مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

ما الذي سبب قيام الثورة الصناعية؟ وما الذي جعلها تسود؟ وما هي أسباب أفولها؟ وما هي مظاهر احتضارها؟ محمد الجلايدي - القنيطرة - المغرب

 
كانت الحركة الصناعية فيضانا في التاريخ استمر ثلاثة قرون قصيرة. قامت وسادت لأسباب وعوامل، تفاعلت في شكل تيارات لتلتقي في نقطة واحدة. ومن بين هذه التيارات الأساسية:-اكتشاف العالم الجديد الذي أدى إلى بث نبض قوي في الثقافة والاقتصاد الأوروبيين، قبل قيام الثورة الصناعية بوقت قصير-شجع النمو السكاني على الانتقال والهجرة إلى المدن-استغلال الغابات الذي حث على استغلال الفحم الحجري- ثم اختراع المحرك البخاري لاستخدامه في الضخ لإفراغ المنجم من المياه، بدلا من استخدام المضخة التي يشغلها الحصان-الانتشار التدريجي لأفكار الواقعية الصناعية، التي بلورت التحدي للكنيسة والسلطة السياسية في المجتمع الزراعي-انتشار التعليم الجماهيري- تطور وسائل الإعلام الجماهيري، ووسائل النقل والطرق..وهو مايعني أن الثورة الصناعية لم تكن نتاج سبب واحد مسيطر.
والإسفين الخفي، كناظم إيقاع هو:-الطلاق بين الإنتاج والاستهلاك. هذا الإسفين أفرز النظام المالي الجديد بؤسساته المصرفية، وطور التخطيط البيروقراطي وعملياته. كما أفرز هذا الطلاق ضغوطات لإيجاد مبادىء «المعايرة» والتخصص و«المزامنة» و«المركزية».
«إذن، مهما قدرنا أهمية القوى العديدة التي أطلقت عنان الموجة الثانية، فلابد أن شطر الذرة القديمة (الإنتاج—-><—-الاستهلاك) قد ولّد هذه القوى، إذ ما تزال موجات الصدمة الناتجة عن ذلك الشطر ماثلة حتى اليوم.» (1)
لقد اختلف «الإنسان الصناعي» عن كل أسلافه. قضى معظم أوقاته في المصنع وفي محيط شبه مصنعي-احتك بالآلة فتقزم دوره كفرد و فعاليته تتم في الجماعة-تعلم منذ طفولته أن البقاء يعتمد على المال-نشأ في أسرة نووية-تعلم في مدرسة هي نموذج للمصنع-اكتسب تصوراته الرئيسية عن العالم من وسائل الاتصال-وجد نفسه يحارب الطبيعة بشكل يومي من موقع عمله-تعلم اعتبار ذاته جزءاً من نظم سياسية واجتماعية واقتصادية، قاسمها المشترك بنية«اتكالية متبادلة» وواسعة-كافح ليحصل على لقمة العيش-شعر أيضا بالزمن الخطاني وبالمكان الخطاني كذلك..
ومثلما حولت الموجة الصناعية الإنسان، حولت الصوت، الرائحة، البصر و المذاق: طغت صفارة المصنع على صياح الديك-طغت أصوات العجلات وأزيز السكك-ظهرت صور مرئية لم ترها عينٌ من قبل، كصورة الأرض من الفضاء-حلت روائح البنزين ونتانة حامض الكربوليك محل التربة الرطبة والندية-تغير مذاق اللحوم والخضار-تبدلت طريقة تناول الطعام مع مكننة استخدام أدوات المائدة..
وأيضا، حدثت تغيرات جذرية في كل مظهر من مظاهر العلاقات البشرية:-في الزواج-في علاقة الأبوة والبنوة والأمومة-في الارتقاء داخل السلم الاجتماعي-وفي تنامي الإحساس بالذات بشكل مفرط..
إن العقل يجفل فيما يواجهه من التطورات والتغيرات النفسية والاقتصادية والسياسية
والاجتماعية، ويحار في المعيار الذي به سيحكم على حضارة برمتها:
•هل يكون الحكم مرتبط بمدى تأثير هذه الحضارة على الشعوب التي بقيت على أعتابها؟
•أم من خلال المقاييس المادية التي تحققت لشعوب هذه الحضارة وأصحابها؟
•هل يكون الحكم مرتبط بتأثيراتها الهائلة والخطيرة على البيئة ؟
•أم بعظمة فنونها وإنجازاتها الفكرية والعلمية؟
•أم بحرية الفرد؟
فرغم الانتكاسات الاقتصادية التي منيت بها هذه الحضارة، والفناء المرعب للكثير من الناس، إلا أنها حسنت من المقياس المادي للحياة بالنسبة للفرد.-أعداد كبيرة من الناس، كان انتقالهم إلى الأحياء الفقيرة في ضواحي المدن يمثل - رغم ذلك- قفزة نوعية في المقياس المعيشي، وتحسنا في ظروف السكن المادية وتطورا في أنواع التغذية والأطعمة. و فيما يتعلق بالواقع الصحي، ينبغي استحضار «عصور الآلام» السابقة على العصر الصناعي:-الموت، المجاعة، المرض.. ومن الجوائح القاتلة كان:-الطاعون-التيفوس-الأنفلوونزا-الزحار-الجذري-السل.. وقد سبب انتشارها في العصور ما قبل الصناعية: القضاء على الصغار والكبار دون تمييز. وبعد كل ذلك، يحضر الفكر والعلم والفن ..
لكن، ومع عكس الصورة، نجد أن هذه الحضارة أنتجت الدمار في المحيط البيئي للأرض:-تحامل الواقعية الصناعية على الطبيعة- التزايد السكاني- التكنولوجيا البهيمية- التلوث البئيي المتطرف..«إن هذه الحضارة تملكت وسائل التدمير البيئي التي لم تتملكها حضارة إنسانية من قبل،إذ تتعرض المحيطات للتسمم على نطاق واسع. ونتيجة للطمع والجشع تنقرض سلالات حية برمتها. واستنزفت المناجم بصورة وحشية حتى مناخ الأرض تتهدده الكيماويات المنبعثة من المصانع والتلوث الحراري الذي يعرض طبقة الأوزون للخطر.»(2)
ومسألة الإمبريالية أيضا، تشابه وإن بشكل أكثر تعقيدا، مسؤولية المجتمع الصناعي عن
التلوث البيئي:
-استعبدت الهنود الحمر لحفر المناجم في أمريكاالجنوبية.
-شوهت عن عمد اقتصاد المستعمرات لإدماج خيراتها في اقتصاد وحاجيات الأمم الصناعية.
-تسببت لهذه المجتمعات في:المرض، الألم، انحطاط التعليم، العنصرية، الدمج القسري في
نظام التجارة العالمي.. وكل ما تلى ذلك من جروح لم تندمل بعد..
لكن، ومع كل ذلك، لا يمكن الهروب إلى الماضي، وليس من الصواب الافتتنان بالحضارة الزراعية، «فالطريق إلى المستقبل لا يكون بالرجوع إلى ماضٍ أكثر بؤسا.»(3) كما أن إظهار ما هو إيجابي وإبرازه وتغليبه، ليس عملا صائبا. لابد من مقت الأسلوب الذي اتبعته الموجة الثانية للقضاء على الموجة الأولى. ولايمكن عدم استنكار المخترعات التدميرية التي تكثفت خلال الحروب. ولايمكن إبعاد الخجل أمام نجاح شطر الذرة لتصنع الجحيم في هيروشيما. ولا يمكن التغاضي عن العجرفة والغطرسة الثقافية لهذه الحضارة ونهبها شعوب العالم المختلفة.
«هل كانت الحضارة الصناعية هي الأرض اليباب ؟ وهل كانت عالم «الرؤية الواحدة»؟ كم يدعي أداء العلم والتكنولوجيا؟ لاشك بهذا، لكنها كانت كالحياة، حدثاً حلواً-مُراّ في السرمدية». (4)
ومهما اختلفنا في تقييم هذا الحاضر المتبدد، إلا أن هناك حقيقة واحدة مفادها أن«لعبة الحضارة الصناعية» قد انتهت، وتلاشت طاقاتها وبدأت قوتها تتباهت في كل مكان تسير فيه موجة «التغيير الجديدة». وهناك تحولان يجعلان الاستمرار «الطبيعي» للحضارة الصناعية مستحيلا:
أولهما أن هذه الحضارة قد وصلت إلى نقطة فاصلة في «حربها ضد الطبيعة»، و إذ لم يعد بإمكان البيئة الحياتية التسامح في استمرار الهجوم الصناعي عليها.
وثانيها أن هذه الحضارة لن تستمر في الاعتماد على طاقة ناضبة إلى ما لانهاية، هذه الطاقة التي ما تزال المورد الرئيسي للتحرك الصناعي.
مع استحضار:
أن الأمم الصناعية ستعاني بعد أن تفقد الطاقة الرخيصة التي كانت عماداً. إضافة إلى تراجع المواد الخام وارتفاع ثمنها. وبالتالي سترتفع تكاليف التصنيع بصورة كبيرة. و ستتحول القاعدة المصدرية الأساسية لهذه الحضارة بتحول قاعدة الطاقة.
هذه الضغوط الخارجية على المجتمع الصناعي تزامنت وتلاءمت مع الضغوط التفككية داخل نظمه:- أزمة الرفاهية الاجتماعية (في الخدمات الصحية- في المدن- في النظام العالمي-ونظام الموجة القيمي الذي هو في أزمة أيضا- لتمتد الأزمة إلى الشخصية.
وللإحاطة بحقيقة احتضار الحضارة الصناعية، يجب البحث في دلالات التحول الجديدة،
لا الصناعية،  في الموجة الثالثة، التي ستحيط حياتنا القادمة بكل مظاهرها التحولية، وينبغي
إدراك مبتكراتها، والمساهمة في إبداعها.
—————
1. المرجع : كتاب - حضارة ..الموجة الثالثة - ألفن توفلر - المرجع نفسه-الصفحة 130
2. المرجع : كتاب -حضارة ..الموجة الثالثة - ألفن توفلر - المرجع نفسه-الصفحة 134
3. المرجع : كتاب - حضارة .. الموجة الثالثة -ألفن توفلر - المرجع نفسه - الصفحة 135
4. المرجع : كتاب - حضارة ..الموجة الثالثة - ألفن توفلر - المرجع نفسه-الصفحة نفسها
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.