مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

التفسيرُ الفرويديُّ للتوحّش ... ما الجديد؟ فارس عزيز المدرس

 
       
تعرّضتْ آراءُ فرويد للمعارضات؛ بسبب النقصِ الحاصل في أدلة إثباتِها، لكنْ مِن الإنصافِ الإشارة إلى أنّ تلك المعارضات لم تُخلْخِلْ تماسكَها النظري، نظراً لفقْرِ معارضيه في أدلةِ نفيها أيضاً.
الكلامُ أعلاه لا يعني أنَّ آراءَ فرويد صحيحةٌ جملةً؛ فـ فرويد له الفضلُ في التنبيهِ إلى قضايا مهمة؛ مهْما قِيل أنَّ سابقين عليه درسوا هذا المضمار.
يقول هانز إيزيك في كتابه تدهور إمبراطورية فرويد وسقوطها: (ما هو جديدٌ في نظرياتِ فرويد ليس بصحيح، وما هو صحيحٌ فيها ليس بجديد). وأكاد أقطعُ بأنّ الشططَ الأكبر في الفرويدية أتى مِن أتباعها؛ الذين تعسّفوا في شرحِها. وإذْ لا أحدَ بامكانه على وجه الدقةِ الاحاطةُ بالمصطلحاتِ التي وضعها؛ وهو بصدد شرح نظريته عن الشخصية؛ التي ضمّنها محورَي (الشعور وللاشعور)؛ ولا حتى هو نفسه، فهذا لا يعني أنّ نظرياتِه تُترك جملةً؛ فريادتُه تبقى لها مكانتُها في تاريخ العلم.
الموقف مِن النظرية
يرى قسمٌ مِن النقادِ أنّ دراسةَ فرويد المسمّاة ( الانا والهو التي نُشرت عام  1923) تُمثلُ نقلةً نوعيةً في فكره نحو الاعتراف بدورِ البيئة في تكوين الشخصية. وقد طوّر هذا الاتجاهَ علماءٌ سُمّوا بـ الفرويديين الجُدد؛ قدّموا تفسيراتٍ تبتعدُ عن النموذج الميكانيكي الذي اتبعه في دراسة نفسيّة الإنسانِ.
ومع إنني لا أعارضُ المآخذَ التي تحوم حول قسمٍ مِن نظرياته؛ لكنْ أرى تقسيمه للشخصية البشرية ينطوي على نباهةٍ، لكنَّ الإرباكَ حاصلٌ في قضيةِ تصوّره مفهوم اللاشعور؛ وتحميله أكثر مِما يتحمّل، لذا سأُشير إلى قضيتين.
الأولى:  عدمُ استساغتي ربط (الأنا والـ هو) باللاشعور ربطاً مطلقاً؛ مع تأكيدي عدمَ قدرة ِأحدٍ على تعريف اللاشعور على الطريقة الفرويدية؛ خلا تعريفات وصفية.
والقضيةُ الثانية:  إصرارُ فرويد على تشبيه الـ هو بالغريزة الحيوانية، واعتراضي يتمثّلُ بأنّ الغريزةَ الحيوانية لا تُشبه الغريزة البشرية، والمعيارُ الفرويدي في تصنيف الغريزة الحيوانية انحطاطي، مع أنَّ لها قوانين وانضباط غايةٌ في التكامل والتعقيد؛ وليس مِن الصوابِ الحكمُ عليها طبقاً لتصوّراتِ الإنسان؛ والأفعال اللاأخلاقية التي تصدر عنه أحياناً، وانحطاطُ غريزةِ الإنسان قضيةٌ فيها نظرٌ، لأنها غيرُ مُنضبطةٍ؛ بخِلاف ما عليه غريزةُ الحيوان. ولأنّ الإنسانَ يملك عقلاً؛ فغريزتُه عُرْضةٌ للمساءلة؛ بخلاف غريزةِ الحيوان المُكتفية بذاتها. وعليه ليس مِن الصوابِ مقارنةُ انحطاطِ غريزةِ الإنسان بغريزة الحيوان.
كانت هذه ملاحظات قبل الحديث عن الجانب التوحّشي في نظرية فرويد عن الشخصية الإنسانية؛ وهي في طور الـ هو، وتبيان علاقتها بواقعنا، وهل بدأت وقائعُ المجتمعات الحديثة تؤيّد فكرتَه عن المفاهيم التي طرحها؟. سيحتاج هذا شرحَ مَفاهيمِ: الـ هوْ والأنا والأنا العليا؛ لكنْ بطريقةٍ أدبية.
الـ هوْ id، أو الأنا السفلى
هل رأيتَ فتاةً وتتمنّى الاستحواذَ عليها؟ ... هناك الكثير مِن الأموال عائدةٌ للدولة وللناس؛ هل تريد السطوَ عليها؟. وأشخاص يخالفونك المعتقد؛ هل تريد الإجهازَ عليهم، لتنعمَ وحدك بالرفاه والسلطة؟. ثمَّة أساليب في العمل تتخلّص بها من الواجب؛ وتترك العناءَ على غيرك. أفعلْ ذلك كلّه، ولا تلتفتُ وراءك.
المُستخلصُ مِن هذا الأمثلة أنَّ (الهو) هي ذاك الجزء في شخصية الإنسان؛ هدفه إشباعُ رغباتٍ هدفُها: البقاءُ، الأكلُ، الجنسُ، التملّكُ؛ التسلّط ... دون رادعٍ أخلاقي أو منطقي. وأحياناً يُرمَز للـهو  بالشيطان، أو الشرُّ، وهو طبيعةٌ تنازع لأجلِ البقاءِ والسيطرة؛ مِن يوم تكوينها جنيّناً؛ وحتى آخر لحظاتِها المسماةِ بالنزعِ الأخير.
الأنا العليا super-ego
 كابحُ رغباتِ (الهو)، وهي لا تعرف إلا المنعَ، وتستعين بالدين، الأخلاق، والقانون، والثقافة، العُرف؛ وبحسب بيئة الفرد ثقافته. والأنا العليا تردُّ على الأمثلةِ التي افترضناها بـ:
إياك أنْ تنتهكَ الأعراض، أو أموالَ الدولة والناس، لا تكذب في عملك. لا تخدعْ أحداً باسم الدين أو السياسة؛ لا تغشْ في تعليمك وتجارتك. تحلَّ يا هذا ببعض الأخلاق؛ لتُسهِمَ في صيانة المجتمع والأفراد، وألا فستتحولُ إلى وحشٍ همجي.
الأنا ego
هنا سيجد الإنسانُ نفسَه في تنازعٍ؛ بين انفلاتِ الهو وبين صرامةِ الأنا العليا؛ فما الذي يجب عليه فعله للخروج مِن دوامةِ التنازع هذه؟. إنها الأنا ego؛ ويسمِّيها البعض الشعور. والأنا كما وصفها فرويد شخصيةُ المرءِ في أكثر حالاتها اعتدالاً، وهي تقبل بعض التصرفات، وتربطها بقيم المجتمع، وتقوم بإشباع بعض الغرائز التي يطلبها الهو؛ لكنْ بصورةٍ متحضِّرة يتقبّلُها المجتمع ولا ترفُضها الأنا العليا، أيْ لا تُفضي إلى التصادم بين نوازع الفرد والمجتمع.
وهذه الأنا تفاوضيّة؛ تطمئنك وتقول لك: لا تقلقْ، فإذا أردت أنْ تأكلَ من ذاك الطعام فيكفي أنْ تشتريه؛ وتلك الفتاة يمكن أنْ تتزوج بها؛ بدل أنْ تعتدي عليها. أمَّا الأموالُ فهي لأصحابِها، وأمّا الدولةُ فيفترض أنْ تصونَ حقوقَها؛ مهما رأيتَ سواك يبيعون ضمائرهم  ويعتدون على حرمتها. وبدلاً من أنْ تتجاوزَ كافح، وقفْ مع الدولة؛ لأنها تمثّل الجميع؛ وهي ليست ملكاً لحكومات أو أحزاب، أمّا المال فاجْنِه بطرقٍ مشروعة ...، وبذلك تضمن عيشكَ بسلام، وبخلافِه ستُسجنُ أو تنغمس في العار ... هكذا تُرضي الأنا كلاً من الهو و(الأنا العليا).
الشروعُ في الفشل
إذا فشِل الأنا في إحداثِ التوازن وتغلّبَ الهو على (الأنا الأعلى) فسنلاحظُ شخصيةً تميل إلى الإجرام والعنف والنفاق، أمّا إذا غلب الأنا الأعلى فسيصبح الشخصُ انطوائياً، مريضاً بالوسواس؛ يخاف مِن أيّ تغيير، لذا فالشخصيةُ المُتزنة هي التي يكون فيها الأنا مؤثراً في الهو والأنا العليا؛ بحيث لا يطغى أحدهمها على الآخر.
كان هذا شرحاً مبسَّطاً لمعنى (الهو والانا والانا العليا) بحسب فرويد وشرّاحه. وأبيّن الآن أنّ فرويد جعل مِن الهو الحالةَ الأصلية في سلوك الإنسان، ولم يؤمنْ بالفطرةِ السوية؛ بوصفها أساسَ الخلقِ الأول للإنسان، ثم جعل الأنا العليا حالةً لاحقةً مكتسبة.
 لكننا لو قلبْنا المعادلة وقلنا: إنَّ الحالةَ الأصليةَ في فطرة الإنسان هي المساحةُ البيضاء التي لم تُرسم عليها بعدُ معالمُ الأنا العليا، ولا ارتكاسات الانا السفلى(الهو)؛ لخرجنا بنتيجةٍ مَفادها أنَّ الإنسانَ يمرض ويتعرّضُ للانحرافِ بسبب بيئته؛ بفعل اليأس أو الخوف أو الشعور بالغبن، أو بالتلوث النفسي والفكري، ثم يدخل تدريجياً في طور التوحّش (الهو). وهذا لا يحدثُ بطريقةٍ آليةٍ؛ بل بالتراكم والتكرار وأحياناً بالتلقين. ومِن هنا يكون لنا مع فكرةِ التوحّش الفروديّة مُتمثّلةً بـ الهو موقفٌ آخر.
   ما الجديد
إنَّ الإرباك الأخلاقي الذي راح يُلازم الإنسانَ المعاصر، ثم الظلم وانحسار مستوى العدالة جعله يميل إلى الهو، ولا يجد مِن الأنا العليا المتمثِّلة بالقيم الأخلاقية أو المبادئ الدينية الصحيحة كبيرَ رادعٍ أو توجيه، بل أنّ ارتباطه بها صار أقلّ تماسكاً.
 قد يقال: الظلمُ وغيابُ العدالة ليسا قضيةً جديدةً؛ فلماذا ترجّح تفشّي التوحش واشتغال الأنا في العصر الحديث؟؛ فأقول: هذا صحيحٌ، لكن الاغتراب في العصر الحديث وسهولةَ التحريض، والفراغ القيْمي جعلا الإنسانَ مريضاً بالفردانية، خاضعاً للتأثير. وتعزّز الإحصاءات، ودراسات سلوك المجتمعات والدول كلَّ هذا.
ومع قلب اشتغال الأنا العليا والهو بصورة معاكسة لرؤية فرويد؛ والتشديد على أنّ شخصيةَ الإنسان أولَ أمرها صفحةٌ بيضاء وليست (هوْ) سنجدُ أنَّ الأزمةُ المعاصرة لا تتمثّلُ بشراسةِ الهو فحسب؛ بل بانحسار تأثير الأنا العليا، بفعل ما مرَّ مِن أسباب.
إنّ حالة الاغترابِ وخلخلة المبادئ، يدفعان بالإنسانِ إلى إيجاد مبرراتٍ لأفعال الهو لديه، فتتفاقم مظاهرُها، وتبدأ سلسلةُ ضرب المجتمعات في خاصرتها، وهذا يحدث بانحسارِ فاعليةِ المنحى التربوي؛ وفاعلية هذا المنحى تقوم على الوقائع، وقد باتت في هذا العصر خاضعةً للتشويش والاضطراب.
  ثقافة النفي
مِن مزايا توحّش (الهو) شيوعُ ثقافة النفي، والنفيُ عدوُ التآلف، على العكس مِن روح الإثبات التي بفقدانها ترتكس العناصرُ الحضارية، وتحلُّ بدلاً عنها العناصرُ المدنيّة؛ إنْ وجدت أصلاً. وإنسانُ الحضارةِ غيرُ إنسانِ المدنيّة؛ إنه ينفعِل بالحياة، وأخلاقُه أخلاقَ بطولةٍ وعطاء وانتظام. أمّا إنسانُ المدنيّةِ فيشعر بالعجز ويحاول إخضاعَ الحياةِ لصرامةِ العقلِ النَفعي؛ وهو عدَميٌّ بالسلوك؛ إنْ لم يكن بالفِكر. فكيف الحالُ إذا لم يكن إنسانَ حضارةٍ ولا مدنيّةٍ؛ بل إنسانَ قبليةٍ وطائفية؛ لا يندمج في كيانِ الدولة ولا قوانينها.
إنسانُ المدنيةِ كائنٌ مِن صَلْصال؛ إنه إنسان (الهو) الذي لا ينظر إلى الأشياء إلّا من خلال المَظهر والإشباع، أمّا الأخلاق والقوانين فيحتاجُها لديمومةِ مَكاسبِه، وهو إنْ خضعَ لها فلأجلِ تحقيق أمنِه الفرديِّ، فإذا أمِنَ العقاب انقلبَ عليها؛ وتحوّل إلى كيانٍ جائرٍ.
 النُذُر
في كتابه (المجتمع المنحط. كيف صرنا ضحايا نجاحاتنا) يرى روس داوثت أنّ نمطَ المديْنةِ الفاسدة (ديستوبيا (Dystopia نمط تراكمي؛ ((تتهاوى فيه المجتمعات دون أنْ تعي حجمَ الخرابِ الأخلاقي، والسياسي، والاقتصادي، ويكون الإنسانُ فيه شخصيةً إنكارية؛ وهذا الحالُ يتمُّ على مراحلَ؛ ويأخذ صيغةَ الطبْع؛ وتعريفي ينطبق على الغرب المعاصر، وربما سينطبق على المجتمعات التي تلْحق حالياً بأوروبا وأميركا وشرق آسيا)).
نعم (الهو) ليس حالةً جديدةً؛ لكنه في تضَاعفٍ مستمر؛ لذلك صار هاجسُ الكثيرِ من البحوث والروايات والأفلام التعبيرَ عن القلق المستدام مِن ديستوبيا تلوح نُذرُها في الأفق؛ وسينفرط عِقدها عن أناملَ دموية، ويعزز هذا الهاجسَ وضاعة الفكر السياسي الحديث؛ لاسيما على مستوى الثقافة الأخلاقية، مع توقّع حدوث كوارث بايولوجية وأوبئة وحروب ومجاعات تخلخل الضبطَ الأمني، وتفضي إلى انقسام درامتيكي مروّع في المجتمعات؛ ما لم توضعْ معالجاتٌ مناسبة وإصلاحات جذرية، وإلا فسيتّسع الخرقُ على الراقِع.

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.