السبت، 28 يناير 2023

الاستشراق الفني المبكر وأهم عوامله المؤثرة - هالة صلاح

 


شكَّل الاستشراق الفنّي من خلال إسبانيا (الأندلس) ميداناً فسيحاً بما احتوته من الفنِّ العربي الإسلامي، سواء فيما عُرف بـ(الفنون الكبرى) التي تُمثِّل فنّ العمارة، وكذلك (الفنون الصغرى) التي تُمثِّل منتجات الفنون التطبيقيَّة، إضافة إلى فن تصوير المخطوطات.
 
وترجع أهمية إسبانيا في ميدان الاستشراق الفنّي المبكر إلى عاملين؛ العامل الزمني، حيث إنَّها مثَّلت الوجود الحضاري الإسلامي فترة زمنية طويلة من عام ( 711م) إلى عام (1492م)، وهي فترة كافية  للتأثير الفنّي، فضلاً عن أنَّها تميَّزت خلال تلك الفترة بالاستقلال السياسي، الذي تحقَّق في ظله اندماج العرب المسلمين مع أصحاب الديانات الأخرى بصورةٍ متفاعلةٍ، أثَّرت في النتاج الفني المشترك بين الشرق والغرب،  ويعلق بعض المؤرِّخين: (إن هذا التأثير لم ينقطع بفعل من حملوا تيار الحضارة العربيَّة فيما بعد)؛ أي بعد خروج العرب من إسبانيا، ومازالت حتى الآن تحتفظ بطابعها العربي الإسلامي، سواء في شكلها الفني أو تراثها الأدبي الموروث عن العرب المسلمين.فريدريك لوسي نوردن
 
أمَّا العامل الثاني، فهو العامل الجغرافي والذي يتمثَّل في ارتباط أوروبا الوثيق بإسبانيا بحكم موقعها الجغرافي، فمنذ العصور الوسطى سهَّل هذا الموقع المتاخم للإمبراطورية الرومانيَّة في الغرب من وصول المستعربين إلى شمالها.
 
ولقد ظهرت الملامح الفنيَّة الإسلاميَّة المبكرة في أعمال كثير من المصورين، الذين تأثَّروا بالبيئة الإسبانيَّة بما احتوته من آثار معمارية وفنون المصنوعات الإسلاميَّة، فضلاً عمَّا تناولته الموضوعات التاريخيَّة بين العرب وأوروبا سواء أعمال فن التصوير أو فنون الأدب.
تطالعنا على سبيل المثال أعمال المصور الاسباني (فرانثيسكو دي غويا) Francisco de Goya (1746ـ 1828م) بهذا التأثير الشرقي، وقد استمر هذا التأثير بشكل واضح في أعمال المصور الفرنسي (هنري ماتيس) Henri Matisse (1869ـ 1954م)، إذ يقول: (إنَّني ما كنت أصل إلى ما وصلت إليه إلَّا بعد أن درست الفنون الإسلاميَّة في الأندلس).
كما صرحت (جيروترود شتاين)  Gertrude Stein (1874 ـ 1946م) الأديبة الأمريكية وجامعة التحف الفنيَّة عن فنّ المصور الإسباني (بابلو بيكاسو)  Pablo Picasso (1881ـ 1973م)، قائلة: (إن أحسن مراحل بيكاسو الفنيَّة، هي المرحلة التي تأثَّر فيها بالفنِّ الإسلامي في الأندلس، وليس عجباً، فبيكاسو إسباني، والإسبان عرب..).
 

وكان لحركة الاتصال الدائبة بين الشرق والغرب في صورها العديدة، أثرها في نموِّ النشاط الاستشراقي ووصول مؤثراته الفنيَّة الشرقيَّة إلى الفنِّ الأوروبي في وقتٍ مبكر، عن طريق تجارة التحف والمنسوجات والمخطوطات وغيرها من مصادر الرؤية الفنيَّة الشرقيَّة، إلى جانب الكثير من الحرف الفنيَّة بما عكسته من طرق الصياغة والتقنية، علاوة على ذلك فإنَّ البعثات والرحلات الأوروبيَّة التي بدأت على الأخصِّ فيما بعد عصر النهضة، أسهمت في نقل الكثير من المعلومات المتعلقة بالفنون الشرقيَّة وطابع حياة مجتمعاتها.  ومع أنَّ الدور المباشر لهذا الاتصال فنيّاً حتى القرن الثامن عشر، لم تتحدَّد شخصيته، إلَّا أنَّه ظلّ واضحاً في بعض أعمال المصورين، أو الفنانين الذين ارتادوا الشرق في أسفارهم بصورةٍ فرديةٍ.
كما تبادل حكام المسلمين وملوك أوروبا كثيراً من البعثات والسفارات على مدى زمني في ظلِّ علاقاتهم الودية، ومع أنَّ أكثر هذه البعثات أخذت طابعاً علمياً وتجاريّاً منذ عهد العباسيين حتى حكام المماليك، إلَّا أنَّها لم تخل من أثر فنّي متبادل، وصار منها ما تعلَّق بالناحية الفنيَّة بصورةٍ مباشرةٍ.
 

وأسهمت كُلّ من الرحلات الكشفية، وأسفار الرحالة إلى الشرق بين الحين والآخر في إعداد دراسات متعلقة بآثار وفنون هذه الأقطار، وإذا كانت هذه الدراسات حملت معالم الحضارة وطابع المجتمع الشرقي إلى أوروبا، وكان ذلك مساهمة مبكرة في نموِّ الاستشراق الفنَّي، فإنَّه كانت هناك بجانب ذلك محصلة فنيَّة خاصة بإبداع ملكاتهم الفنيَّة الخاصَّة بها والتي تنوَّعت ما بين لوحات مائية، وزيتية، ومحفورة، ورسومات تخطيطية، لها طابعها الجمالي والمبسط لتلك المؤثرات الفنيَّة الشرقيَّة، فعلى سبيل المثال، ومنذ وقت مبكر نلحظ هذا التأثير في مجموعة الرسوم التخطيطية التي أعدَّها كُلّ من الرحالة (برنارد فون بريدنباخ)Bernard Von Breydenbach (1440ـ 1497م)، والرحالة الألماني (أرنولد فون هارف)  Arnold von Harff  (1471 ـ 1505م)، حيث تُعد لوحاتهما ذات قيمة فنيَّة، من حيث إبرازها مواضع الاختلاف بين الملابس الأوروبيَّة والملابس العربيَّة في العصر المملوكي.
 

ومن أقدم المحاولات الاستشراقيَّة للرحالة ذات الطابع العلمي الأثري، تلك التي قام بها الرحالة الإيطالي  (بيترو ديللا فاليه)  Pietro Della Valle (1586 ـ 1652م)، وهو يُعد من أوائل الأوروبيين الذين قاموا بأسفار شاسعة إلى الشرق الأدنى، حيث حمل معه لأوروبا أوَّل رسم كشف عن مومياء أُخرجت من جبانة (سقارة) عام (1615م).
وإضافة إلى ذلك، فإنَّ كثيراً من رحلات الكشف الإفريقيَّة، خصوصاً في القرنين السَّابع عشر والثامن عشر نقلت الكثير من ملامح وآثار هذه القارة. وتطالعنا الدراسات الفنيَّة لهذه الرحلات بهذا الأثر الاستشراقي، الذي ارتبط في كثير من الأحيان بمصر، حيث كانت تُمثِّل محور تحرُّكاتهم إلى قلب إفريقيا عن طريق نهر النيل أو البحر الأحمر.
ويبدو هذا واضحاً في ما أخرجه الرحالة الدنماركى (فريدريك لويس نوردن)  Frederic Louis Norden (1708-1742م) من رسوم سجلت النقوش الخاصة بالآثار في منطقة (فيلة) عام (1737م)، كما قدَّم الرحالة الأسكتلندي (جيمس بروس) ( James Bruce 1730 ـ 1794م)، رسوماً دقيقة للآثار الرومانيَّة شمالي إفريقيا، وقدم دراسات فنية لنهر النيل وأسوان، في عام (1763م).
الشارقة الثقافية
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمكنك التعليق هنا