصب في العراق يُحتضر.. دجلة والفرات يمكن أن يجفا سنة 2040 - هيلين سالون
من أعلى المجمع السياحي القديم على ضفاف بحيرة ساوة في محافظة المثنى جنوب العراق تمتد الصحراء على مد النظر. هُجرت المباني منذ الغزو الأمريكي البريطاني سنة 2003. يتذكر عبد الله، سائق سيارة أجرة (40 سنة) يأتي من السماوة - وهي بلدة مجاورة - للاستفادة من هدوء المكان وسط المدينة بحزن: "في الماضي، كانت المياه تصل إلى الضفاف وتزخر بالأسماك والطيور حيث كنا نسبح ونتنزّه أو نقوم برحلة على متن قارب في البحيرة". أما اليوم، بات النظام البيئي لساوة بأكمله مهددًا بالزوال.
في نيسان/ أبريل، جفّت بحيرة ساوة تمامًا. تشكل هذا المسطّح المائي قبل أكثر من خمسة آلاف عام بالقرب من نهر الفرات، في الطرف الغربي من وادي بلاد ما بين النهرين الخصب الذي يمتد حتى نهر دجلة، مهد الحضارة السومرية التي جلبت للعالم الكتابة والزراعة. في بداية الصيف، عادت المياه إلى الظهور. ولكن بالنسبة للبحيرة، التي تغذّيها مائدة جوفية ترشح إليها المياه من النهر، لم تبقى سوى بركة في منتصف البحيرة التي يبلغ طولها خمسة كيلومترات ولا يتجاوز عرضها الكيلومترين. وحسب يوسف جابر، مسؤول عن البيئة في محافظة المثنى: "لم يبق من بحيرة ساوة سوى 5 بالمئة أو 10 بالمئة من مساحتها الأصلية. وإذا تمكنا من الحفاظ على هذه المنطقة، سيكون ذلك إنجازًا حقيقيًا".
لم يبق من بحيرة ساوة سوى 5 بالمئة إلى 10 بالمئة فقط من مساحتها الأولية، العراق في 6 تموز/ يوليو 2022.
ظلّ منسوب المياه في بحيرة ساوة مستقرًا لفترة طويلة. ويوضح علي حنوش، الخبير الزراعي والعضو السابق في مجلس منطقة المثنى، أن البحيرة "تقع على ارتفاع منخفض للغاية لا يتجاوز ستة أمتار فوق مستوى سطح البحر و200 متر تحت الهضاب الصحراوية المحيطة، مما يسمح لها بتجميع المياه الجوفية القادمة من سوريا والمملكة العربية السعودية". ويخضع موقعها الفريد للحماية منذ سنة 2014 بموجب اتفاقية رامسار بشأن الأراضي الرطبة.
بدأ منسوب المياه في الانخفاض في سنة 2015. وحسب يوسف جابر "هناك أسباب مرتبطة بتغير المناخ، ولم تهطل الأمطار لمدة ثلاث سنوات، ناهيك عن أن درجات الحرارة تجاوزت في بعض الأحيان 50 درجة مئوية في المنطقة، بينما أغلقت زلازل صغيرة الينابيع التي تغذي البحيرة". فضلا عن ذلك، يعد النشاط البشري المحلي مسؤولًا عن جفاف البحيرة. يؤدي نقص المياه في المنطقة إلى تكثيف المنافسة بين المصانع والمزارعين ومربي الماشية للاستيلاء على الموارد المائية الثمينة. ويضيف المسؤول المحلي: "لقد حُفرت الآبار بشكل غير قانوني في الصحراء المجاورة لمشاريع زراعية ومصانع مثل الإسمنت وأعمال الملح. وهي تستنزف الكثير من مخزون المياه الجوفية الذي يغذي البحيرة وخاصة المياه المالحة".
مثّل جفاف بحيرة ساوة في نيسان/ أبريل تذكيرًا بحالة الطوارئ المناخية في هذا البلد الذي تشح فيه الموارد المائية، والذي يواجه موجات متكررة من الجفاف والتصحر. تعد هذه السنة حرجة بشكل خاص. وقد حذرت وزارة الموارد المائية من أن قلة الأمطار الموسمية وانخفاض منسوب الأنهار أدى إلى جفاف احتياطي المياه بنسبة 60 بالمئة مقارنة بسنة 2021. تنتشر مشاهد الخراب من تربة مستنقعات بلاد ما بين النهرين المتشففة في الجنوب، إلى ظهور مدينة غارقة من العصر البرونزي في خزان الموصل الجاف على نهر دجلة، حتى في الشمال. اجتاحت عشرات العواصف الرملية بغداد وجنوب البلاد في الربيع. ومنذ بداية الصيف، شهدت هذه المناطق موجات حرّ شديدة وصلت حتى 50 درجة مئوية.
ظلت خطة العمل العالمية لمكافحة أزمة المياه، التي وضعت في سنة 2014 وتنص على تشييد استثمارات تناهز قيمتها 180 مليار دولار على مدى عشرين عامًا، مركونةً في الأدراج رغم ازدياد الحاجة على المياه عامًا بعد عام تحت الضغط الديموغرافي. من المنتظر أن ينمو تعداد سكان العراق من 40 إلى 70 مليون نسمة بحلول سنة 2050، ولن تكون هناك موارد مائية كافية. يُقرّ باسم مسعود، المسؤول عن المياه الجوفية بوزارة الموارد المائية، بأنه: "وفق توقعاتنا الأكثر سوداوية، ستصبح البلاد غير صالحة للعيش بحلول سنة 2040". وتقدر الوزارة بأن نهري دجلة والفرات يمكن أن يجفا في وقت مبكر من سنة 2040.
يقول وزير الموارد المائية السابق حسن الجنابي: "لقد حان وقت تغيير نموذج العراق ليحقق انتقاله من دولة غنية بالمياه إلى دولة تعاني من شح المياه. يتوجب علينا تطوير نهج عالمي يستجيب للمتطلبات على المستويين الوطني والإقليمي". ويرى الجنابي أن المشكلة الرئيسية هي "التدخل البشري في الموارد المائية، حيث تم بناء مئة سد وخزان على طول نهري دجلة والفرات ليتم التحكم في كل قطرة ماء" وهذا يعني أن معاناة العراق نتاج المشاريع المائية التي طوّرتها دول المنبع.
إن تركيا، البلد المجاور للعراق ومصدر تدفّق نهري دجلة والفرات، متّهمة بالاستيلاء على المياه من أجل التطوير المكثف لزراعتها. منذ سنة 1970، بنت أنقرة عشرات السدود مع مجموع 22 سدًا في إطار مشروع جنوب شرق الأناضول، بما في ذلك سد إليسو الذي انتهت أشغاله سنة 2018، وهو ما قلل من تدفق مياه نهر دجلة بنسبة 34 بالمئة. من جانبها، بنت سوريا سدّين على نهر الفرات، بينما حوّلت إيران مسار 34 نهرًا كانت تصبّ في نهر دجلة في العراق. ويأسف باسم مسعود لعدم تعاون تركيا وإيران مع العراق في الاقتسام العادل للموارد المائية، مشيرًا إلى أن الثروة المائية خط أحمر مع عدم الرغبة في الدخول في حرب مياه مع هذه البلدان، وهو يعتبر الجفاف أسوأ من الإرهاب.
غادر كبار المزارعين النهر لتطوير مشاريع زراعية في الصحراء، حيث يغطي القمح والشعير ما يقارب 25 ألف هكتار من الأراضي في فصل الشتاء، ويعود الفضل في ذلك إلى الآبار المحفورة في جوف هذه الأراضي القاحلة. وحسب تقديرات اتحاد الفلاحين في المثنى، تم حفر حوالي خمسة آلاف بئر يصل عمق البعض منها إلى 400 متر، معظمها بشكل غير قانوني. مع ذلك، يعتمد عدد قليل من المزارعين تقنيات الري الحديثة، مثل الري بالتنقيط أو الرش الآلي، التي تهدف للتحكم في استهلاك المياه.
في شهر أيار/ مايو، عندما تم الانتهاء من حصاد القمح وتخصيص الأرض لفصل الصيف، عادت المياه إلى السطح في قاع بحيرة ساوة. وعندما أوقفت مصانع الأسمنت الأربعة ومعامل الملح بدورها نشاطها لفصل الصيف، ارتفع منسوب المياه مرة أخرى. ومن بين الاهتمامات البيئية والاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية، تواجه سلطات محافظة المثنى معضلة إغلاق المعامل الملحية، التي يعمل بها العديد من سكان السماوة، وهو ليس خيارًا عندما تكون المحافظة بالفعل واحدة من أكثر المحافظات صعوبة في العراق. معدل الفقر هو 52 بالمئة - ثلاثة أضعاف المعدل الوطني - ومعدل البطالة هو واحد من أعلى المعدلات في البلاد.
أم ميثم ترعى قطيعها بالقرب من الكوفة (العراق)، 8 تموز/ يوليو 2022. |
في الصيف، كانت رائحة الأرز تعطر قرية الكفل على بعد بضعة كيلومترات شمالاً في محافظة بابل. كان صلاح حلوان لا يزال طفلًا عندما بدأ والده بزراعته في التسعينيات على قطعة أرض مساحتها 15 هكتارًا. اليوم، يشير المزارع البالغ من العمر 42 سنة، وهو يرتدي عباءة بيضاء نقية بوجه جاد إلى الحقل الذي حرثه بصبر في الربيع استعدادًا للزراعة، لكن بقيت الشتلات في السقيفة وترك الحقل بورًا: "إنه موسم الأرز، لكن يمكنك أن ترى أنه لا يبدو كذلك على الإطلاق، نحن جاهزون، ننتظر فقط الضوء الأخضر من الحكومة".
في نهاية شهر حزيران/ يونيو، حظرت السلطات هذه الزراعة في جميع أنحاء الوادي الخصب. ويؤكد باسم مسعود، من وزارة الموارد المائية ذلك قائلا: "حظرنا زراعة المحاصيل كثيفة استهلاك المياه مثل الأرز، ولدينا تصاريح محدودة للمحاصيل البديلة مثل الذرة والبرسيم. كانت هناك استثناءات للمزارعين في النجف والديوانية الذين يزرعون بكميات صغيرة مجموعة متنوعة من الأرز العطري - العنبر، ذو القيمة العالية في العراق والشرق الأوسط".
أشار المزارع إلى أن الخيزران بدأ ينمو بشكل كثيف في حقله، حيث سيقوم الغلمان بقطعه وبيعه كعلف للأبقار وتابع متألمًا: "يتعين علينا انتظار موسم الشعير الذي يبدأ في تشرين الثاني/ نوفمبر"، وهنا يظهر أمير وهو فلاح شاب ليضيف: "لم يتبق في القرية سوى البساتين على ضفاف النهر، التي تعاني بدورها من نقص المياه والعواصف الرملية، وسنة تلو الأخرى يقل التين وتموت الأشجار بسبب التصحر وتنتشر الأمراض بسهولة أكبر، وتجفف العواصف الرملية الأشجار. انظروا، بالكاد نلمس التين الذي يسقط!".
من بين الأعيان المجتمعين في غرفة استقبال الشيخ عبد الحميد الفواد، من قبيلة بني حسن، تم العثور على الجاني حيث استنكر أحدهم قائلا: "إن تركيا وإيران تحرمنا من حقنا في الماء، نريد أن يكون صوتنا مسموعا". كما يتهمون البلدين بالرغبة في تدمير الزراعة العراقية لمواصلة تصدير إنتاجهما بأسعار منخفضة ليقاطعه الفواد قائلا: "لا، ليست فقط الحواجز التركية، بل أيضا الإدارة الكارثية للحكومة للمياه، كما أنها ضد المزارعين وتقتلنا بيروقراطيتها، إنه إذلال يومي".
زاد هشام العوضي الذي يعمل بالنهار في دائرة وزارة الصحة في النجف، المدينة المقدسة الواقعة على بعد 30 كيلومترًا التي تستقطب أهم سياحة دينية شيعية، قائلا: "إن نمط حياة أهالي الكفل آخذ في التغيُّر، لأن الزراعة أصبحت أقل إنتاجية ونحن لا نزال في بداية الأزمة". واختتم صلاح حلوان الحديث قائلا: "إذا انخفض تدفق النهر أكثر في السنوات القادمة، سيتم تدمير النشاط الزراعي تمامًا، وإذا لم يعد هناك حقول وتربية للمواشي، فلن يكون هناك أي معنى للعيش هنا".
أضف تعليق