مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

إلى أمي - مصعب مكي

  

--- أتَضعْضعُ عند محاولتي للكتابة عنكِ، حروفي لا تطاوعني، وإن طاوعتني ماذا سأكتب؟ ما الفارق النسبي بين ما سأكتبه وما سيَنزلِق مني بين الأسطر؟ هل إدراكي كامل في المقام الأول؟ هل ستسعِفُني الذاكرة؟ هَبْ أنني سأخُط فقط ما يدور في خلدي، هل سأُقدِّم وصفًا بلاغيًا يُليق بالموضوع، أم سأفشل في هذا الجزء أيضا؟ سأدوِّن على أية حال، لا يهم إن كان عَكًا أدبيًا يفتَقِر للمعنى والفكرة.
--- اشْتدَ عودي وطال بيّ العمر، لكنني مازلتُ ذاك الطفل المتعلق بأطراف ثوبِك، أنتِ حملتيني وأنجبتيني وأرضعتيني، وسهرتي في سقمي، وأنشأتيني بحبك وعطفك وحنانك، إبنك أنا قبل أن أصبح إبنًا لأبي، ويبقى أعظم ما فعله أبي كونه اختارك دون النساء، وأسفاه على من ليس له أم! عندما كنتُ صغيرًا وعدتِك أنني سأكبر وسأبني لكِ بيتًا نسكنه أنا وأنتِ، أعلمي أنني ما زلتُ على العهد.
--- يعودْ الغانمون بمالهم وذهبهم لكنني أعودُ إليكِ تاركًا الدنيا لأسوح في رحابِك، أقتبس منكِ الزاد لتكملة المسير، مستبشرًا أنني الغانِم الوحيد، أرحل لأعود إليكِ مجددًا، يا شمعة دربي التي تنير لي الطريق، أنني متعبٌ من حِلي ومن وعثاء السفر، دعيني أتمسد عليكِ وأتكيء، أبثكِ ضعفي وقلة حيلتي، أتوق أن تُربتينَ على كتفي فأسْكُن وأنام يا بلسمي الشافي، برؤيتكِ تهون مصائبي وتتقزم مصاعبي، يُطربني حديثكِ عني "إبني فعل وإبني سيغدو" تفخرين بإنجازاتي الصغيرة، تُقبًِلين جبيني وخدي وتزيلين ما عَلَق بي، تبتسمين في وجهي تهبينني السعادة والرضا.
--- تحفني غبطة برؤيتكِ تتجولين في أطراف المنزل، تغشاكِ العافية ويزين ثغرُكِ السرور، بدأبكْ ونشاطك المعهود تسقين نبتة أو تنظفين رقعة، أتسلى بوجودك تناديني وأناديك، يا سكن البيت وبهجته وطمأنينته وفردوسه، تقومين بما في وسعك لتعتنين بمأكلي ومشربي وملبسي، وتتمنين أن أكون سليما على الدوام، أعودُ متاخرا أجِدُك على السجادة تبتهلين، أستيقظ مبكرا أجدك سبقتيني، يشع النور من عينيك، وينبع الدفء من جنباتك، جبهتك طاهرة ويديك طاهرتين، ياليتني أجثو مدى العمر أقبل الجنة تحت قدميك.
--- بينما كنتُ أتململ وأتكاسل مُتواكِلا عليك بأنانية -مُمتصًا كل ما فيك من شيء جميل- كنتِ لا تتضجرين، وعندما أطلب منك شيئًا لا تبخلين، وإذا بكيتُ تمسحين دموعي وتشفقين، كنتِ غالبا ما تُدارِين عني ما يعتريك ويعكُّر صَفوِك بإبتسامة، تُؤثِرين علي نفسك لتُغدِغين عليّ، كرّسْتي طاقتِك في خِدمتي، قاسيتي وتذوقتي العلقم في طفولتي وصبابي، عنادي ومشاكساتي تحملتيهما بحب، شأنك عظيمٌ ومكانتك مقدسةٌ، بما أنجزتيه للمجتمع، كنتِ وراء كل ما قمتُ به، سأَذكُرك دوما ما حييت، جَميلُك يُثقِل كاهلي، لن أستطع أن أرُدّه أو حتى أن أعوِّضك.
--- حُبِك حقيقي وصادق، حبك غير مشروط، عطاءِك لا يحكُمه ظَرف، خوفك عليّ وقلقك وتعبك وجوعك ومرضك كله في سبيل مصلحتي الشخصية، أمي كيف تقومين بكل هذا؟! يَتغنّى الشعراء بأهازيج الحبِ، وتزخرُ القصص بِحديثِه، لكن أينما حلَلّتي أنتِ يكمن الحب، فأنتِ الحب ومنبعُه، وددتُ لو تَغَّنوا في خِصالُك ومحاسِنُك ومآثِرُك القديمة منها والحديثة.
--- أيتها العزيزة، لا تعب لكِ ولا شقاء ولا سهر بعد اليوم، لن تقلقي عليّ، لا أسلُبِك الغريزة لكن سأكون بخير من أجلك، لن أخيب ظنُك أبدًا، أتمنى أن لو أستطعْ أن أجعلك سعيدةٌ، هنيئةٌ، ومعافاةٍ في ما بقى من عُمْر، أن تشعري بالرضا بكل ماهو حولك، وما تركتِيه من أثَر طيِّب، أن أرحل عن الدنيا قبلُك ولا أقْوَ على فكرة رحيلك قبلي، ليتني أُهِبك أعوامًا من عمري عِوَّضًا عن سُنونٌ كثيرة بَددتِيها، سٌُنونٌ قد نَخَرَت عودِك وحفَرَتْ أخاديدًا على وجهُك، وأن أصبَحَ أمًا لكِ كما كُنتي أمًا لِي.

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.