الجمعة، 3 فبراير 2023

ما هُوَ الشِّعْرُ؟ أ. د. لطفي منصور

 



سَأَلَتْني صَديقَةٌ مُبْدِعَةٌ تَكْتُبُ عَلَى الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبوتِيَّةِ:
ما هُوَ الشِّعْرُ؟ وَماهُوَ تَعْرِيفُهُ؟
قَدْ تَناوَلْتُ هذا الْمَوْضُوعَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ عَلَى صَفْحَتِي هَذِهِ.
سَأُحاوِلُ هُنا أَنْ أَبْسُطَ الْمَوْضُوعَ أَكْثَرَ فَأَقُولَ:
الشِّعْرُ بِالْعَرَبٍيَّةِ هُوَ مَصْدَرُ شَعَرَ يَشْعُرُ شِعْرًا أَيْ عَلِمَ، وَلَمّا دَخَلَتْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَلْ التَّعْريفِ أَصْبَحَ اسْمًا. الشّاعِرُ هُوَ الْعالِمُ. نَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي أَيُ لَيْتَني عالِمٌ.
أَمّا مِنْ ناحِيَةِ الِاصْطِلاحِ فَهُوَ فَنُّ الْكَلامِ كَباقي الْفُنُونُ الْأُخْرَى وَهِيَ الْموسِيقا وَالرَّسْمُ وَالْعَمارَةُ وَالنَّحْتُ وَغَيْرُها.
الْحَقِيقَةُ أَنَّهُ مِنَ الصَّعْبِ تَعِرِيفُ الشِّعْرِ لِأَنَّهُ فَنٌّ، فَمَهْما حاوَلْنا تَعْرِيفَهُ سَيَبْقَى تَعْرِيفُنا ناقِصًا، تَمامًا إذا حاوَلْنا تَعْرِيف الرَّسْمِ أوِ الْموسِيقا.
وَإذا قُلْنا إنَّهُ فَنٌّ فَلا نَقُلْ إنَّهُ مِهْنَةٌ وَصِناعَةٌ. حَتَّى لُوْ كانَ عِنْدَنا كِتابُ الصِّناعَتَيْنِ لِأَبِي هِلالٍ الْعَسْكَرِيِّ، لِأَنَّ أَبا هِلالٍ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ صِناعَةَ الشَّعْرِ، وَالنَّثْرِ الْفَنِّي كَالنِّجارَةِ وَالْحِدادَةِ وَهُما مِهْنَتانِ ، وَإنَّما ذَهَبَ إلى الْفَنِّ.
الْفَنُّ يُولَدُ مَعَ الْإنْسانِ . وَمَعْنَى هَذا أَنَّ الْإنْسانَ يُولَدُ مَعَ قَابِلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فَنّانًا، شاعِرًا أوْ مُوسيقِيًّا أَوْ رَسّامًا أَوْ رَقّاصًا.
وَهَؤُلاءِ الْفَنّانُونَ قِلَّةٌ قَليلَةٌ بَيْنَ النَّاسِ. وَالْعَيْبُ أَنْ يفْرِضَ الْإنْسانُ الَّذِي لا يَمْلِكُ مَلَكَةَ نَفْسَهُ عَلَى الْفَنِّ كَالشِّعْرِ مَثَلًا.
هُناكَ فَرْقٌُ كَبيرٌ بَيْنَ النَّظْمِ الْمَصْنُوعِ وَبَيْنَ الشِّعْرِ الْحَقِيقيِّ.
الْمَنْظُومُ أَنْ تَنْظُمَ كَلامًا بِمُساعَدَةِ مُعْجَمٍ وُضِعَ لِلْقَوافي وَتَأْتِي بِكَلامٍ بارِدٍ لا حَرارَةَ فٍيهِ وَتَقُولُ هَذا شِعْرٌ.
لا. لَيْسَ هَذا شِعْرًا إنَّما هُوَ نَظْمٌ يُولَدُ مَيْتًا، وَلَيْسَ لَهُ خُلودٌ أوْ بَقاءٌ.
الشِّعْرُ الْأَصِيلُ الْحَقيقِيُّ يَجِبُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيهِ الْمَيِّزاتُ التّالِيَةُ:
- أنْ يَكُونَ صادِرًا عَنْ تَجْرِبَةٍ أَثَّرَتْ في نَفْسِ الشّاعِرِ فَأَوْحَتْ لَهُ عَنْ طَرِيقِ الْإيقاعِ الصَّوْتِي أَيْ غَنّاها في نَفْسِهِ، مُسْتَعْمِلًا الْمَجازَ وَالِاسْتِعاراتِ وَمُدُرِكًا ماهِيَّةَ الْحَياةِ وَالْأَشْياءِ إدْراكًا لا يُوحِي بِهِ النَّثْرُ الْإخْبارِيُّ.
- الصُّورَةُ الشِّعْرِيَّةُ: الشِّعْرُ هُوَ رَسْمٌ بِالْكَلِماتِ يَعْلُو أَحْيانًا عَلَى الصُّوَرِ الْمَرْسُومَةِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: مِنَ الطَّويل
وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ في وُكُناتِها
بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الْأَوابِدِ هَيْكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا
كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وَقالَ الْمُتَنَبِّي يُصَوِّرُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ في مَعْرَكَةٍ مَعَ الرُّومِ: مَنَ الطَّويلِ
وَقَفْتَ وَما في الْمَوْتِ شَكٌّ لِواقِفٍ
كَأَنَّكَ في جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ
نائِمً
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطالُ كَلْمَى هَزِيمَةً
وَوَجْهُكَ وَضّاحٌ وَثَغْرُكَ باسِمُ
هُنا إعْجازٌ شِعْرِيٌّ في الصُّورَتَيْنِ. اُمْرُؤ الْقَيْسِ صَوَّرَ حِصانَهُ بِعِدَّةِ صُوَرٍ يَعْجَزُ الرَّسامُ عنها. صَوَّرَهُ بِأرْبَعِ حَرَكاتٍ، والرَّسّامُ لا يُعْطيكَ إلّا مَوْقِفًا واحِدًا. وَهُوّ قَيْدُ الْأوابِدِ يَدْرِكُها فَيُصْبِحُ لَها كَالٌقَيْدِ، ثُمَّ شَبَّهَ سُرْعَتَهُ بِصَخْرَةٍ كَبيرةٍ تَنْحَدِرُ مِنْ أعْلَى الجَبَلِ.
أمَّ الْمُتَنَبِّي فَتَعْجَزُ كَمْرَة الفيدْيو في تَصْويرِ الْحَدَثِ.
- الْجَرْسُ الموسيقي. لَيْسَ بِالوَزْنِ والقافِيَةِ فُحَسْبُ. بَلُ وَسْوَسَةُ الْكَلِماتِ كَوَسْوَسَةِ الْحُلَى  الذَّهَبِيَّةِ.
- الْخَيالُ الْمُصَوِّرُ لا العاطِفِي.
لا يَجوزُ أنْ يَخْلو الشِّعْرُ مِنَ الْخَيالِ .
- انتِقاءُ الْكَلِماتِ الفصيحَةِ السَّهْلَةِ الْخَفيفَةِ عَلَى الْأُذُنِ لا يَمَلُ السّامِعُ الْإصغاءِ لَها.
لَيْسَ الْمَطْلوبُ مِنّا أَنْ نَلْتَزِمَ بِبُحُورِ الخليلِ . هَذِهِ الْأَوزانُ كانَتْ تُلائِمُ الماضِيَ السَّحيقَ، وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْها الْأنْدَلُسِيُّونَ، وَشُعَراؤُنا الْأَفْذاذُ يَحِقُّ لَهُمُ الِابْتِكارُ. حَياتُنا اليَوْمَ لا تُشْبِهُ حَيّاةَ الماضِينَ، وَحاجاتُنا تختَلِفُ وَإمْكانِيّاتُنا هائِلَةٌ.
قَبْلَ الْخٍتامِ أَهْمٍسُ بِآذانِ شُعَرائِنا: أصْبَحَ الٌقِسْمُ الْكَبيرُ مِنْكُمُ تَدورونَ حَوْلَ أَنْفِسِكُمُ كَإسْطِوانَةِ أُغَنِيَةِ تَدورُ وَتَدورُ دونَ تَجْديدٍ تُعيدونَ ما تَقولونَ. عليكم بالتَّجْديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمكنك التعليق هنا