الأحد، 29 يناير 2023

عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق ابان العشرينيات من القرن العشرين : أسئلة حائرة عن انتحاره الغريب ! أ.د. سيّار الجميل

 

عبد المحسن السعدون ؛ 1879-13 نوفمبر/ تشرين الثاني  1929م . كان سياسيًا عراقيًا شغل منصب رئيس وزراء العراق أربع مرات بين عامي 1922 - 1929. ينحدر من عائلة آل السعدون الشهيرة ، وكانت أقوى قبيلة في كونفدرالية المنتفق. في منتصف القرن 19 ( راجع كتب المؤرخة البرتين جويدة في كندا  والمؤرخ  حميد السعدون في العراق ). هذا الاسم الذي خلّده تمثاله والشارع الذي سمّي باسمه في قلب بغداد  . وكانت للرجل شخصيته الوطنية  وكرامته السياسية واخلاقياته العليا  مثل اغلب اقرانه ورصفائه من رجالات العراق الاوائل.
السياسة البريطانية
انتزعت بريطانيا العظمى العراق من العثمانيين الاتحاديين طوال الحرب العالمية الأولى ، واتبعت سياسة جديدة ازاء المجتمع العراقي الذي  تنوعت مشكلاته وغدت اشبه بمعضلات يصعب حلها  ، فاخذ البريطانيون يغدقون بموجبها الامتيازات السياسية والاقتصادية والليرات الذهبية على زعماء القبائل ، فمن أيد الوجود البريطاني أبقته في السلطة  السياسية والاجتماعية  واغدقت عليه ، ومن لم يؤيدها من شيوخ العرب ، جرّدته من الحكم  والسلطة والنفوذ واستعدت غيره عليه! وكانت قبيلة آل السعدون واحدةً  لها استثناءاتها ، اذ جردتهم من نفوذهم السياسي القديم كما هو حال آل الرشيد في حائل وغيرها  ، ولكن ابقت مصالح آل السعدون على غرار كثيرين، اذ كانوا يحصلون باستمرار على مقاعد في البرلمان مقابل الولاء ولكن على مضض ، خصوصا وان النفوذ السياسي القبلي هو غير النفوذ الاجتماعي ، في حين كان العديد من زعماء القبائل قد والوا بريطانيا فمنحتهم سلطة المقاطعات في المظهر ولكنهم يسيرون في  الركب البريطاني وحسبما تريد بريطانيا . بالنسبة الى آل السعدون بدوا وهم الذين يعتقدون بانهم "سادة"  قد انحدروا من سلالة النبي محمد لا يتقبلون الاوامر والنواهي البريطانية  وتمثّل ذلك بشاب مثقف منهم اسمه عبد المحسن الذي كان قد توسعّت مداركه الفكرية والسياسية في الأكاديمية العسكرية في العاصمة اسطنبول. اذ خدم الرجل كضابط عسكري أثناء السيطرة العثمانية على البلاد ، وخدم في قصر السلطان عبد الحميد الثاني ، وغدا عضواً في مجلس المبعوثان العثماني لمدة عشر سنوات. بعد ذلك عاد إلى العراق وشرع في العمل السياسي كسياسي له هالته  الاجتماعية والسياسية معا . ( للتوسع ، انظر : لطفي جعفر فرج في اطروحته عن عبد المحسن السعدون ) . 
سياسة عبد المحسن السعدون
كان عبد المحسن السعدون سياسيًا حاذقًا  بما له من رصيد من العلاقات القبلية والبريطانية (واتضح ذلك من خلال نفوذه على تحالف بين الرجال المصلحين في البرلمان ). وقد كانت ثقافته المدنية وسلوكه السياسي قد جعلاه أحد ألد خصوم العراق، اذ كان توفيقيا بين ما يريده العراقيين وما يتطلبه الانكليز حيث عمل في أحيان كثيرة كأداة للسيطرة البريطانية على المصالح العراقية التي كان الملك فيصل يحاول السعي من وراء تحقيقها . وكرئيس للوزراء في عام 1923 ، قام بقمع حركة سياسية تدعو إلى مقاطعة انتخابات الجمعية التأسيسية. فكان رئيسًا للجمعية التأسيسية عام 1924.- كما يقول المؤرخ حنا بطاطو - ثم في عام 1926 أكد على المرور السلس لمعاهدة الانكلو عراقية الثانية على الرغم من تضمينها اتفاقية مالية وعسكرية غير متكافئة لمدة خمسة وعشرين عامًا بين العراق وبريطانيا. وانتخب رئيساً لمجلس النواب بين عامي 1926 - 1928 ثم  عام 1929. ويبدو انه كان يعاني من صراع نفسي قاتل ، فهو  رهين التناقض بين الوطنية والتبعية ، وهو رهين بين  الحداثة التركية الممثلة بزوجته التركية وبين  تقاليده العربية التقليدية المتوارثة ، وهو رهين  بين  ارادة الفرقاء  السياسيين  وارادة الشعب الذي  يتطلع الى الاستقلال  تحت عرش فيصل .
خلال تلك المرحلة من زمن ولايته الثالثة كرئيس للوزراء ، تفاوض عبد المحسن السعدون أيضًا على المعاهدة التركية العراقية التي وعد العراق بموجبها بدفع لتركيا 10 % من عائداته من حقول نفط الموصل مقابل اعتراف تركيا يعراقية المنطقة. وبهذه الطريقة ، ساهم بشكل كبير في جهود العراق الدبلوماسية. ومع ذلك ، بحلول كانون الأول (ديسمبر) 1928 ، أصبح الاحتجاج الشعبي ضد الهيمنة البريطانية على العراق شديد المراس سياسيا  (أو ربما اعترض السعدون على رفض بريطانيا منح العراق السيطرة على قواته المسلحة) لدرجة أنه بدأ في دعم الملك فيصل الأول في المطالبة بالمزيد من الاستقلالية. فاستقال احتجاجًا في يناير 1929.
قصة موته منتحرا
تعد مذكرات عبد العزيز القصاب، اوثق مصدر عراقي يحكي قصة انتحار السعدون اثناء ولايته الرابعة. وقد مات متأثراً بجراحه التي أصابته برصاصة في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1929.وعدّ انتحاره نتيجة للنقد الساخط الذي تلقاه من الشعب العراقي، وبالتالي من المجتمع البريطاني والدولي بسبب "عدم ولائه"! وقد ترك وراءه رسالة ( أو : وصية ) كتبها (باللغة التركية) موجهة لابنه علي يخبره فيها باختصار خبر انتحاره . وقد جاء فيها "لقد عانيت بحمل من كل الإهانات والازدراء الممكنة".   طوال خمسين سنة مرت على دراستي لهذا " الحدث " ، كنت اشكك في انتحاره ، وكنت معتقدا ان البريطانيين هم من اجهزوا عليه وقتلوه ، ولفقوا تهمة الانتحار له، ولكن بعد قراءتي الكثير من الاوراق والمستندات والوثائق  الخاصة بتاريخ العراق المعاصر انتهيت الى رؤية  اخرى.
 الرؤية من خلال الاستنتاجات التاريخية
1/ غادر عبدالمحسن مضارب قبيلته  منذ صغره  وقبل تمكنه من قراءة العربية التي درسها بدائيا في الكتاتيب اسوة بالاخرين ، اذ راح نحو العاصمة اسطنبول ليتمرس على اللغة التركية ، ويتثقف  بثقافة عليا وتخرج ضابطا وظل هناك يتكلمها من دون العربية الأم طوال ثلاثين عاما تقريبا . وحين عاد للعراق بعد الاحتلال البريطاني كان مخزونه من الكلمات العربية يقتصر على ما رسخ في ذاكرته من  مفردات لهجته المنتفجية القبلية. قال لي  الصديق المؤرخ  خالد السعدون : " فلا عجب لذلك ان يلجأ للتركية للتعبير عن مشاعره ساعة محنته "  !  .
2/ كانت حياته الاسرية في اسطنبول سعيدة جدا مع زوجته التركية ، ولكنها انقلبت بعد عودته لبغداد جحيما بسبب عدم توافق مزاجها مع البيئة العراقية فضلا عن كونها  سليلة طبقة ارستقراطية استانبولبة ، ولم تستطع التكيف مع المجتمع العراقي الذي اتى بها زوجها اليه  ونقرأ  في العديد من المراجع بأن اكثر ما كان يزعجها توافد ابناء اسرته العربية ومشايخ قبيلته على منزلها بما فيهم من بداوة وعدم معرفة لأتكيت الحياة المدنية . ويضاف الى ذلك ابتلائها بهلوسة او وسواس النظافة اكثر مما يجب اذ كان يجعلها تصرخ بوجه زوجها  بعبارة ( بيس عرب ) كلما حل عليه أحد منهم اذ كان مركزه جاذبا لهم  . هذه الوضعية القاسية والمؤذية اتعبته نفسيا وسحقت اعصابه المرهفة  ، فكان يبتعد عن منزله ليمضي جل نهاره في عمله وجل مسائه في النادي .
3/ من خلال دراسة حالة زوجته يبدو واضحا انها كانت تعاني من الكآبة  الشديدة  او  انها كانت تعاني من السايكوباثيا ، مما أثّر على طبيعة عقلها وتفكيرها  فبدت بتلك الاعراض من الهياج والصياح . اي انها كانت تعاني  من امراض نفسية معقدة فاحالت بيتها الى جحيم  ، وقد أثرّ ذلك كله على زوجها ، فعاش معاناة صامتة فهو ليس باستطاعته علاجها، وبنفس الوقت لا يمكن ان يعلن عن همومه للاخرين  وحتى ان كانوا من اقرب المقربين اليه ! .
4/ ان السعدون نفسه، كان يعاني من ضعف عصبي  لكثرة الضغوطات الاجتماعية اولا ثم السياسية ثانيا  ، فضلا عن  الجحيم الذي  عاشه رفقة زوجته التي أحبها ، وقد تأكدت ان العديد من ابناء وبنات هذه الاسرة الكبيرة من آل السعدون  كانوا يعانون من تعب في الاعصاب  والاصابة ببعض العاهات الوراثية بفعل زيجاتهم في ما بينهم  منذ زمن طويل !
5/ ان الرجل نفسه ، كان يعيش  تناقضا  رهيبا  مع نفسه ، فهو يحيا في صراع  قبلي حداثوي  ، اذ ترك العراق وهو ابن عشر سنوات  ليصدم بالتأورب  وينشأ  على ذلك  ثم يعود الى  بيئته وهو ابن قبيلة ، فتصوروا  حجم الصراع والتمزق الفكري  الذي  امتلأ  به ، مما اثّر  على توازنه وطبيعته  .
6/ بدا واضحا من خلال تتبع نهجه واسلوبه في الحياة  ، استقامته وحسن تعامله ومصداقيته في القول والفعل  مع صراحة متناهية ووضوحه .. وهذه النوعية من البشر ، لا يمكنها الانسجام مع بيئة سياسية مغرقة بالنفاق والمواربات والالتواءات والمكائد والمؤامرات والدسائس التي اجاد صنعها بقية الساسة من العراقيين ، فكان اليأس  يكبر  عنده الى الحد الذي  دفعه الى وضع حد  لحياته في نهاية مريرة .
7/  السؤال المحير : لماذا كتب وصيته قبل انتحاره باللغة التركية ؟ لا اعتقد انه كان لا يجيد العربية ، والا كيف تقلد رئاسة الوزارة العراقية لأكثر من مرة  ؟  ولكنه اراد ان يرضي زوجته حتى في اللحظة الاخيرة من حياته !  فهل انتحر خلاصا منها  ام من الانكليز ام من العراقيين ؟
8/ بعد ان اسدل الستار على نهايته المريرة ، اصبحت ارملته التركية متفردة في شؤون اسرته اثر غيابه ،  فدخلت في سلسلة من المشكلات باختيارها زوجا لابنتها  لم يوافق عليه آل السعدون مما قاد أحد آل السعدون الى قتله  وهو المتصرف والوزير المعروف عبد الله الصانع  الذي  انتهى نهاية  تراجيدية مريرة أخرى بسبب  اصرار  ارملة السعدون  لزواج ابنتها منه  ورفض  شيوخ الاسرة السعدونية في العراق له وقد اقتحم  أحدهم مكتبه وقتله . .
 وأخيرا : تبقى الاسئلة حائرة
تبقى الاسئلة حائرة تبحث لها عن أجوبة حقيقية  :  هل مات السعدون مقتولا ام منتحرا ؟  وهل انتحر لاسباب سياسية ازاء تعنت الانكليز؟ أم جراء ضغوطات اجتماعية عراقية لم يقاومها ؟ أم خلاصا من جحيم نفسي عائلي عانى منه؟  لعل المستقبل يكشف عن معلومات مؤكدة تجيب على ذلك .  لقد ضجّـت بغداد بعد انتحار السعدون  وحزن العراق عليه بشدة .. وشيعه العراقيون رحمه الله تشييعا رسميا وشعبيا  ..  ثم  اقيم له تمثالا شهيرا في مدخل الشارع الذي  سمي باسمه  ( شارع السعدون ) في قلب بغداد.  واثر الاحتلال الاميركي للعراق 2003 ، سرق تمثاله الاصلي وبقي مسروقا من دون معرفة الجهة التي قامت بسرقته ، وقد انتصب التمثال ثانية اسوة بما جرى ببقية  رموز بغداد  ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمكنك التعليق هنا