مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

النورس - ابراهيم سليمان نادر

 


 
رصيف (الإسكندرية)، في صيف ما، من عام ما.
نسمة طرية تداعب ملامحي. الريح أشرعتي ومجذافي، وصاريتي حياتي. المركب اليوناني (أنتونيوس) الآتي من (بيروت) يقترب ببطء.
تحط قدماي على الرصيف المكتظ بالناس مثل نورس شارد. أتأبط حقيبتي الجلدية. أكف كثيرة تلوح لي ووجوه تبتسم. أحداق تتألق بفيض من البهجة والحبور، لكني وجدت في النهاية نفسي بلا ظل. لا رفيق يترقبني، ولا حبيب يتلهف لأحضاني. يستعر في ذهني حديث المرأة الزنجية قارئة الفنجان:
ـ لا تبحث عنها يا فتى، وتيقن أنها ستأتي إليك وترقد في أحضانك طول العمر، فاصبر رعاك الله.
كنت أريد أن أصرخ حينها أمام كل البشر وأمام صمت البحر، أمام السحاب المسافر والسحاب المقيم، لكن رجلاً قميئاً اقترب مني وابتسم لي:
ـ (الإسكندرية) منورة بك يا بيه.
كان الرجل يبيع الكعك (السميط) على سلة حيكت بفن يدوي من خوص النخيل. كان شكل الرجل وتركيبه مضحكاً. قلت له:
ـ هل تفكر هي بي، مثلما أفكر أنا بها الآن؟
ـ طبعاً، إزاي يا أستاذ، هو في حد ينسى حبيبو.
أعطيته جنيها، وتناولت قرصاً من (السميط). لم يصدق القميء هذا الكرم الفطري الذي هطل عليه فجأة والذي ما زال يلازمني منذ صباي.
جلست على سور حجري يطل على سيف البحر، أقضم قرص الكعك والقميء قبالتي ينتظر مني شراء المزيد.
ـ الحمد لله على سلامتك يا أستاذ، ربنا يخليك ويخلي (الجو) بتاعك.
قلت له وأنا فرح بما يقول:
ـ (غادة)، اسمها (غادة) يا طيب.
وقال وهو يدس الجنيه في جيب سرواله الفضفاض:
ـ أيوه، ربنا يخلي اللي اسمها إيه............؟ والله نسيت.
ـ (غادة) يا معلم، إنت مش سامع.
تحرك القميء إلى الوراء، وشيء من الغبطة والخوف يدغدغان بدنه النحيل، ثم اختفى مع بنطاله الواسع وغاب وسط الزحام دون جلبة وبلا اعتذار.
بقيت وحدي أردد مع نفسي ما قالته لي قبيل مجيئي إلى (مصر).
ـ إن كنت تحبني فسوف تجدني أمامك في يوم ما.
مشيت على الرصيف ورياح البحر الأبيض تصطفق بقميصي المفتوح على آخره. كنت أفتش عن طفل يقرصني، أو لجة غاضبة تبتلعني وتلفظني لأصحو من جديد.
ربما، لست أدري، فالغيوم البيضاء تتناثر في السماء مثل قطيع خراف يسرح في مرج أخضر. نائم أو مشلول أنا وكيفما أكون. يختلط الحب والكره داخل جمجمتي.
قرب (عروس البحر)، وفي (محطة الرمل) نسيت الكثير من أحزاني، وأنا الطالع من جوف الأرض. ركام هائل لديناصورات بشرية عملاقة يجثم على صدري ويحبس أنفاسي. قررت بسرعة لا تتناسب مع عشقي الأبدي، وجئت إلى (الإسكندرية) نهاية المطاف، أبحث عن فنار ينتشلني من هذه العتمة التي أتوه في طلاسمها. كنت أفكر من أين هطل فوقي شلال الحب؟.
الحنين يدغدغ مساماتي، لكني لا أتمكن من البقاء ليلة واحدة مهما كان سحر المكان الذي أسهر أو أنام فيه، مهما كان نوع اللحم المكشوف والمستور من اللواتي يرقصن في (المنتزه) أو يتسكعن في (العجمي) أو (كليوباترا وسان ستيفانو).
أحلق الآن مع نفسي في أحضان أزقتي وبلاوي طفولتي المعذبة التي أمضيتها في (باب لكش) و(شارع حلب والدواسة والنبي يونس).
في الطريق الزراعي إلى (القاهرة) أو (مصر) كما يسمونها هم، أربكني الحنين. قطعت مسافات شاسعة وذكريات والأشجار ما تزال تفر إلى الوراء بسرعة. السيجارة التي سميتها أحرقت مسافة الطريق. أبتسم وأعاند هذا الدمع الطالع من غضون الروح. أخفي وجهي خشية أن يراني أحد. أغلق فمي وأسدل الستار على ملامحي المتجهمة، لكن طيفها يظل يلاحقني وأنا أتحسس بأناملي مسامات ثوبها الأسود المنقط بالبياض وشعرها المنثور على الكتفين.
لحظة من الزمن الغارب شعرت فيها كم هي كاذبة تلك الملابس فوق جلدي. لم يبق من الطريق غير نصف المسافة، ألج بعدها إلى صخب المدينة وينتهي كل شيء. تمنيت وقتها لو كان معي برميل من (عرق بيت الأحزان أو بيت عشيقا) أخلطه بدمعي وأسكر به حتى لا أفيق طول العمر.
لا شيء معي أخشى عليه سوى حقيبة جلدية مثلومة الحواش. أغرق في ضباب الأحداق، وأحاول كسر الحروف عساها تصيب شغاف قلبي لأفهم كيف تكون نهايتي، ومن أجل من؟
جسد تائه يحتمي بقناع الزيف، عرق يتصبب من جسدي، ربما يسامرني أو يمحو اسمي من لائحة التضاريس أو الأحداث.
لم يبق بيني وبين (القاهرة) غير احتضار الشفق خلف (الأهرامات وأبي الهول). كنت أتمنى أن تكون هناك غصة أو خفقة بصيص من ضوء حين ولجت (الزمالك)، لكن بريق الرغبة فر مني وسقط في (النيل). ما هذا الهراء الذي دخلته بقدمي وتخطيت عتبته الضيقة الطافحة بالأوجاع. إني أرى في كل لجة من ذاك النهر خطوة إلى كون غامض. تحسست دمعة تنحدر على خدي وأنا أعاند نفسي وأرفض النوم.
يأخذني سحر (القاهرة) في الليل، برغم المسافة التي قطعتها، إلى طفولتي وتنور ذكرياتي، إلى مدرسة (النجاح) ومقام (ابن الحسن) وعصا (الملاية حليمة) وخربة (الجامع المهدود) و(عيبو المجنون وحمام أعبيد آغا) وطقوس (قنطرة الجان وعزيز ماكر) فأبكي حياتي وأصمت مثل طفل يريد أن ينام.
الساعة العاشرة ليلاً ومعي حقيبتي الصغيرة ودموع مؤجلة وأنا ضال مرة أخرى في ميدان (سليمان باشا).
أنصهر في زحام الناس موقناً بأني لا أملك القدرة على الفرار. لم أدع حقيبتي تفلت من يدي. لكني نزلت مع دموعي المؤجلة في (فندق أمية). نظرت إلى الخلف لأسمع صوت الحياة، كانت سيدة بدينة تربت برفق على كتفي:
ـ من فضلك، يا أستاذ.
تحركت أنا والحقيبة في آن واحد، لكن طيف فتاتي ظل يلاحقني. يالروعة قدها المياس وهي تنثر البسمة الطرية واللحن الجميل على مستطيلات كبيرة، بيض وسود. فرح عذب ونشوة طفولية لا أدري كيف تسربتا إلى جسدي، ومن أية مساحة. شيء يتوغل ليعشش في عقلي حتى صار قطعة من جسدي. يتغذى معي ويرقد بجانبي.
هاجسي يرجني ويهتف بي (أيها السندباد الموصلي، كيف قطعت البحر وعبرت تخوم البر وأنت النورس القطني الوحيد).
طيفها الآن يهمس في غشاء أذني (سيأتي النورس الأبيض الجميل إليك، سيأتي حتماً). هنا بالذات بكيت مع (فريد) ومن (أول همسة) تسربت إلى أذناي. في هذه المدينة التي يسمونها (مصر)، أشعر بنفسي غريقاً في جوف الحوت. هي معجزة فعلاً أن أراها الآن بنفسي وألمسها بكفي. لم أصدق ما قاله القبطان البدين لي، لكني ما زلت أتذوق طعم حديثه بشفاه يابسة. كان القبطان أصلع، يمسد هامته الصقيلة بين موجة وموجة. وقتها قال لي باسماً:
ـ هل رأيت جنية البحر يا سندباد؟.
ـ كلا.
ـ اذهب هناك، إنها الآن تتعرى أمام الأحداق.
صحوت بعدها على ارتطام موج صاخب جميل. أقنع نفسي الآن بما لا يمكن إقناعي. كم أنت فواح أيها العشب السماوي؟‍ وطري هذا النسيم الهاب من أقصى الشمال؟‍! بقيت عليلاً قرب ضفة (النيل)، أقعد على داء لا دواء لـه. صرعت في روحي وعقلي كل ما أملك من ردود الفعل الصحيحة، واقتربت من حالة اللاعقل، ثم رحت أبكي وأنا شارد مثل نورس مفزوع بين السماء والماء، لا أحد يدري أو يحس بي، وليس من أحد يفهم لوعتي. هبطت على هامتي كل أطلال الماضي، وذكريات من الزمن الظريف.
خزانة عقلي محشوة الآن بكل ما هو عذب عنها.
أتمنى شيئاً في القلب لا يقال. أجلس بعض الوقت على سلالم (كوبري قصر النيل) حيث العشاق والمراهقون وأشهى ما خلق الله من نساء يتقن كل فنون الحب. لا حل ولا نجاة من حيرتي، إلا أن أتأبط حقيبتي المثلومة وأقفل عائداً إلى (بيروت) حيث شراع النصف الآخر من الزورق، الذي بات يضم بقايا نتفي المتناثرة.
أصل إلى الضفة الأخرى واغرس بيرقي.
يتحدث الصمت معي باكياً.
لقد حلّق الظل إلى بحور أخرى وملّ الانتظار، وربما إلى بحور بلا ضفاف ولا زرقة.
يعود النورس القطني الجميل، يرفّ صامتاً كعادته ويغيب في عمق البحر، حيث الزرقة بلا ضفاف أو ظل، ثم يتلاشى في الأفق البعيد. 

 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.