مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف - علي بن حزم الأندلسي

 

مقدمة
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيم وبه نستعين
قال أبو محمد — عفا الله عنه: أفضل ما أبتدئ به حمد الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله، ثم الصلاة على محمدٍ عبدِه ورسوله خاصةً، وعلى جميع أنبيائه عامةً، وبعد.
عصمنا الله وإياك من الحيرة، ولا حمَّلنا ما لا طاقة لنا به، وقيَّض لنا من جميل عونه دليلًا هاديًا إلى طاعته، ووهبنا من توفيقه أدبًا صارفًا عن معاصيه، ولا وَكَلنا إلى ضعف عزائمنا، وخَوَر قُوانا، ووهاء بِنْيَتنا، وتلدُّد آرابنا، وسوء اختيارنا، وقلَّة تمييزنا، وفساد أهوائنا؛ فإن كتابك وردني من مدينة المريَّة إلى مسكني بحضرة شاطِبةَ تَذكُر من حسن حالك ما يسرُّني، وحَمدتُ اللهَ عز وجل عليه، واستدمتُه لك، واستزدتُه فيك، ثم لم ألبثْ أن اطلع عليَّ شخصُك، وقصدتني بنفسك، على بُعد الشُّقة، وتنائي الديار، وشَحط المزار، وطول المسافة، وغَوْل الطريق. وفي دون هذا ما سلَّى المشتاق ونسَّى الذاكر إلا من تمسَّك بحبل الوفاء مثلك، ورعى سالف الأذمَّة، ووكيد المودات، وحق النَّشأة ومحبة الصبا، وكانت مودته لله تعالى.
ولقد أثبت الله بيننا من ذلك ما نحن عليه حامدون وشاكرون، وكانت معانيك في كتابك زائدة على ما عهدته من سائر كتبك، ثم كشفت إليَّ بإقبالك غرضك، وأطلعتني على مذهبك، سجيةً لم تزل علينا من مشاركتك لي في حلوك ومرك، وسرك وجهرك، يحدوك الودُّ الصحيح الذي أنا لك على أضعافه، لا أبتغي جزاءً غير مقابلته بمثله. وفي ذلك أقول مخاطبًا لعبيد الله بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر — رحمه الله — في كلمة لي طويلة، وكان لي صديقًا:
أَوَدُّكَ وُدًّا لَيْسَ فِيهِ غَضَاضَةٌ وَبَعْضُ مَوَدَّاتِ الرِّجَالِ سَرَابُ
وَأَمْحَضْتُكَ النُّصْحَ الصَّرِيحَ وَفِي الحَشَى لِوُدِّكَ نَقْشٌ ظَاهِرٌ وَكِتَابُ
فَلَوْ كَانَ فِي رُوحِي هَوَاكَ اقْتَلَعْتُهُ ومُزِّق بِالكَفَّيْنِ عَنْهُ إِهَابُ
وَمَا لِيَ غَيْرُ الوُدِّ مِنْكَ إِرَادَةٌ وَلَا فِي سِوَاهُ لِي إِلَيْكَ خِطَابُ
إِذَا حُزْتهُ فَالأَرْضُ جَمْعَاءُ وَالوَرَى هَبَاءٌ وَسُكَّانُ البِلَادِ ذُبَاب
وكلَّفتني — أعزَّك الله — أن أصنِّف لك رسالةً في صفة الحب ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا مُتزيِّدًا ولا مفننًا، لكنْ مُوردًا لما يحضُرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسَعة باعي فيما أذكره، فبدرتُ إلى مرغوبك. ولولا الإيجاب لك لما تكلَّفته، فهذا من الفقر، والأَوْلى بنا مع قِصر أعمارنا ألَّا نَصرفها إلا فيما نرجو به رَحْب المُنقلب وحُسن المآب غدًا. وإن كان القاضي حمام بن أحمد حدَّثني عن يحيى بن مالك عن عائذ، بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: «أجمُّوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونًا لها على الحق.» ومن أقوال الصالحين من السلف المرضيِّ: «مَن لم يحسن يتفتَّى لم يحسن يتقوَّى.» وفي بعض الأثر: «أريحوا النفوس؛ فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.»
والذي كلَّفتني لا بد فيه من ذكر ما شاهدتْه حضرتي، وأدركته عنايتي، وحدَّثني به الثقات من أهل زمانه، فاغتفرْ لي الكناية عن الأسماء؛ فهي إما عورة لا نَستجيز كشفها، وإما نُحافظ في ذلك صديقًا ودودًا، ورجلًا جليلًا.
وبحسبي أن أُسمي من لا ضرر في تسميته، ولا يَلحقنا والمسمَّى عيبٌ في ذكره، إِما لاشتهارٍ لا يُغني عنه الطيُّ وتركُ التبيين، وإما لرضًى من المُخبَر عنه بظهور خبره وقلةِ إنكارٍ منه لنقله.
وسأورد في رسالتي هذه أشعارًا قلتُها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها عليَّ أني سالكٌ فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهب المتحلِّين بقول الشعر، وأكثر من ذلك فإنَّ إخواني يجشِّموني القولَ فيما يَعْرِض لهم على طرائقهم ومذاهبهم. وكفاني أني ذاكر لك ما عَرض لي مما يشاكل ما نحوتُ نحوه وناسبُه إليَّ.
والتزمت في كتابي هذا الوقوفَ عند حدك، والاقتصارَ على ما رأيتُ أو صحَّ عندي بنقل الثقات، ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين؛ فسبيلُهم غير سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي مطيَّة سواي، ولا أتحلَّى بحلي مستعار. والله المستغفَر والمستعان لا ربَّ غيره.
باب
وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين بابًا، منها في أصول الحب عشرة؛ فأولها هذا الباب، ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من أحب في النوم، ثم باب فيه ذكر من أحب بالوصف، ثم باب فيه ذكر من أحب من نظرة واحدة، ثم باب فيه ذكر من لا تصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الإشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير.
ومنها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر بابًا، وإن كان الحب عَرضًا والعرض لا يحتمل الأعراض، وصفةً والصفةُ لا تُوصف؛ فهذا على مجاز اللغة في إقامة الصفة مقام الموصوف، وعلى معنى قولنا: وجودنا عرضًا أقل في الحقيقة من عرض غيره، وأكثر وأحسن وأقبح في إدراكنا لها، علمنا أنها متباينة في الزيادة والنقصان من ذاتها المرئية والمعلومة؛ إذ لا تقع فيها الكمية ولا التجزي، لأنها لا تشغل مكانًا، وهي: باب الصديق المساعد، ثم باب الوصل، ثم باب طي السر، ثم باب الكشف والإذاعة، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب من أحب صفةً لم يُحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب القنوع، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب الضنى، ثم باب الموت.
ومنها في الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب، وهي: باب العاذل، ثم باب الرقيب، ثم باب الواشي، ثم باب الهجر، ثم باب البين، ثم باب السلو.
ومن هذه الأبواب الستة بابان لكل واحد منهما ضد من الأبواب المتقدمة الذكر، وهما: باب العاذل، وضده باب الصديق المساعد؛ وباب الهجر، وضده باب الوصل؛ ومنها أربعة أبواب لا ضد لها من معاني الحب، وهي: باب الرقيب، وباب الواشي، ولا ضد لهما إلا ارتفاعهما. وحقيقة الضد ما إذا وقع ارتفع الأول، وإن كان المتكلمون قد اختلفوا في ذلك. ولولا خوفنا إطالة الكلام فيما ليس من جنس الكتاب لتقصيناه.
وباب البين وضده تصاقب الديار؛ وليس التصاقب من معاني الحب التي نتكلم فيها، وباب السلو، وضده الحب بعينه؛ إذ معنى السلو ارتفاع الحب وعدمه.
ومنها بابان ختمنا بهما الرسالة؛ وهما: باب الكلام في قبح المعصية، وباب في فضل التعفف، ليكون خاتمةَ إيرادنا وآخرَ كلامنا الحضُّ على طاعة الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فذلك مُفترضٌ على كل مؤمن. لكنا خالفنا في نَسق بعض هذه الأبواب هذه الرُّتبة المقسمة في دَرج هذا الباب الذي هو أول أبواب الرسالة، فجعلناها على مباديها إلى منتهاها واستحقاقها في التقدم والدرجات والوجود، ومن أول مراتبها إلى آخرها، وجعلنا الضد إلى جنب ضده؛ فاختلف المساق في أبواب يسيرة. والله المستعان.
وهَيْئتُها في الإيراد أولُها هذا الباب الذي نحن فيه، وفيه صدر الرسالة، وتقسيم الأبواب، والكلام في باب ماهية الحب، ثم باب علامات الحب، ثم باب من أحب بالوصف، ثم باب من أحب من نظرة واحدة، ثم باب من لا يحب إلا مع المطاولة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الإشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير، ثم باب طي السر، ثم باب إذاعته، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب العاذل، ثم باب المساعد من الإخوان، ثم باب الرقيب، ثم باب الواشي، ثم باب الوصل، ثم باب الهجر، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب البين، ثم باب القنوع، ثم باب الضنى، ثم باب السلو، ثم باب الموت، ثم باب قبح المعصية، ثم باب فضل التعفف.

الكلام في ماهية الحب
الحب — أعزك الله — أوله هَزل وآخره جِد، دقَّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمُنكَر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبد الرحمن بن معاوية لدَعجاء، والحَكَم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفهُ بطروب أُم عبد الله ابنه أشهرُ من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف مَعلوم، والحكم المستنصر وافتتانُه بصبح أم هشام المؤيَّد بالله — رضي الله عنه وعن جميعهم — وامتناعُه عن التعرُّض للولد من غيرها، ومثل هذا كثير. ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة — وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزمُ وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قُصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم — لأوردتُ من أخبارهم في هذا الشأن غيرَ قليل.
 
وأما كِبار رجالهم ودعائم دولتهم فأكثر من أن يُحصَوا، وأحدثُ ذلك ما شاهدناه بالأمس من كلف المظَفَّر بن عبد الملك بن أبي عامر بواحدة، بنت رجل من الجبائين، حتى حمله حُبُّها أن يتزوجها، وهي التي خَلف عليها بعد فناء العامر بن الوزير عبد الله بن مَسلمة، ثم تزوجها بعد قتلِهِ رجلٌ من رؤساء البربر.
 
ومما يشبه هذا أن أبا العيش بن مَيمون القُرشي الحسيني أخبرني أن نزار بن معد، صاحب مصر، لم يرَ ابنه منصور بن نزار الذي ولي الملك بعده وادعى الإلهية إلَّا بعد مدة من مولده، مساعدةً لجارية كان يُحبها حبًّا شديدًا. هذا ولم يكن له ذَكَر ولا من يَرث ملكه ويُحيي ذكره سواه.

ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة مَن قد أستغني بأشعارهم عن ذكرهم، وقد ورد من خبر عُبيد الله بن عُتبة بن مسعود وشعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد جاء من فُتيا ابن عبَّاس — رضي الله عنه — ما لا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عَقْل ولا قود.
 
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود — رحمه الله — عن بعض أهل الفلسفة: الأرواح أُكَرٌ مقسومة، لكنْ على سبيل مناسبة قواها في مقرِّ عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها.
وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال. والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمِثْل إلى مِثْله ساكن، وللمُجانسة عملٌ محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تَشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالَمُها العالَم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعَّاد المعتدل، وسِنْخها المهيَّأ لقَبول الاتفاق والمَيل والتَّوق والانحراف والشهوة والنفار! كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرُّف الإنسان فيسكن إليها، والله عز وجل يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا؛ فجعل علَّة السكون أنها منه. ولو كان علةُ الحب حُسن الصورة الجسديَّة لوجب ألَّا يُستحسن الأنْقصُ من الصورة، ونحن نجد كثيرًا ممن يُؤثر الأدنى ويَعلم فضلَ غيره ولا يجد محيدًا لقلبه عنه، ولو كان للمُوافقة في الأخلاق لَمَا أحب المرء من لا يساعده ولا يُوافقه؛ فعِلْمُنا أنه شيء في ذات النفس. وربما كانت المَحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها؛ فمن ودَّك لأمر ولَّى مع انقضائه، وفي ذلك أقول:
 
وِدَادِي لَكَ البَاقِي عَلَى حَسْبِ كَوْنِهِ تَنَاهَى فَلَمْ يَنْقُصْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَزِدْ
وَلَيْسَتْ لَهُ غَيْرُ الإِرَادَةِ عِلَّةً وَلَا سَبَبٌ حَاشَاهُ يَعْلَمُهُ أَحَدْ
إِذَا مَا وَجَدْنَا الشَّيْءَ عِلَّةَ نَفْسِهِ فَذَاكَ وُجُودٌ لَيْسَ يَفْنَى عَلَى الأَبَدْ
وَإِمَّا وَجَدْنَاهُ لِشَيْءٍ خِلافهُ فَإِعْدَامُهُ فِي عُدْمِنَا مَا لَهُ وُجِدْ
ومما يؤكِّد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضُروب، فأفضلها محبَّة المتحابِّين في الله عز وجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النِّحلة والمذاهب، وإما لفضل عِلْم يُمنحه الإنسان.
 
ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابَّين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المُمكن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلا بالموت. وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه، وذا السِّن المتناهية إذا ذكَّرته تذكر وارتاح وصبا، واعتاده الطرب، واهتاج له الحنين.
 
ولا يعرض في شيء من هذه الأجناس المذكورة، مِن شُغل البال والخَبل والوسواس، وتبدُّل الغرائز المركبة، واستحالة السجايا المطبوعة، والنُّحول والزفير وسائر دلائل الشجا؛ ما يعرض في العشق؛ فصحَّ بذلك أنه استحسان رُوحاني، وامتزاج نَفساني، فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبَّة بينهما مستوية؛ إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد. فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لَعمري معارضة صحيحة، ولكنَّ نفس الذي لا يحب من يُحبه مكتنفةُ الجهات ببعض الأعراض الساترة والحُجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية، فلم تُحس بالجزء الذي كان متصلًا بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلَّصت لاستويا في الاتصال والمحبة.
 
ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغناطيس والحديد، قوة جوهر المغناطيس المتصلة بقوة جوهر الحديد لم تبلغ من تحكمها ولا من تصفيتها أن تقصد إلى الحديد على أنه من شكلها وعنصرها، كما أن قوة الحديد لشدتها قصدت إلى شكلها وانجذبت نحوه؛ إذ الحركة أبدًا إنما تكون من الأقوى، وقوة الحديد متروكة الذات غير ممنوعة بحابسٍ، تطلب ما يشبهها، وتنقطع إليه، وتنهض نحوه بالطبع والضرورة، وبالاختيار والتعمُّد.
 
وأنت متى أمسكت الحديد بيدك لم ينجذب؛ إذ لم يبلغ من قوته أيضًا مغالبةَ المُمسك له مما هو أقوى منه. ومتى كثرت أجزاء الحديد اشتغل بعضها ببعض، واكتفت بأشكالها عن طلب اليسير من قواها النازحة عنها، فمتى عظُم جِرم المغناطيس ووازت قُواه جميعَ قُوى جِرم الحديد عادت إلى طبعها المعهود. وكالنار في الحجر لا تبرز على قوة الحجر في الاتصال والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجِرمين بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حَجرها لا تبدو ولا تظهر.
 
ومن الدليل على هذا أيضًا أنك لا تجد اثنين يتحابَّان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق الصفات الطبيعية، لا بد في هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المُجانسة وتأكَّدت المودة. فانظر هذا تراه عِيانًا، وقولُ رسول الله ﷺ يؤكِّده: «الأرواح جنود مجندة، ما تَعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.» وقولٌ مرويٌّ عن أحد الصالحين: «أرواح المؤمنين تتعارف.» ولهذا ما اغتم بقراط حين وُصف له رجل من أهل النقصان يُحبه، فقيل له في ذلك، فقال: ما أحبني إلا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه.
 
وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلمًا، فلم يزل يحتجُّ عن نفسه حتى أظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء؛ فما لك وله؟ فقال الملك: لعمري ما لي إليه سبيل، غير أني أجد لنفسي استثقالًا لا أدري ما هو. فأدَّى ذلك إلى أفلاطون، قال: فاحتجتُ أن أفتش في نفسي وأخلاقي أجد شيئًا أقابل به نفسه وأخلاقه مما يشبهها، فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم، فميزت هذا الطبع فيَّ، فما هو إلا أن حركت هذه الموافقة، وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي، فأمر بإطلاقي وقال لوزيره: قد انحلَّ كل ما أجد في نفسي له.
 
وأما العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس تولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئًا من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة.
 
وإن للصور لتوصيلًا عجيبًا بين أجزاء النفوس النائية، وقرأت في السفر الأول من التوراة أن النبي يعقوب عليه السلام أيام رَعيه غنمًا لابن خاله مهرًا لابنته شارَطه على المشاركة في إنسالها، فكل بَهيم ليعقوب وكل أغر للابان، فكان يعقوب عليه السلام يعمد إلى قضبان الشجر يسلخ نصفًا ويترك نصفًا بحاله، ثم يلقي الجميع في الماء الذي تَرده الغنم، ويتعمد إرسال الطروقة في ذلك الوقت فلا تلد إلا نصفين؛ نصفًا بُهْمًا ونصفًا غُرًّا.
 
وذكر عن بعض القافة أنه أُتى بابن أسود لأبْيضَين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما غير شك، فرغب أن يُوقَف على الموضع الذي اجتمعا عليه، فأُدخل البيتَ الذي كان فيه مَضْجعهما، فرأى فيما يوازي نظر المرأة صورةَ أسود في الحائط، فقال لأبيه: مِن قِبل هذه الصورة أُتيتَ في ابنك.
 
وكثيرًا ما يصرف شعراء أهل الكلام هذا المعنى في أشعارهم، فيخاطبون المرئيَّ في الظاهر خطابَ المعقول الباطن، وهو المستفيض في شعر النظَّام إبراهيم بن سيَّار وغيره من المتكلمين، وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
مَا عِلَّةُ النَّصْرِ فِي الأَعْدَاءِ تَعْرِفُهَا وَعِلَّةُ الفَرِّ مِنْهُمْ أنْ يَفِرُّونَا
إِلَّا نِزَاعُ نُفُوسِ النَّاسِ قَاطِبَةً إِلَيْكَ يَا لُؤْلُؤًا فِي النَّاسِ مَكْنُونا
مَنْ كُنْتَ قُدَّامَهُ لَا يَنْثَنِي أَبَدًا فَهُمْ إِلَى نُورِكَ الصَّعَّادِ يَعشُونا
وَمَنْ تَكُنْ خَلْفَهُ فَالنَّفْسُ تَصْرِفُهُ إِلَيْكَ طَوْعًا فَهُمْ دَأبًا يَكرُّونا
ومن ذلك أقول:
 
أَمِنْ عَالَمِ الأَمْلَاكِ أَنْتَ أَمِ انْسِيٌّ أَبِنْ لِي فَقَدْ أزْرَى بِتَمْيِيزِيَ العِيُّ
أَرَى هَيْئَةً إِنْسِيَّةً غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أُعمل التَّفْكِيرُ فَالجِرْمُ عُلْوِيُّ
تَبَارَكَ مَنْ سَوَّى مَذَاهِبَ خَلْقِهِ عَلَى أَنَّكَ النُّورُ الأَنِيقُ الطَّبِيعِيُّ
وَلَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّكَ الرُّوحُ سَاقَهُ إِلَيْنَا مِثَالٌ فِي النُّفُوسِ اتِّصَالِيُّ
عَدِمْنَا دَلِيلًا فِي حُدُوثِكَ شَاهِدًا نَقِيسُ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّكَ مَرْئِيُّ
وَلَوْلَا وُقُوعُ العَيْنِ فِي الكَوْنِ لَمْ نَقُلْ سِوَى أَنَّكَ العَقْلُ الرَّفِيعُ الحَقِيقِيُّ
وكان بعض أصحابنا يُسمِّي قصيدةً لي «الإدراك المتوهم»، منها:
 
تَرَى كُلَّ ضِدٍّ بِهِ قَائِمًا فَكَيْفَ تَحُدُّ اخْتِلَافَ المَعَانِي
فَيَا أَيُّهَا الجِسْمُ لَا ذَا جِهَاتٍ وَيَا عَرَضًا ثابتًا غَيْرَ فَانِ
نَقَضْتَ عَلَيْنَا وُجُوهَ الكَلَام فَمَا هُوَ مُذْ لُحْتَ بِالمُسْتَبَانِ
وهذا بعينه موجود في البغضة، ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنًى ولا علة، ويستثقل بعضهما بعضًا بلا سبب. والحب — أعزك الله — داء عَيَاء، وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقامٌ مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يودُّ سليمُها البرءَ، ولا يتمنَّى عليلُها الإفاقة، يُزيِّن للمرء ما كان يأنف منه، ويُسهِّل عليه ما كان يصعُب عنده، حتى يُحيل الطبائع المركبة والجِبِلَّة المخلوقة. وسيأتي كل ذلك ملخصًا في بابه إن شاء الله.
 
خبر
ولقد علمتُ فتًى من بعض معارفي قد وَحِل في الحب وتورَّط في حبائله، وأضر به الوجد، وأنضحه الدنف، وما كانت نفسُه تطيب بالدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ في كشف ما به، ولا ينطق به لسانُه، وما كان دعاؤه إلا بالوصل والتمكُّن ممن يُحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظنُّ بسقيمٍ لا يريد فقْد سقمه. ولقد جالستُه يومًا فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني، فقلت له في بعض قولي: فرَّج الله عنك. فلقد رأيتُ أثر الكراهية في وجهه.
 
وفي مثله أقول من كلمةٍ طويلةٍ:
 
وَأَسْتَلِذُّ بَلَائِي فِيكَ يَا أَمَلِي وَلَسْتُ عَنْكَ مَدَى الأَيَّامِ أَنْصَرِفُ
إِنْ قِيلَ لِي تَتَسَلَّى عَنْ مَوَدَّتِهِ فَمَا جَوَابِيَ إِلَّا اللَّامُ وَالأَلِفُ
خبر
وهذه الصفات مخالفة لما أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم بن محمد القرشيُّ، المعروف بالشلشي، من ولد الإمام هشام بن عبد الرحمن بن معاوية، أنه لم يُحب أحدًا قط، ولا أسِف على إلفٍ بانَ منه، ولا تجاوز حد الصُّحبة والأُلفة إلى حدِّ الحُب والعشق منذ خُلق.
باب علامات الحب
وللحُب علامات يقفوها الفَطن، ويهتدي إليها الذكي؛ فأولها إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمُعبِّرة لضمائرها، والمُعربة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف، يتنقَّل بتنقُّل المحبوب، وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس، وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
فَلَيْسَ لِعَيْنِي عِنْدَ غَيْرِكَ مَوْقِفٌ كَأَنَّكَ مَا يَحْكُونَ مِنْ حَجَرِ البَهْتِ
أُصَرِّفُهَا حَيْثُ انْصَرَفتَ وَكَيْفَمَا تَقَلَّبْتَ كَالمَنْعُوتِ فِي النَّحْوِ وَالنَّعْتِ
ومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد يُقبل على سوى محبوبه ولو تعمد غير ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمُقه فيه، والإنصات لحديثه إذا حدَّث، واستغرابُ كل ما يأتي به وكأنه عينُ المحال، وخَرق العادات، وتصديقه وإن كذب، وموافقتُه وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، واتباعُه كيف سلك وأيَّ وجه من وجوه القول تناول.
 
ومنها الإسراعُ بالسيرِ نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمُّد للقعود بقُربه والدنو منه، واطِّراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانةُ بِكل خَطْب جليل داعٍ إلى مفارقته، والتباطؤ في الشيء عند القيام عنه، وفي ذلك أقول شعرًا:
 
وَإِذَا قُمْتُ عَنْكَ لَمْ أَمْشِ إِلَّا مَشْيَ عَانٍ يُقَادُ نَحْوَ الفَنَاءِ
فِي مَجِيئِي إِلَيْكَ أَحْتَثُّ كَالبَدْ رِ إِذَا كَانَ قَاطِعًا لِلسَّمَاءِ
وَقِيَامِي إِنْ قُمْتَ كَالأَنْجُمِ العَا لِيَةِ الثَّابِتَاتِ فِي الإِبْطَاءِ
ومنها بَهْت يقع وروعةٌ تبدو على المحب عند رؤية من يُحب فجأةً وطلوعه بغتةً.
 
ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يُشبه محبوبه، أو عند سماع اسمه فجأة، وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
إِذَا مَا رَأَتْ عَيْنَايَ لَابِسَ حُمْرَةٍ تَقَطَّعَ قَلْبِي حَسْرَةً وَتَفَطَّرَا
غدَا لِدِمَاءِ النَّاسِ بِاللَّحْظِ سَافِكًا وَضَرَّجَ مِنْهَا ثَوْبَهُ فَتَعَصْفَرَا
ومنها أن يجود المرءُ ببذل كل ما كان يقدر عليه مما كان ممتنعًا به قبلَ ذلك، كأنه هو الموهوب له، والمسعي في حظه. كل ذلك ليُبدي محاسنه، ويُرغِّب في نفسه؛ فكم بخيل جاد! وقطُوب تطلَّق! وجبان تشجَّع! وغليظ الطبع تطرَّب! وجاهل تأدَّب! وتفِل تزيَّن! وفقير تجمَّل! وذي سن تفتَّى! وناسك تفتَّك! ومصون تبذَّل!
 
وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجُّج حريقه، وتوقُّد شعله، واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذه، فحينئذٍ ترى الحديث سِرارًا، والإعراض عن كل ما حَضر إلا عن المحبوب جهارًا. ولي أبيات جمعتُ فيها كثيرًا من هذه العلامات، منها:
 
أَهْوَى الحَدِيثَ إِذَا مَا كَانَ يُذْكَرُ لِي فِيهِ وَيَعْبَقُ لِي عَنْ عَنْبَرٍ أَرجِ
إِنْ قَالَ لَمْ أَسْتَمِعْ مِمَّنْ يُجَالِسُنِي إِلَى سِوَى لَفْظِهِ المُسْتَطْرفِ الغَنِجِ
وَلَوْ يَكُونُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مَعِي مَا كُنْتُ مِنْ أَجْلِهِ عَنْهُ بِمُنْعَرِجِ
فِإِنْ أَقُمْ عَنْهُ مُضْطَرًّا فَإِنِّيَ لَا أَزَالُ مُلْتَفِتًا وَالمَشْيُ مَشْيُ وَجِي
عَيْنَايَ فِيهِ وَجِسْمِي عَنْهُ مُرْتَحِلٌ مِثْل ارْتِقَابِ الغَرِيقِ البَرَّ فِي اللُّججِ
أَغُصُّ بِالمَاءِ إِنْ أَذْكُر تَبَاعُدَهُ كَمَنْ تَثَاءَبَ وَسَطَ النَّقْعِ وَالوَهَجِ
وَإِنْ تَقُلْ مُمْكِنٌ قَصْد السَّمِاءِ أَقُلْ نَعَمْ، وَإِنِّي لَأَدْرِي مَوْضِعَ الدَّرَجِ
ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكُل ذي بَصر: الانبساطُ الكثير الزائد، والتضايقُ في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، والميل بالاتكاء، والتعمد لمسِّ اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة، وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه.
 
ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة، والأسباب المحركة، والخواطر المهيجة، والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضلُّ فيها الأوهام؛ فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فَعَل فِعْل النار، ونجد الفَرَح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكدًا شديدًا أكثر بهما جدُّهما بغير معنًى، وتضادُّهما في القول تعمدًا، وخروجُ بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كلٌّ منهما لفظةً تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها.
 
كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه. والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومُخارجة التشاجر سرعةُ الرضى؛ فإنك بينما ترى المُحبين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا يقدر يصلُح عند الساكن النفس، السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، ولا ينجبر عند الحَقود أبدًا، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصُّحبة، وأُهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المُضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مرارًا.
 
وإذا رأيت هذا من اثنين، فلا يُخالِجْك شكٌّ ولا يدخلنَّك ريبٌ البتةَ، ولا تتمارَ في أن بينهما سرًّا من الحب دفينًا، واقْطع فيه قَطْع من لا يصرفه عنه صارف، ودونكها تجربةً صحيحةً وخبرةً صادقة: هذا لا يكون إلا عن تكلفٍ في المودة وائتلاف صحيح، وقد رأيتُه كثيرًا.
 
ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يُحب، ويستلذ الكلام في أخباره، ويجعلها هِجِّيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوُّف أن يَفطن السامع ويفهم الحاضر — وحُبُّك الشيء يُعمي ويُصم. فلو أمكن المُحب ألَّا يكون حديثٌ في مكان يكون فيه إلا ذكر مَن يُحبه لما تعدَّاه. ويعرض للصادق المودة أن يبتدئ في الطعام وهو له مُشتهٍ، فما هو إلا وقت ما تهتاج له مِن ذِكْر من يُحب صار الطعام غُصةً في الحلق، وشجًى في المريء، وهكذا في الماء، وفي الحديث، فإنه يفاتحكه مبتهجًا، فتَعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يُحب، فتستبين الحوالة في منطقه، والتقصير في حديثه، وآيةُ ذلك الوُجومُ والإطراق وشدة الانفلاق؛ فبينما هو طَلْق الوجه، خفيفُ الحركات، صار مُنطبقًا متثاقلًا حائرَ النفس، جامدَ الحركة، يبرم من الكلمة، ويضجر من السؤال.
 
ومن علاماته حُبُّ الوحدة والأنس بالانفراد، ونُحول الجسم دون حدٍّ يكون فيه، ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي. دليل لا يكذِب ومُخبر لا يخون عن كلمة في النفس كامنة.
 
والسهرُ من أعراض المُحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه، وحكوا أنهم رُعاة الكواكب، وواصفُو طول الليل. وفي ذلك أقول وأذكر كتمان السر، وأنه يتوسَّم بالعلامات:
 
تَعَلَّمَتِ السَّحَائِبُ مِنْ شُئُونِي فَعَمَّتْ بِالحَيَا السَّكْبِ الهَتُونِ
وَهَذَا اللَّيْلُ فِيكَ غَدَا رَفِيقي بذلك أَمْ عَلَى سَهَري مُعيني
فَإِنْ لَمْ يَنْقَضِ الإِظْلَامُ … ألا مَا أَطْبَقَتْ نَوْمًا جُفُونِي
فَلَيْسَ إِلَى النَّهَارِ لَنَا سَبِيلٌ وَسُهْدٌ زَائِدٌ فِي كُلِّ حِينِ
كَأَنَّ نُجُومَهُ وَالغَيْمُ يُخْفِي سَنَاهَا عَنْ مُلَاحَظَةِ العُيُونِ
ضَمِيرِي فِي وِدَادِكَ يَا مُنَايَا فَلَيْسَ يَبِينُ إِلَّا بِالظُّنُونِ
وفي مثل ذلك قطعةٌ منها:
 
أَرْعَى النُّجُومَ كَأَنَّنِي كُلِّفْتُ أَنْ أَرْعَى جَمِيعَ ثُبُوتِهَا وَالخُنَّسِ
فَكَأَنَّهَا وَاللَّيْلُ نِيرَانُ الجَوَى قَدْ أُضْرِمَتْ فِي فِكْرَتِي مِنْ حِنْدِسِ
وَكَأَنَّنِي أَمْسَيْتُ حَارِسَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وُشِّعَ نَبْتُهَا بِالنَّرْجِسِ
لَوْ عَاشَ بَطْلَيمُوسُ أَيْقَنَ أَنَّنِي أَقْوَى الوَرَى فِي رَصْدِ جَرْيِ الكُنَّسِ
والشيء قد يذكر لما يُوجبه: وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد، وهو البيت الذي أوله «فكأنها والليل»، وهذا مستغرب في الشعر، ولي ما هو أكملُ منه، وهو تشبيه ثلاثة أشياء في بيت واحد، وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد، وكلاهما في هذه القطعة التي أُوردها، وهي:
 
مَشُوقٌ مُعَنًّى مَا يَنَامُ مُسَهَّدٌ بِخَمْرِ التَّجَنِّي مَا يَزَالُ يُعَرْبِدُ
فَفِي سَاعَةٍ يُبْدِي إِلَيْكَ عَجَائِبًا يُمِرُّ وَيَسْتَحْلِي وَيُدْنِي ويُبْعِدُ
كَأَنَّ النَّوَى وَالعَتبَ وَالهَجْرَ وَالرِّضَى قِرَانٌ وَأَنْدَادٌ وَنَحْسٌ وَأَسْعَدُ
رَثَى لِغَرَامِي بَعْدَ طُولِ تَمَنُّعٍ وَأَصْبَحْتُ مَحْسُودًا وَقَدْ كُنْتُ أَحْسُدُ
نَعِمْنَا عَلَى نُورٍ مِنَ الرَّوْضِ زَاهِرٍ سَقَتْهُ الغَوَادِي فَهْو يُثْنِي وَيَحمدُ
كَأَنَّ الحَيَا وَالمُزْنَ وَالرَّوْضَ عَاطِرًا دُمُوعٌ وَأَجْفَانٌ وخَدٌّ مُوَرَّدُ
ولا ينكر عليَّ منكر قولي «قران»؛ فأهل المعرفة بالكواكب يُسمُّون التقاء كوكبين في درجة واحدة قرانًا.
 
ولي أيضًا ما هو أتم من هذا، وهو تشبيه خمسة أشياء في بيت واحد في هذه القطعة، وهي:
 
خَلَوْتُ بِهَا وَالرَّاحُ ثَالِثَةٌ لَهَا وَجُنْحُ ظَلَامِ اللَّيْلِ قد مُدَّ مَا انْبَلَجْ
فَتَاةٌ عدمْتُ العَيْشَ إِلَّا بِقُرْبِهَا فَهَلْ فِي ابْتِغَاءِ العَيْشِ — وَيْحَكَ — مِنْ حَرَجْ
كَأَنِّي وَهِي والكَأْسَ والخَمْرَ والدُّجَى ثَرًى وَحْيًا والدُّرُّ والتِّبْرُ وَالسَّنَجْ
فهذا أمر لا مزيدَ فيه ولا يقدر أحدٌ على أكثرَ منه؛ إذ لا يَحتمل العَروضُ ولا بنية الأسماء أكثر من ذلك.
 
ويعرض للمُحبين القلقُ عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه لقاءَ من يُحب فيعرض عند ذلك حائل.
 
خبر
وإني لأعلم بعضَ مَن كان محبوبُه يَعده الزيارة، فما كنتُ أراه إلا جائيًا وذاهبًا لا يقرُّ به القرار، ولا يثبت في مكان واحد، مقبلًا مدبرًا قد استخفه السرور بعد ركانة، وأشاطه بعد رزانة. ولي في معنى انتظار الزيارة:
 
أَقَمْتُ إِلَى أَنْ جَاءَنِي اللَّيْلُ رَاجِيًا لِقَاءَكَ يَا سُؤْلِي وَيَا غَايَةَ الأَمَلْ
فَأَيْأَسَنِي الإِظْلَامُ عَنْكَ وَلَمْ أَكُنْ لِأَيْأَسَ يَوْمًا إِنْ بَدَا اللَّيْلُ يَتَّصِلْ
وَعِنْدِي دَلِيلٌ ليس يكذبُ خُبْره بأمْثَالِه في مُشْكَلِ الأَمْرِ يُسْتَدَل
لأَنَّكَ لَوْ رُمْتَ الزِّيَارَةَ لَمْ يَكُنْ ظَلَامٌ وَدَامَ النُّورُ فينا ولَمْ يَزُلْ
والثاني عند حادثٍ يحدُث بينهما من عتاب لا تُدْرَى حقيقته إلا بالوصف، فعند ذلك يشتدُّ القلق حتى توقف على الجليلة، فإما أن يذهب تحمُّله إن رجا العفو، وإما أن يصير القلق حزنًا وأسفًا إن تخوف الهجر.
 
ويعرض للمُحب الاستكانةُ لجفاء المحبوب عليه، وسيأتي مفسَّرًا في بابه إن شاء الله تعالى.
 
ومن أعراضه: الجزع الشديد والحُمرة المقطعة تغلب عندما يرى من إعراض محبوبه عنه ونِفاره منه، وآية ذلك الزفيرُ وقلةُ الحركة والتأوه وتنفس الصُّعَداء. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
جَمِيلُ الصَّبْرِ مَسْجُونٌ وَدَمْعُ العَيْنِ مَسْفُوح
ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصَّته حتى يكونوا أحظَى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته.
 
والبكاء من علامات المحب، ولكن يتفاضلون فيه؛ فمنهم غزير الدمع هامِل الشئون تجيبه عينه وتحضُره عبرته إذا شاء، ومنهم جَمود العين عديم الدَّمع، وأنا منهم. وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكُندر لخفقان القلب، وكان عَرَض لي في الصبا، فإني لأُصابُ بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطَّر ويتقطَّع، وأُحِس في قلبي غُصَّةً أمرَّ من العلقم تَحول بيني وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشوقني النفس أحيانًا ولا تجيب عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع.
 
خبر
ولقد أذكرني هذا الفصل يومًا: ودعت أنا وأبو بكر محمد بن إسحاق صاحبي أبا عامر محمد بن عامر صديقنا — رحمه الله — في سفرته إلى المشرق التي لم نَرَه بعدها، فجعل أبو بكر يبكي عند وداعه ويُنشد متمثِّلًا بهذا البيت:
 
أَلَا إِنَّ عَيْنًا لَمْ تَجُدْ يَوْمَ وَاسِطٍ عَلَيْكَ بِبَاقِي دَمْعِهَا لَجَمُودُ
وهو في رثاء يزيد بن عمر بن هَبيرة رحمه الله، ونحن وقوف على ساحل البحر بمالقة، وجعلت أنا أُكثر التفجُّع والأسف ولا تساعدني عيني، فقلت مُجيبًا لأبي بكر:
 
وإِنَّ امرَأً لَمْ يُفْنِ حُسْنَ اصْطِبَارِهِ عَلَيْكَ وَقَدْ فَارَقْتَهُ لَجَلِيدُ
وفي المذهب الذي عليه الناس أقول من قصيدة قلتُها قبل بلوغ الحُلُم، أولها:
 
دَلِيلُ الأَسَى نَارٌ عَلَى القَلْبِ تَلْفَحُ وَدَمْعٌ عَلَى الخَدَّيْنِ يَحْمَى وَيَسْفَحُ
إِذَا كَتَمَ المَشْغُوفُ سِرَّ ضُلُوعِهِ فَإِنَّ دُمُوعَ العَيْنِ تُبْدي وَتَفْضَحُ
إِذَا مَا جُفُونُ العَيْنِ سَالَتْ شُئُونُهَا فَفِي القَلْبِ دَاءٌ لِلْغَرَامِ مُبَرِّحُ
ويعرض في الحُبِّ سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين. وإني لأعلم من كان أحسن الناس ظنًّا وأوسعهم نفسًا وأكثرهم صبرًا وأشدهم احتمالًا وأرحبهم صدرًا، ثم لا يحتمل ممن يُحب شيئًا، ولا يقع له معه أيسر مخالفة حتى يُبدي من التَّعديد فنونًا، ومن سوء الظن وُجوهًا. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
أُسِيءُ ظَنِّي بِكُلِّ مُحتقِر تأتي بِهِ والحَقِيرُ مَنْ حَقَرْ
كَي لَا يُرَى أَصْلُ هِجْرَةٍ وَقلًى فَالنَّارُ فِي بَدْءِ أَمْرِهَا شَرَرْ
وأَصْلُ عُظْمِ الأُمُورِ أَهْوَنُهَا وَمِنْ صَغِيرِ النَّوَى تَرَى الشَّجَرْ
وترى المُحب، إذا لم يَثِق بنقاء طويَّة محبوبه له، كثيرَ التحفظ مما لم يكن يتحفَّظ منه قبل ذلك، مثقفًا لكلامه، مزينًا لحركاته ومرامي طرفه، ولا سيما إن دُهي بمتجنٍّ، وبُلي بمُعربد.
 
ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظُه لكُل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا تسقط عنه دقيقة ولا جليلة، وتتبُّعه لحركاته. ولعمري لقد تَرى البليد بصيرًا في هذه الحالة ذكيًّا، والغافل فطنًا.
 
خبر
ولقد كنتُ يومًا بالمريَّة قاعدًا في دكَّان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي، وكان بصيرًا بالفِراسة مُحسنًا لها، وكُنَّا في لمَّة، فقال له مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا؟ وأشار إلى رجل مُنتبذ عنَّا ناحية اسمه حاتم، ويُكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعةً يسيرةً ثم قال: هو رجل عاشق، فقال له: صدقت، فمن أين قلت هذا؟ قال: لِبُهْت مُفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس بمُريب.
باب من أحب في النوم
ولا بُد لكل حُب من سبب يكون له أصلًا، وأنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ليجري الكلامُ على نسق، أو أن يُبتدأ أبدًا بالسهل والأهون؛ فمن أسبابه شيء لولا أني شاهدته لم أذكره لغرابته.
 
خبر
وذلك أني دخلتُ يومًا على أبي السريِّ عمَّار بن زياد صاحبنا مولى المؤيد فوجدته مفكرًا مهتمًّا، فسألته عمَّا به، فتمنَّع ساعةً ثم قال: لي أُعجوبة ما سُمِعتْ قط. قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت في نَومي الليلةَ جاريةً، فاستيقظتُ وقد ذهَب قلبي فيها وهِمْت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها. ولقد بقي أيامًا كثيرةً تزيد على الشهر مغمومًا لا يهنئه شيء وَجْدًا، إلى أن عذلتُه وقلتُ له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتُعلِّق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم مَن هي؟ قال: لا والله. قلت: إنك لقَيْل الرأي مُصاب البصيرة إذ تحب مَن لم تره قط ولا خُلِق ولا هو في الدنيا، ولو عشقتَ صورةً من صور الحمام لكنت عندي أعذر. فما زِلتُ به حتى سلا وما كاد.
 
وهذا عندي من حديث النفس وأضغاثها، وداخل في باب التمني وتخيل الفكر. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
يَا لَيْتَ شِعْرِيَ مَنْ كَانَتْ وَكَيْفَ سَرَتْ أَطَلْعَةَ الشَّمْسِ كَانَتْ أَمْ هِيَ القَمَرُ؟
أَظنَّهُ العَقْلُ أَبْدَاهُ تَدَبُّرُهُ أَوْ صُورَةُ الرُّوحِ أَبْدَتْهَا لِيَ الفِكَرُ
أَوْ صُورَة مثلت في النَّفْسِ مِنْ أَمَلِي فَقَدْ تَخَيَّلَ فِي إِدْرَاكِهَا البَصَرُ
أَوْ لَمْ يَكُنْ كُل هَذَا فَهْي حَادِثَةٌ أَتَى بِهَا سَبَبًا فِي حَتْفِيَ القَدَرُ
باب من أحب بالوصف
ومن غريب أصول العشق أن تقع المَحبة بالوصف دون المُعاينة، وهذا أمر يُترقَّى منه إلى جميع الحب، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الأبصار، فإن للحكايات ونعت المحاسن ورصف الأخبار تأثيرًا في النفس ظاهرًا.
 
وأن تسمع نَغمتها من وراء جدار، فيكون سببًا للحب واشتغال البال.
 
وهذا كله قد وقع لغير ما واحد، ولكنه عندي بُنيان هارٍ على غير أُسٍّ، وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى مَن لم يرَ لا بُد له إذ يخلو بفكره أن يُمثل لنفسه صورةً يتوهمها، وعينًا يُقيمها نُصب ضميره، لا يتمثَّل في هاجسِه غيرَها، قد مال بوهمه نحوها، فإن وقعت المُعاينة يومًا ما فحينئذٍ يتأكَّد الأمر أو يبطل بالكلية، وكلا الوجهين قد عَرض وعُرف. وأكثرُ ما يقع هذا في ربَّات القُصور المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال، وحُب النساء في هذا أثبت من حُب الرجال؛ لضعفهن وسُرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن، وتمكُّنه منهن. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
وَيَا مَنْ لَامَنِي فِي حُبِّ مَنْ لَمْ يَرَهُ طَرْفِي
لَقَدْ أَفْرَطْتَ فِي وَصْفِـ ـكَ لِي فِي الحُبِّ بِالضَّعْفِ
فَقُلْ: هَلْ تُعْرَفُ الجَنَّـ ـةُ يَوْمًا بِسِوَى الوَصْفِ
وأقول شعرًا في استحسان النَّغمة دون وقوع العين على العيان، منه:
 
قَدْ حَلَّ جَيْشُ الغَرَامِ سَمْعِي وَهْوَ عَلَى مُقْلَتَيَّ يَبْدُو
وأقول أيضًا في مخالفة الحقيقة لظنِّ المحبوب عند وقوع الرؤية:
 
وَصَفُوكَ لِي حَتَّى إِذَا أَبْصَرْتُ مَا وَصَفُوا علمتُ بِأَنَّهُ هَذَيَانُ
فَالطَّبْلُ جِلْدٌ فَارِغٌ وَطَنِينُهُ يَرْتَاعُ مِنْهُ وَيَفْرَقُ الإِنْسَانُ
وفي ضد هذا أقول:
 
لَقَدْ وَصَفُوكَ لِي حَتَّى الْتَقَيْنَا فَصَارَ الظَّنُّ حَقًّا فِي العِيَانِ
فَأَوْصَافُ الجِنَانِ مُقَصِّرَاتٌ عَلَى التَّحْقِيقِ عَنْ قَدرِ الجِنَانِ
وإن هذه الأحوال لتحدُث بين الأصدقاء والإخوان، وعني أُحدث.
 
خبر
إنه كان بيني وبين رجل من الأشراف ودٌّ وكيد وخطاب كثير، وما تراءينا قط، ثم منح الله لي لقاءه، فما مرَّت إلا أيام قلائل حتى وقعت لنا مُنافرة عظيمة ووحشة شديدة متصلة إلى الآن، فقلت في ذلك قطعةً، منها:
 
أبدلت أَشْخَاصنَا كُرْهًا وَفَرْطَ قِلًى كَمَا الصَّحَائِفُ قَدْ يُبْدَلْنَ بِالنَّسْخِ
ووقع لي ضدُّ هذا مع أبي عامر بن أبي عامر — رحمة الله عليه — فإني كنت له على كراهة صحيحة، وهو لي كذلك، ولم يرني ولا رأيته، وكان أصل ذلك تَنقيلًا يُحمل إليه عني وإليَّ عنه، ويؤكده انحراف بين أبوينا لتنافسهما فيما كانا فيه من صُحبة السلطان ووجاهة الدنيا، ثم وفَّق الله الاجتماعَ به، فصار لي أودَّ الناس، وصرتُ له كذلك إلى أن حال الموت بيننا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
أَخٌ لِي كَسَّبَنِيهِ اللِّقَاءُ وَأَوْجَدَنِي فِيهِ عِلْقًا شَرِيفًا
وَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ مِنْهُ الجِوَارَ وَمَا كُنْتُ أَرْغَبُهُ لِي أَلِيفًا
وَكَانَ البَغِيضَ فَصَارَ الحَبِيبَ وَكَانَ الثَّقِيلَ فَصَارَ الخَفِيفَا
وَقَدْ كُنْتُ أُدْمِنُ عَنْهُ الوَجِيفَ فَصِرْتُ أُدِيمُ إِلَيْهِ الوَجِيفَا
وأما أبو شاكر عبد الرحمن بن محمد القبريُّ فكان لي صديقًا مدةً على غير رؤية، ثم التقينا فتأكَّدت المودة واتصلت وتمادت إلى الآن.

 
باب من أحب من نظرة واحدة
وكثيرًا ما يكون لُصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة، وهو ينقسم قسمين، فالقسم الواحد مخالف للذي قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورةً لا يعلم من هي، ولا يدري لها اسمًا ولا مستقرًّا. وقد عرض هذا لغير واحد.
خبر
حدثني صاحبنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسحاق عن ثقة أخبره — سقط عني اسمه، وأظنه القاضي ابن الحذاء — أن يوسف بن هارون الشاعر المعروف بالرَّماديِّ كان مجتازًا عند باب العطارين بقُرطبة — وهذا الموضع كان مجتمعَ النساء — فرأى جاريةً أخذت بمجامع قلبه، وتخلَّل حبُّها جميعَ أعضائه، فانصرف عن طريق الجامع وجعل يَتبعها وهي ناهضة نحو القنطرة، فجازتها إلى الموضع المعروف بالرَّبَض. فلما صارت بين رياض بني مروان — رحمهم الله — المبنية على قبورهم في مقبرة الربض خَلْف النهر، نَظرت منه مُنفردًا عن الناس لا همَّة له غيرها، فانصرفت إليه فقالت له: ما لك تمشي ورائي؟ فأخبرها بعظيم بليَّته بها، فقالت له: دَعْ عنك هذا ولا تطلُب فضيحتي؛ فلا مطمع لك في النِّية، ولا إلى ما ترغبه سبيل. فقال: إني أقنع بالنظر. فقالت: ذلك مُباح لك. فقال لها: يا سيدتي، أحُرَّة أم مملوكة؟ قالت: مملوكة. فقال لها: ما اسمك؟ قالت: خلوة. قال: ولمن أنت؟ فقالت له: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك مما سألت عنه؛ فدع المحال. فقال لها: يا سيدتي، وأين أراكِ بعد هذا؟ قالت: حيث رأيتَني اليومَ في مثل تلك الساعة من كل جُمعة. فقالت له: إما أن تَنهض أنت وإما أنهض أنا. فقال لها: انهضي في حفظ الله. فنهضت نحو القَنطرة ولم يمكنه اتباعها؛ لأنها كانت تلتفت نحوه لترى أيُسايرها أم لا، فلما تجاوزت باب القنطرة أتى يقفوها فلم يقع لها على مسألة.
قال أبو عمر، وهو يوسف بن هارون: فوالله لقد لازمت باب العطَّارين والرَّبض من ذلك الوقت إلى الآن، فما وقعتُ لها على خبر، ولا أدري أسَماءٌ لَحَستْها أم أرضٌ بلعتْها، وإن في قلبي منها لأحَرَّ من الجمر. وهي خلوة التي يَتغزَّل بها في أشعاره.
ثم وقع بعد ذلك على خَبرها بعد رحيله في سببها إلى سَرَقسطة في قصة طويلة. ومثل ذلك كثير، وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
عَيْنِي جَنَتْ فِي فُؤَادِي لَوْعَةَ الفِكَرِ فَأُرسلُ الدَّمْعَ مُقْتَصًّا مِنَ البَصَرِ
فَكَيْفَ تُبْصِرُ فعل الدَّمْع مُنْتَصِفًا مِنْهَا بِإغْرَاقِهَا فِي دَمْعِهَا الدُّرَرِ
لَمْ أَلْقَهَا قَبْلَ إِبْصَارِي فَأَعْرِفَهَا وَآخِرُ العَهْدِ مِنْهَا سَاعَةُ النَّظَرِ
والقسم الثاني مخالف للباب الذي يأتي بعد هذا الباب إن شاء الله، وهو أن يعلق المرءُ من نظرةٍ واحدةٍ جاريةً معروفة الاسم والمكان والمَنشأ، ولكن التفاضل يقع في هذا في سُرعة الفناء وإبطائه، فمن أحب من نظرة واحدة وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة؛ فهو دليل على قلَّة الصبر، ومُخبرٌ بسرعة السلو، وشاهد الظرافة والملل، وهكذا في جميع الأشياء أسرعُها نموًّا أسرعها فناءً، وأبطؤها حدوثًا أبطؤها نفاذًا.
 
خبر
إني لأعلم فتًى من أبناء الكُتَّاب ورأته امرأة سرية النشأة، عالية المنصب، غليظة الحجاب، وهو مُجتاز، ورأته في موضع تَطلَّعَ منه كان في منزلها، فعلقتْه وعَلقها، وتهاديا المراسلة زمانًا على أرق من حد السيف، ولولا أني لم أقصد في رسالتي هذه كشفَ الحيل وذكر المكائد لأوردتُ مما صحَّ عندي أشياء تُحيِّر اللبيب وتدهش العاقل. أسبل الله علينا ستره وعلى جميع المسلمين بمَنِّه، وكفانا.

 باب من لا يحب إلا مع المطاولة
ومن الناس من لا تصحُّ محبته إلا بعد طولِ المُخافتة، وكثيرِ المُشاهدة، ومتمادي الأُنس، وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت ولا يَحيك فيه مرُّ الليالي، فما دَخل عسيرًا لم يخرج يسيرًا؛ وهذا مذهبي. وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل قال للروح — حين أمره أن يدخل جسدَ آدم وهو فخَّار فهابَ وجَزعَ: ادخُل كرهًا واخرُج كرهًا. حُدِّثناه عن شيوخنا.
 
ولقد رأيت من أهل هذه الصفة مَن إن أَحسَّ من نفسه بابتداء هوًى، أو توَجَّس مِن استحسانه ميلًا إلى بعض الصور؛ استعمل الهجر وترك الإلمام لئلا يزيد ما يجد فيخرج الأمر عن يده، ويُحال بين العَيْر والنَّزَوان. وهذا يدل على لُصوق الحُب بأكباد أهل هذه الصفة، وأنه إذا تمكَّن منهم لم يُحَلَّ أبدًا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
سَأبعدُ عَنْ دَوَاعِي الحُبِّ إِنِّي رَأَيْتُ الحَزْمَ مِنْ صِفَةِ الرَّشِيدِ
رَأَيْتُ الحُبَّ أَوَّلُهُ التَّصَدِّي بَعَيْنِكَ فِي أَزَاهِيرِ الخُدُودِ
فَبَيْنَا أَنْتَ مُغْتَبِطٌ مُخَلًّى إِذَا قَدْ صِرْتَ فِي حَلَقِ القُيُودِ
كَمُغْتَرٍّ بِضَحْضَاحٍ قَرِيبٍ فَذَلَّ فَغَابَ فِي غمرِ المدودِ
وإني لأطيل العجب مِن كل مَن يدعي أنه يحب مِن نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حُبَّه إلا ضربًا من الشهوة، وأما أن يكون في ظنِّي متمكنًا من صميم الفؤاد نافذًا في حجاب القلب فما أُقدِّر ذلك، وما لصق بأحشائي حُبٌّ قطُّ إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جدٍّ وهزل، وكذلك أنا في السلوِّ والتوقي، فما نسيت ودًّا لي قطُّ، وإن حَنيني إلى كل عهد تقدَّم لي ليُغِصُّني بالطعام، ويُشرقني بالماء — وقد استراح مَن لم تكن هذه صفتُه — وما مللتُ شيئًا قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس بشيء قط أولَ لقائي له، وما رغبتُ في الاستبدال إلى سبب من أسبابي مذ كنت، لا أقول في الأُلَّاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يَستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعتُ بعيش ولا فارقني الإطراق والانفلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشَجًى يعتادني وولوع همٍّ ما ينفكُّ يَطْرُقني، ولقد نغَّصَ تذكري ما مَضى كلَّ عيشٍ أستأنفه، وإني لقَتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا. والله المحمود على كل حال لا إله إلا هو. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
مَحَبَّةُ صِدْقٍ لَمْ تَكُنْ بِنْتَ سَاعَةٍ وَلَا وَرِيَتْ حِينَ ارْتِيَادٍ زِنَادُهَا
وَلَكِنْ عَلَى مَهلٍ سَرَتْ وَتَوَلَّدَتْ بِطُولِ امْتِزَاجٍ فَاسْتَقَرَّ عِمَادُهَا
فَلَمْ يَدْنُ مِنْهَا عَزْمُهَا وَانْتِفَاضُهَا وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا مُكْثُهَا وَازْدِيَادُهَا
يُؤَكِّدُ ذَا أَنَّا نَرَى كُلَّ نَشْأَةٍ تَتِمُّ سَرِيعًا عَنْ قَرِيبٍ معادُهَا
وَلَكِنَّنِي أَرْضٌ عزَازٌ صليبةٌ مَنِيعٌ إلى كُل الغُرُوسِ انْقِيَادُهَا
فَمَا نَفِدتْ مِنْهَا لَدَيْهَا عُرُوقُهَا فَلَيْسَتْ تُبَالِي أَنْ تَجُودَ عِهَادُهَا
ولا يظن ظانٌّ ولا يتوهَّم متوهِّم أن كل هذا مخالف لقولي المسطر في صدر الرسالة، أن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العُلوي، بل هو مؤكِّد له؛ فقد علمنا أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتْها الحُجب، ولحقتْها الأغراض، وأحاطتْ بها الطبائع الأرضية الكونية، فسترت كثيرًا من صفاتها وإن كانت لم تحله، لكن حالت دونه فلا يُرجَى الاتصال على الحقيقة إلا بعد التهيؤ من النفس والاستعداد له، وبعد إيصال المعرفة إليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت مما يُشابهها من طبائع المحبوب، فحينئذٍ يتصل اتصالًا صحيحًا بلا مانع.
 
وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة، فإذا غَلبت الشهوة وتجاوزت هذا الحد، ووافق الفصلَ اتصالٌ نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس يُسمَّى عشقًا. ومن هذا دخل الغَلَط على من يزعُم أنه يُحب اثنين، ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرنا آنفًا، وهي على المجاز تسمى محبةً لا على التحقيق. وأما نفس المحب فما في المَيل به فضل يصرفه من أسباب دينه ودنياه، فكيف بالاشتغال بحبٍّ ثانٍ. وفي ذلك أقول:
 
كَذبَ المُدَّعِي هَوَى اثْنَيْنِ حَتْمًا مِثْلَمَا فِي الأُصُولِ أُكْذِب مَانِي
لَيْسَ فِي القَلْبِ مَوْضِعٌ لَحَبِيبَيْـ ـنِ وَلَا أَحْدَثُ الأُمُورِ بِثَانِي
فَكَمَا العَقْلُ وَاحِدٌ لَيْسَ يَدْرِي خَالِقًا غَيْرَ وَاحِدٍ رَحْمَنِ
فَكَذَا القَلْبُ وَاحِدٌ لَيْسَ يَهْوَى غَيْرَ فَرْدٍ مُبَاعِدٍ أَوْ مُدَانِ
هو في شِرْعَة المَوَدَّةِ ذُو شَكٍّ بَعِيدٍ مِنْ صِحَّةِ الإِيمَانِ
وَكَذَا الدِّيْنُ وَاحِدٌ مُسْتَقِيمٌ وَكَفُورٌ مِنْ عندهِ دِينَانِ
وإني لأعرف فتًى من أهل الجدِّ والحسب والأدب كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حُبِّه، وأكثر من ذلك كارهة له لقلة حلاوة شمائل كانت فيه، وقُطوب دائم كان لا يفارقه، ولا سيما مع النساء، فكان لا يلبث إلا يسيرًا ريثما يصل إليها بالجماع ويعود ذلك الكُره حبًّا مفرطًا، وكلفًا زائدًا، واستهتارًا مكشوفًا، ويتحول الضجر لصحبته ضجرًا لفراقه. صحبه هذا الأمر في عدة منهن، فقال بعضُ إخواني: فسألته عن ذلك فتبسم نحوي وقال: إذًا والله أخبرك؛ أنا أبطأ الناس إنزالًا، تقضي المرأة شهوتها وربما ثنَّت وإنزالي وشهوتي لم ينقضيا بعدُ، وما فترت بعدها قط، وإني لأبقى بمُنَّتي بعد انقضائها الحين الصالح، وما لاقى صدري صدر امرأة قط عند الخلوة إلا عند تعمدي المعانقة، وبحسب ارتفاع صدري نزول مؤخري.
 
فمثل هذا وشبهه إذا وافق أخلاق النفس ولَّد المحبة؛ إذ الأعضاء الحسَّاسة مسالك إلى النفوس ومؤديات نحوها.
باب من أحب صفةً لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم — أعزَّك الله — أن للحُب حكمًا على النفوس ماضيًا، وسلطانًا قاضيًا، وأمرًا لا يخالَف، وحدًّا لا يُعصى، وملكًا لا يُتعدَّى، وطاعةً لا تُصرف، ونفاذًا لا يُرد؛ وأنه ينقض المِرَر، ويَحُلُّ المُبرَم، ويُحلِّل الجامد، ويُخِلُّ الثابت، ويَحِلُّ الشغافَ، ويُحِلُّ الممنوع. ولقد شاهدت كثيرًا من الناس لا يُتَّهمون في تمييزهم، ولا يُخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحُسن اختيارهم، ولا تَقصير في حَدْسهم، قد وصفوا أحبابًا لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمُستحسن عند الناس، ولا يُرضى في الجمال، فصارت هِجِّيراهم، وعُرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم. ثم مضى أولئك إمَّا بسلوٍّ أو بَيْنٍ أو هجر، أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلُها على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها، بل صارت تلك الصفات المُستجادة عند الناس مهجورةً عندهم وساقطةً لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم، حنينًا منهم إلى مَن فقدوه، وألفة لمن صحبوه.
 
وما أقول إن ذلك كان تصنُّعًا، لكن طبعًا حقيقيًّا واختيارًا لا دَخَل فيه، ولا يرَوْن سواه، ولا يقولون في طيِّ عَقْدهم بغيره. وإني لأعرف من كان في جِيد حبيبه بعضُ الوقص فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك. وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القِصَر فما أحبَّ طويلةً بعد هذا، وأعرف أيضًا من هوَى جاريةً في فمها فَوَه لطيف، فلقد كان يتقذَّر كل فم صغير ويذُمُّه ويكرهه الكراهية الصحيحة. وما أصف عن مَنقوصي الحظُوظ في العلم والأدب، لكن عن أوفر الناس قسطًا في الإدراك، وأحقهم باسم الفهم والدِّراية.
 
وعنِّي أخبرك أني أحببتُ في صباي جاريةً لي شقراء الشعر، فما استحسنتُ من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه. وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تُؤاتيني نفسي على سواه، ولا تحب غيره البتة. وهذا العارض بعينه عَرض لأبي — رضي الله عنه — وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجلُه.
 
وأما جماعة خلفاء بني مروان — رحمهم الله — ولا سيما ولدُ الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لَدُن دولة الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر؛ نزاعًا إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خِلقة، حاشا سليمان الظافر — رحمه الله — فإني رأيته أسود اللمَّة واللحية.
 
وأما الناصر والحكم المُستنصر — رضي الله عنهما — فحدثني الوزير أبي — رحمه الله — وغيره أنهما كانا أشقرَين أشهلين، وكذلك هشام المؤيَّد، ومحمد المهدي، وعبد الرحمن المرتضي — رحمهم الله — فإني قد رأيتهم مرارًا، ودخلت عليهم فرأيتهم شُقرًا شُهلًا، وهكذا أولادهم وإخوتهم وجميع أقاربهم، فلا أدري أذلك استحسان مركَّب في جميعهم أم لرواية كانت عند أسلافهم في ذلك فجرَوْا عليها. وهذا ظاهر في شعر عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر، وهو المعروف بالطليق، وكان أشعر أهل الأندلس في زمانهم، وأكثر تغزله فبالشُّقر، وقد رأيته وجالسته.
 
وليس العجب فيمن أحبَّ قبيحًا ثم لم يَصحبه ذلك في سواه، فقد وقع من ذلك، ولا فيمن طُبع مذ كان على تفضيل الأدنى، ولكن فيمن كان ينظُر بعين الحقيقة ثم غَلب عليه هوًى عارضٌ بعد طول بقائه في الجماعة، فأحاله عما عهدتْه نفسُه حوالةً صارت له طبعًا، وذهب طبعه الأول وهو يعرف فضل ما كان عليه أوَّلًا، فإذا رجع إلى نفسه وجدها تأبَى إلا الأدنى، فأعجب لهذا التغلب الشديد والتسلط العظيم، وهو أصدق المحبة حقًّا، لا من يتحلَّى بشِيَم قوم ليس منهم، ويدَّعي غريزةً لا تقبله، فيزعم أنه يتخيَّر من يحب. أما لو شغل الحب بصيرته وأطاح فكرته، وأجحف بتمييزه؛ لحال بينه وبين التخيُّل والارتياد. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
مِنْهُمْ فَتًى كَانَ فِي مَحْبُوبِهِ وَقَص كَأَنَّمَا الغيدُ فِي عَيْنَيْهِ جنَّانُ
وَكَانَ مُنْبَسِطًا فِي فَضْلِ خِبْرَتِهِ بِحُجَّةٍ حَقُّهَا فِي القَوْلِ تِبْيَانُ
إِنَّ المَهَا وَبِهَا الأَمْثَالُ سَائِرَةٌ لَا يُنْكِرُ الحُسْنَ فِيهَا الدَّهْرَ إِنْسَانُ
وُقْصٌ فَلَيْسَ بِهَا عَنْقَاءُ وَاحِدَةٌ وَهَلْ تُزَانُ بِطُولِ الجِيدِ بُعْرَانُ
وَآخَرٌ كَانَ فِي مَحْبُوبِهِ فَوَهٌ يَقُولُ حَسْبِيَ فِي الأَفْوَاهِ غِزلَانُ
وَثَالِثٌ كَانَ فِي مَحْبُوبِه قِصَرٌ يَقُولُ إِنَّ ذَوَاتِ الطُّولِ غِيلَانُ
وأقول أيضًا:
 
يَعِيبُونَهَا عِنْدِي بِشُقْرَةِ شَعْرِهَا فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي زَانَهَا عِنْدِي
يَعِيبُونَ لَوْنَ النَّورِ وَالتِّبْرِ ضِلَّةً لِرَأْيِ جَهُولٍ فِي الغِوَايَةِ مُمْتَدِّ
وَهَلْ عَابَ لَوْنَ النَّرْجِسِ الغَضِّ عَائِبٌ وَلَوْنَ النُّجُومِ الزَّاهِرَاتِ عَلَى البُعْد
وَأَبْعَدُ خَلْقِ الله مِنْ كُلِّ حِكْمَةٍ مُفَضِّلُ جِرْمٍ فَاحِمِ اللَّوْنِ مُسْوَدِّ
بِهِ وُصِفَتْ أَلْوَانُ أَهْلِ جَهَنَّمٍ وَلِبْسَةُ بِاكٍ مُثْكَلِ الأَهْلِ مُحْتَدِّ
وَمُذْ لَاحَتِ الرَّايَاتُ سُودًا تَيَقَّنتْ نُفُوسُ الوَرَى أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّشْدِ
باب من أحب صفةً لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم — أعزَّك الله — أن للحُب حكمًا على النفوس ماضيًا، وسلطانًا قاضيًا، وأمرًا لا يخالَف، وحدًّا لا يُعصى، وملكًا لا يُتعدَّى، وطاعةً لا تُصرف، ونفاذًا لا يُرد؛ وأنه ينقض المِرَر، ويَحُلُّ المُبرَم، ويُحلِّل الجامد، ويُخِلُّ الثابت، ويَحِلُّ الشغافَ، ويُحِلُّ الممنوع. ولقد شاهدت كثيرًا من الناس لا يُتَّهمون في تمييزهم، ولا يُخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحُسن اختيارهم، ولا تَقصير في حَدْسهم، قد وصفوا أحبابًا لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمُستحسن عند الناس، ولا يُرضى في الجمال، فصارت هِجِّيراهم، وعُرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم. ثم مضى أولئك إمَّا بسلوٍّ أو بَيْنٍ أو هجر، أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلُها على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها، بل صارت تلك الصفات المُستجادة عند الناس مهجورةً عندهم وساقطةً لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم، حنينًا منهم إلى مَن فقدوه، وألفة لمن صحبوه.
 
وما أقول إن ذلك كان تصنُّعًا، لكن طبعًا حقيقيًّا واختيارًا لا دَخَل فيه، ولا يرَوْن سواه، ولا يقولون في طيِّ عَقْدهم بغيره. وإني لأعرف من كان في جِيد حبيبه بعضُ الوقص فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك. وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القِصَر فما أحبَّ طويلةً بعد هذا، وأعرف أيضًا من هوَى جاريةً في فمها فَوَه لطيف، فلقد كان يتقذَّر كل فم صغير ويذُمُّه ويكرهه الكراهية الصحيحة. وما أصف عن مَنقوصي الحظُوظ في العلم والأدب، لكن عن أوفر الناس قسطًا في الإدراك، وأحقهم باسم الفهم والدِّراية.
 
وعنِّي أخبرك أني أحببتُ في صباي جاريةً لي شقراء الشعر، فما استحسنتُ من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه. وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تُؤاتيني نفسي على سواه، ولا تحب غيره البتة. وهذا العارض بعينه عَرض لأبي — رضي الله عنه — وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجلُه.
 
وأما جماعة خلفاء بني مروان — رحمهم الله — ولا سيما ولدُ الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لَدُن دولة الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر؛ نزاعًا إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خِلقة، حاشا سليمان الظافر — رحمه الله — فإني رأيته أسود اللمَّة واللحية.
 
وأما الناصر والحكم المُستنصر — رضي الله عنهما — فحدثني الوزير أبي — رحمه الله — وغيره أنهما كانا أشقرَين أشهلين، وكذلك هشام المؤيَّد، ومحمد المهدي، وعبد الرحمن المرتضي — رحمهم الله — فإني قد رأيتهم مرارًا، ودخلت عليهم فرأيتهم شُقرًا شُهلًا، وهكذا أولادهم وإخوتهم وجميع أقاربهم، فلا أدري أذلك استحسان مركَّب في جميعهم أم لرواية كانت عند أسلافهم في ذلك فجرَوْا عليها. وهذا ظاهر في شعر عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر، وهو المعروف بالطليق، وكان أشعر أهل الأندلس في زمانهم، وأكثر تغزله فبالشُّقر، وقد رأيته وجالسته.
 
وليس العجب فيمن أحبَّ قبيحًا ثم لم يَصحبه ذلك في سواه، فقد وقع من ذلك، ولا فيمن طُبع مذ كان على تفضيل الأدنى، ولكن فيمن كان ينظُر بعين الحقيقة ثم غَلب عليه هوًى عارضٌ بعد طول بقائه في الجماعة، فأحاله عما عهدتْه نفسُه حوالةً صارت له طبعًا، وذهب طبعه الأول وهو يعرف فضل ما كان عليه أوَّلًا، فإذا رجع إلى نفسه وجدها تأبَى إلا الأدنى، فأعجب لهذا التغلب الشديد والتسلط العظيم، وهو أصدق المحبة حقًّا، لا من يتحلَّى بشِيَم قوم ليس منهم، ويدَّعي غريزةً لا تقبله، فيزعم أنه يتخيَّر من يحب. أما لو شغل الحب بصيرته وأطاح فكرته، وأجحف بتمييزه؛ لحال بينه وبين التخيُّل والارتياد. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
مِنْهُمْ فَتًى كَانَ فِي مَحْبُوبِهِ وَقَص كَأَنَّمَا الغيدُ فِي عَيْنَيْهِ جنَّانُ
وَكَانَ مُنْبَسِطًا فِي فَضْلِ خِبْرَتِهِ بِحُجَّةٍ حَقُّهَا فِي القَوْلِ تِبْيَانُ
إِنَّ المَهَا وَبِهَا الأَمْثَالُ سَائِرَةٌ لَا يُنْكِرُ الحُسْنَ فِيهَا الدَّهْرَ إِنْسَانُ
وُقْصٌ فَلَيْسَ بِهَا عَنْقَاءُ وَاحِدَةٌ وَهَلْ تُزَانُ بِطُولِ الجِيدِ بُعْرَانُ
وَآخَرٌ كَانَ فِي مَحْبُوبِهِ فَوَهٌ يَقُولُ حَسْبِيَ فِي الأَفْوَاهِ غِزلَانُ
وَثَالِثٌ كَانَ فِي مَحْبُوبِه قِصَرٌ يَقُولُ إِنَّ ذَوَاتِ الطُّولِ غِيلَانُ
وأقول أيضًا:
 
يَعِيبُونَهَا عِنْدِي بِشُقْرَةِ شَعْرِهَا فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي زَانَهَا عِنْدِي
يَعِيبُونَ لَوْنَ النَّورِ وَالتِّبْرِ ضِلَّةً لِرَأْيِ جَهُولٍ فِي الغِوَايَةِ مُمْتَدِّ
وَهَلْ عَابَ لَوْنَ النَّرْجِسِ الغَضِّ عَائِبٌ وَلَوْنَ النُّجُومِ الزَّاهِرَاتِ عَلَى البُعْد
وَأَبْعَدُ خَلْقِ الله مِنْ كُلِّ حِكْمَةٍ مُفَضِّلُ جِرْمٍ فَاحِمِ اللَّوْنِ مُسْوَدِّ
بِهِ وُصِفَتْ أَلْوَانُ أَهْلِ جَهَنَّمٍ وَلِبْسَةُ بِاكٍ مُثْكَلِ الأَهْلِ مُحْتَدِّ
وَمُذْ لَاحَتِ الرَّايَاتُ سُودًا تَيَقَّنتْ نُفُوسُ الوَرَى أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّشْدِ

باب التعريض بالقول
ولا بُد لكل مَطلوبٍ من مدخل إليه، وسببٍ يُتوصَّل به نحوه، فلم ينفرد بالاختراع دون واسطة إلا العليمُ الأول جلَّ ثناؤه. فأول ما يستعمل طُلَّاب الوصل وأهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحِبَّتِهم التعريضُ بالقول؛ إما بإنشاد شعر، أو بإرسال مُثُل، أو تعمية بيت، أو طرح لغز، أو تسليط كلام.
 
والناس يختلفون في ذلك على قدر إدراكهم، وعلى حسب ما يرونه من أحبتهم من نفار أو أُنس أو فطنة أو بلادة. وإني لأعرف من ابتدأ كشف محبته إلى من كان يُحب بأبيات قلتُها؛ فهذا وشبهه يَبتدئ به الطالب للمودة، فإن رأى أُنسًا وتسهيلًا زاد، وإن يُعاين شيئًا من هذه الأمور في حين إنشاده لشيء مما ذكرنا، أو إيراده لبعض المعاني التي حدَّدنا، فانتظاره الجواب إما بلفظ أو بهيئة الوجه والحركات لَمَوْقِفٌ بين الرجاء واليأس هائل، وإن كان حينًا قصيرًا، ولكنه إشراف على بلوغ الأمل أو انقطاعه.
 
ومن التعريض بالقول: جنسٌ ثانٍ، ولا يكون إلا بعد الاتفاق ومعرفة المحبَّة من المحبوبِ، فحينئذٍ يقع التشكِّي، وعقد المواعيد، والتغرير، وإحكام المودات بالتعريض، وبكلام يظهر لسامعه منه معنًى غير ما يذهبان إليه، فيجيب السامع عنه بجواب غير ما يتأدَّى إلى المقصود بالكلام، على حسب ما يتأدَّى إلى سمعه، ويسبق إلى وهمه، وقد فهم كلُّ واحد منهما عن صاحبه، وأجابه بما لا يفهمه غيرُهما، إلَّا من أُيِّد بحسٍّ نافذ، وأُعين بذكاء، وأُمدَّ بتجربة، ولا سيما إن أحس من معانيهما بشيء، وقَلَّما يغيب عن المتوسِّم المجيد؛ فهنالك لا خفاء عليه فيما يريدان.
 
وأنا أعرف فتًى وجاريةً كانا يتحابان، فأرادها في بعض وَصْلها على بعض ما لا يجمل، فقالت: والله لأشكونَّك في الملأ علانيةً، ولأفضحنك فضيحةً مستورةً. فلما كان بعد أيام حضرت الجاريةُ مجلس بعض أكابر المُلوك وأركان الدولة وأجلِّ رجال الخلافة، وفيه ممن يُتوقَّى أمره من النساء والخدم عددٌ كثير، وفي جملة الحاضرين ذلك الفتى؛ لأنه كان بسبب من الرئيس، وفي المجلس مغنياتٌ غيرُها، فلما انتهى الغناء إليها سوَّت عودها، واندفعت تغني بأبيات قديمة، وهي:
 
غَزَالٌ قَدْ حَكَى بَدْرَ التَّمَامِ كَشَمْسٍ قَدْ تَجَلَّتْ مِنْ غَمَامِ
سَبَى قَلْبِي بِأَلْحَاظٍ مِرَاضٍ وقَدِّ الغُصْنِ فِي حُسْنِ القَوَامِ
خَضَعتُ خُضُوعَ صَبٍّ مُسْتَكِينٍ لَهُ وذَللتُ ذِلَّةَ مُسْتَهَامِ
فَصِلْنِي يَا فَدَيْتُكَ فِي حَلَالٍ فَمَا أَهْوَى وِصَالًا فِي حَرَام
وعلمت أنا هذا الأمر فقلت:
 
عِتَابٌ وَاقِعٌ وَشكَاةُ ظُلْمِ أَتَتْ مِنْ ظَالِمٍ حَكَمٍ وَخَصْمِ
تَشَكَّتْ مَا بِهَا لَمْ يَدْرِ خَلْقٌ سِوَى المَشْكُوِّ مَا كَانَتْ تُسَمِّي

باب الإشارة بالعين
ثم يتلو التعريضَ بالقول، إذا وقع القبولُ والموافقة، الإشارةُ بلحظ العين، وإنه ليقوم في هذا المعنى المقامَ المحمود، ويبلغ المبلغ العجيب، ويُقطَع به ويُتواصل، ويُوعد ويُهدد، وينتهر ويبسط، ويُؤْمر ويُنْهى، وتُضرب به الوعود، ويُنبَّه على الرقيب، ويُضحَك ويُحزَن، ويُسأل ويُجاب، ويُمنع ويُعطى.
ولكل واحد من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ لا يُوقف على تحديده إلا بالرؤية، ولا يُمكن تصويرُه ولا وصفُه إلا بالأقل منه، وأنا واصف ما تيسر من هذه المعاني: فالإشارة بمُؤخِّر العين الواحدة نَهي عن الأمر، وتفتيرها إعلام بالقَبول، وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرح.
والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مُشار إليه.
والإشارة الخفيَّة بمؤخر العينين كلتيهما سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين إلى المُوق بسرعة شاهدُ المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عام، وسائر ذلك لا يُدرَك إلا بالمشاهدة.
واعلم أن العين تنوب عن الرُّسل، ويُدرَك بها المراد، والحواس الأربع أبواب إلى القلب ومنافذ نحو النفس، والعين أبلغها، وأصحها دلالةً، وأوعاها عملًا، وهي رائد النفس الصادق، ودليلها الهادي، ومرآتها المَجْلُوَّة التي بها تَقف على الحقائق، وتميِّز الصفات، وتفهم المحسوسات، وقد قيل: ليس المُخبَر كالمعايِن. وقد ذكر ذلك أفليمون صاحبُ الفِراسة، وجعلها مُعتمده في الحكم. وبحسبك من قوة إدراك العين أنها إذا لاقى شعاعُها شعاعًا مجلوًّا صافيًا، إما حديدًا مفصولًا أو زجاجًا أو ماءً أو بعض الحجارة الصافية أو سائر الأشياء المجلوة البراقة ذوات الرفيف والبصيص واللمعان، يتصل أقصى حدوده بجسم كثيف ساتر منَّاع كدِر، انعكس شعاعُها؛ فأدرك الناظرُ نفسَه ومازها عيانًا.
وهو الذي ترى في المرآة، فأنت حينئذٍ كالناظر إليك بعين غيرك. ودليل عيانيٌّ على هذا أنك تأخذ مرآتين كبيرتين فتُمسك إحداهما بيمينك خلف رأسك، والثانية بيسارك قبالة وجهك، ثم تزويها قليلًا حتى يلتقيان بالمقابلة، فإنك ترى قفاك وكلَّ ما وراءك، وذلك لانعكاس ضوء العين إلى ضوء المرآة التي خلفك إذ لم تجد منفذًا في التي بين يديك، ولما لم يجد وراء هذه الثانية منفذًا انصرف إلى ما قابله من الجسم. وإن كان صالح غلام أبي إسحاق النظَّام خالف في الإدراك، فهو قول ساقط لم يوافقه عليه أحد.
ولو لم يكن من فضل العين إلا أنَّ جوهرها أرفع الجواهر وأعلاها مكانًا لأنها نورية لا تُدرَك الألوان بسواها، ولا شيء أبعد مرمًى ولا أنأى غايةً منها لأنها تُدرَك بها أجرام الكواكب التي في الأفلاك البعيدة، وتُرى بها السماء على شدَّة ارتفاعها وبُعدها، وليس ذلك إلا لاتصالها في طبع خِلقتها بهذه المرآة، فهي تدركها وتصل إليها بالنظر، لا على قطع الأماكن والحلول في المواضع وتنقُّل الحركات، وليس هذا لشيء من الحواس مثل الذوق واللمس لا يُدركان إلا بالمجاورة، والسمع والشم لا يُدركان إلا من قريب، ودليل على ما ذكرناه من النظر أنك ترى المُصوِّت قبل سماع الصوت، وإن تعمَّدت إدراكهما معًا، وإن كان إدراكهما واحدًا لما تقدَّمت العينُ السمعَ.
باب المراسلة
ثم يتلو ذلك إذا امتزجا المراسلةُ بالكتب، وللكتب آيات. ولقد رأيتُ أهل هذا الشأن يُبادرون لقطع الكُتبِ، وبحلها في الماء، وبمحو أثرها، فرُبَّ فضيحة كانت بسببِ كتاب. وفي ذلك أقول:
عَزِيزٌ عَلَيَّ اليَوْمَ قَطْعُ كِتَابِكُم ولَكِنَّهُ لَمْ يُلْفَ لِلْوُدِّ قَاطِعُ
فَآثَرْتُ أَنْ يَبْقَى وِدَادٌ وَيَنْمَحِي مِدَاد فَإِنَّ الفَرْعَ لِلأَصْلِ تَابِعُ
فَكَمْ مِنْ كِتَابٍ فِيهِ مِيتَةُ رَبِّه وَلَمْ يَدْرِهِ إِذْ نَمَّقَتْهُ الأَصَابِعُ
وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطفَ الأشكال، وجنسُه أملحَ الأجناس. ولعمري إن الكتاب لَلِسان في بعض الأحايين، إما لحصرٍ في الإنسان وإما لحياء وإما لهيبة. نعم، حتى إنَّ لوصول الكتاب إلى المحبوب وعِلْم المُحب أنه قد وقع بيده ورآه للذةً يجدها المحب عجيبةً تقوم مقام الرؤية، وإن لرد الجواب والنظر إليه سرورًا يَعدِل اللقاء، ولهذا ما ترى العاشق يَضع الكتاب على عينيه وقلبه ويُعانقه. ولعهدي ببعض أهل المحبة، ممن كان يَدري ما يقول ويُحسن الوصف ويُعبِّر عما في ضميره بلسانه عبارة جيدةً، ويُجيد النظر، ويدقق في الحقائق، لا يَدع المُراسلة وهو مُمكن الوصل قريبُ الدار أتيُّ المَزار، ويَحكي أنها وجوه اللذة. ولقد أُخبرت عن بعض السُّقَّاط الوُضعاء أنه كان يضع كتاب محبوبه على إحليله، وأن هذا النوع من الاغتلام قَبيح، وضَرب من الشَّبق فاحش.
وأما سَقيُ الحِبْرِ بالدَّمع فأعرف مَن كان يفعل ذلك ويُقارضه محبوبه، يسقي الحبر بالرِّيق. وفي ذلك أقول:
جَوَابٌ أَتَانِي عَنْ كِتَابٍ بَعَثْتُهُ فَسَكَّنَ مُهْتَاجًا وَهَيَّجَ سَاكِنَا
سَقِيتُ بِدَمْعِ العَيْنِ لَمَّا كَتَبْتُهُ فِعَالَ مُحِبٍّ لَيْسَ فِي الوُدِّ خَائِنَا
فَمَا زَالَ مَاءُ العَيْنِ يَمْحُو سُطُورَهُ فَيَا مَاءَ عَيْنِي قَدْ مَحَوْتَ المَحَاسِنَا
غَدَا بِدُمُوعِي أَوَّلُ الحَظِّ بَيْنَنَا وَأَضْحَى بِدَمْعِي آخِرُ الحَظِّ بَائِنًا
خبر
ولقد رأيتُ كتابَ المُحب إلى محبوبه، وقد قَطع في يده بسكين له فسال الدم، واستمد منه وكتب به الكتاب أجمعَ، ولقد رأيت الكتاب بعد جُفوفه فما شككت أنه بصبغ اللكِّ.
باب السفير
ويقع في الحب بعد هذا، بعد حُلول الثقة وتمام الاستئناس، إدخال السفير، ويجب تخيُّره وارتياده واستجادته واستفراهه؛ فهو دليل عقل المرء، وبيده حياته وموته، وستره وفضيحته، بعد الله تعالى، فينبغي أن يكون الرسول ذا هيئة، حاذقًا يكتفي بالإشارة، ويُقرطس عن الغائب، ويُحسن من ذات نفسه ويَضع من عَقله ما أغفله باعثُه، ويؤدي إلى الذي أرسله كل ما يشاهد على وجهه كأنما كان للأسرار حافظًا، وللعهد وفيًّا، قنوعًا ناصحًا. ومن تعدَّى هذه الصفات كان ضرره على باعثه بمقدار ما نقَصه منها. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
رَسُولُكَ سَيْفٌ فِي يَمِينِكَ فَاسْتَجِدْ حُسَامًا وَلَا تَضْرِبْ بِهِ قَبْلَ صَقْلِهِ
فَمَنْ يَكُ ذَا سَيْفٍ كَهَامٍ فَضُرُّه يَعُودُ عَلَى المَعْنيِّ مِنْهُ بِجَهْلِهِ
وأكثر ما يستعمل المُحبُّون في إرسالهم إلى من يُحبونه إما خاملًا لا يُؤبه له، ولا يُهتدَى للتحفظ منه لصباه أو لهيئة رثة أو بدادة في طلعته.
وإما جليلًا لا تلحقه الظِّنن لنُسك يُظهره، أو لسنٍّ عالية قد بلغها. وما أكثر هذا في النساء، ولا سيما ذوات العكاكيز والتَّسابيح والثَّوبين الأحمرين. وإني لأذكر بقُرطبةَ التحذيرَ للنساء المُحدَثات من هذه الصفات حيثما رأيتها.
أو ذوات صناعة يقرَّب بها من الأشخاص؛ فمن النساء كالطبيبة والحجَّامة والسراقة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمُعلمة والمُستخفة والصناع في المغزل والنسيج وما أشبه ذلك.
أو ذا قرابة من المرسَل إليه لا يشح بها عليه. فكم مَنيع سهُل بهذه الأوصاف، وعسير يَسُرَ، وبعيد قَرُب. وجَمُوح أنس! وكم داهية دهت الحُجب المصونة، والأستار الكثيفة، والمقاصير المحروسة، والسدد المضبوطة لأرباب هذه النعوت! ولولا أن أنبه عليها لذكرتها، ولكن لقطع النظر فيها، وقلة الثقة بكل واحد، والسعيدُ من وُعظ بغيره، وبالضد تتميز الأشياء. أسبل الله علينا وعلى جميع المسلمين ستره، ولا أزالَ عن الجميع ظل العافية.
خبر
وإني لأعرف من كانت الرسول بينهما حمامةً مؤدَّبة، ويُعقد الكتاب في جناحِها. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
تَخَيَّرَهَا نوحٌ فَمَا خَابَ ظَنُّه لَدَيْهَا وَجَاءَتْ نَحْوَهُ بِالبَشَائِرِ
سَأُودِعُها كُتْبي إِلَيْكَ فَهَاكهَا رَسَائِلَ تُهْدَى فِي قَوادِمِ طَائِرِ
 
باب طي السر
ومن بعض صفاتِ الحُب الكتمانُ باللسان، وجحود المحب إن سُئل، والتصنُّع بإظهار الصبر، وأن يُرى أنه عِزْهاةٌ خَلِيٌّ. ويأبى السرُّ الدقيق، ونارُ الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهورًا في الحركات والعين، ودبيبًا كدبيب النار في الفحم، والماء في يبيس المَدر. وقد يُمكن التَّمويه في أول الأمر على غير ذي الحسِّ اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال. وربما يكون السبب في الكتمان تَصاون المُحب عن أن يَسِمَ نفسه بهذه السمة عند الناس؛ لأنها بزعمه من صفات أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى. وما هذا وجه التصحيح، فبحسب المرء المُسلم أن يعفَّ عن محارم الله عزَّ وجل التي يأتيها باختياره ويُحاسب عليها يوم القيامة.
وأما استحسان الحُسن وتمكُّن الحب فطَبع لا يُؤمر به ولا يُنهى عنه؛ إذ القلوب بيد مُقلبها، ولا يَلْزمه غيرُ المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب، وأن يعتقد الصحيح باليقين، وأما المحبة فخِلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحِه المكتسبة. وفي ذلك أقول:
يَلُومُ رِجَالٌ فِيك لَمْ يَعْرِفُوا الهَوَى وَسِيَّانِ عِنْدِي فِيك لَاحٍ وَسَاكِتُ
يَقُولُونَ جَانَبْتَ التَّصَاوُنَ جُمْلَةً وَأَنْت عَلَيْهِمْ بِالشَّرِيعَةِ قَانِت
فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الرِّيَاءُ بِعَيْنِه صُرَاحًا وَزِيٌّ لِلْمرائِينَ مَاقِت
مَتَى جَاءَ تَحْرِيمُ الهَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ وَهَلْ مَنْعُهُ فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ ثَابِت
إِذَا لَمْ أُوَاقِعْ مَحْرَمًا أَتَّقِي بِه مَجِيئِيَ يَوْمَ البَعْثِ وَالوَجْهُ بَاهِت
فَلَسْتُ أُبَالِي فِي الهَوَى قَوْلَ لَائِمٍ سَوَاءٌ لَعَمْرِي جَاهِرٌ أَوْ مُخَافِت
وَهَلْ يَلْزَمُ الإِنْسَانَ إِلَّا اخْتِيَارُهُ وَهَلْ بِخَبَايَا اللَّفْظِ يُؤْخَذُ صَامِت
خبر
وإني لأعرف بعضَ من امتُحن بشيء من هذا فسكن الوجدُ بين جوانحه، فرام جَحْده إلى أن غَلظ الأمر، وعُرف ذلك في شمائله مَن تعرَّض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان مَن عَرض له بشيء نَجَهَه وقَبَّحه، إلى أن كان مَن أراد الحظوة لديه من إخوانه يُوهمه تصديقَه في إنكاره، وتكذيبَ من ظن به غير ذلك، فسُرَّ بهذا. ولعهدي به يومًا قاعدًا ومعه بعضُ من كان يَعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يُتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى، واصفر لونه، وتفاوتت معاني كلامه بعد حُسن تثقيف، فقطع كلامَه المتكلمُ معه؛ فلقد استدعى ما كان فيه من ذكره، فقيل له: ما عدا عمَّا بدا. فقال: هو ما تظنون، عذَر من عذَر، وعذَل من عذَل. ففي ذلك أقول شعرًا، منه:
مَا عَاشَ إِلَّا لِأَنَّ المَوْتَ يَرْحَمُهُ مِمَّا يَرَى مِن تَبَارِيحَ الضَّنَى فِيهِ
وأنا أقول:
دُمُوعُ الصَّبِّ تَنْسَفِكُ وَسِتْرُ الصَّبِّ يَنْهَتِكُ
كَأَنَّ القَلْبَ إِذْ يَبْدُو قَطَاةٌ ضَمَّهَا شَرَكُ
فَيَا أَصْحَابَنَا قُولُوا فَإِنَّ الرَّأْيَ مُشْتَركُ
إِلَى كَمْ ذَا أُكَاتِمُهُ وَمَا لِي عَنْهُ مُتَّرَكُ
وهذا إنما يَعرض عند مُقاومة طبع الكتمان والتصاون لطبع المُحب وغلبته، فيكون صاحبه متحيِّرًا بين نارين محرقتين. وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع. وفي ذلك أقول:
دَرَى النَّاسُ أَنِّي فَتًى عَاشِقٌ كَئِيبٌ مُعَنًّى وَلَكِنْ بِمَنْ
إِذَا عَايَنُوا حَالَتِي أَيْقَنُوا وَإِنْ فَتَّشُوا رَجَعُوا فِي الظِّنَن
كَخَطٍّ يُرى رَسْمُهُ ظَاهِرًا وَإِنْ طَلَبُوا شَرْحَهُ لَمْ يُبِن
كَصَوْتِ حَمَامٍ عَلَى أَيْكَةٍ يُرَجِّعُ بِالصَّوْتِ فِي كُلِّ فَن
تَلَذُّ بِفَحْوَاهُ أَسْمَاعُنَا وَمَعْنَاهُ مُسْتَعْجِمٌ لَمْ يَبِن
يَقُولُونَ بِالله سَمِّ الَّذِي نَفَى حُبَّهُ عَنْكَ طِيب الوَسَن
وَهَيْهَاتَ دُونَ الَّذِي حَاوَلُوا ذَهَابُ العُقُولِ وَخَوْضُ الفِتَن
فَهُمْ أَبَدًا فِي اخْتِلَاجِ الشُّكُوكِ بِظَنٍّ كَقَطْعٍ وقَطْعٍ كَظَن
وفي كتمان السر أقول قطعةً، منها:
لِلسِّرِّ عِنْدِي مَكَانٌ لَوْ يَحلُّ بِهِ حَيٌّ إِذًا لَا اهْتَدَى رَيْبُ المَنُونِ لَهُ
أُمِيتُهُ وَحَيَاةُ السِّرِّ مِيتَتُهُ كَمَا سُرُورُ المُعَنَّى فِي الهَوَى الوَله
وربما كان سببُ الكتمان توقِّيَ المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.
خبر
ولقد قال بعض الشعراء بقُرطبة شعرًا تغزل فيه بصبح أُم المُؤيَّد — رحمه الله — فغنَّت به جارية أُدخلت على المنصور محمد بن أبي عامر ليبتاعَها، فأمَر بقتلِها.
خبر
وعلى مثل هذا قُتل أحمد بن مُغيث، واستئصالُ آل مُغيث والتَّسجيل عليهم ألَّا يُستخدَم بواحد منهم أبدًا، حتى كان سببًا لهلاكهم وانقراض بيتهم، فلم يبق منهم إلا الشريد الضال. وكان سببُ ذلك تغزُّلَه بإحدى بنات الخُلفاء. ومثل هذا كثير.
ويُحكى عن الحَسن بن هانئ أنه كان مُغرمًا بحُب محمد بن هارون، المعروف بابن زُبيدة، وأحسَّ منه ببعض ذلك فانتهره على إدامة النظر إليه، فذُكر عنه أنه كان لا يقدر أن يُديم النظر إليه إلا مع غلبة السُّكر على محمد. وربما كان سبب الكتمان ألَّا يَنْفِر المحبوبُ أو يُنْفَر به. فإني أدري مَن كان محبوبه له سكنًا وجليسًا، لو باح بأقل سبب من أنه يهواه لكان منه مناط الثريا قد تعلَّت نجومها. وهذا ضرب من السياسة، ولقد كان يبلُغ من انبساط هذا المذكور مع محبوبه إلى فوق الغاية وأبعد النهاية، فما هو إلا أن باح إليه بما يجد؛ فصار لا يصل إلى التافه اليسير مع التيه ودالَّة الحب وتمنع الثقة بملك الفؤاد، وذهب ذلك الانبساط، ووقع التصنُّع والتجنِّي، فكان أخًا فصار عبدًا، ونظيرًا فعاد أسيرًا، ولو زاد في بَوحه شيئًا إلى أن يعلم خاصَّة المحبوب ذلك لما رآه إلا في الطيف، ولانقطع القليل والكثير، ولعاد ذلك عليه بالضرر.
وربما كان من أسباب الكِتمان الحَياء الغالب على الإنسان، وربما كان من أسباب الكتمان أن يرى المحب من مَحبوبه انحرافًا وصدًّا، ويكون ذا نفس أبيَّة، فيستتر بما يجد لئلا يَشمت به عدو، أو يريهم ومَن يُحب هوانَ ذلك عليه.
 
 
باب الإذاعة
وقد تَعْرِض في الحُب الإذاعة، وهو من مُنكر ما يحدُث من أعراضه، ولها أسباب، منها: أن يُريد صاحبُ هذا الفعل أن يتزيَّا بزيِّ المحبين، ويدخل في عِدادهم، وهذه خلافة لا تُرضى، وتخليج بغيض، ودعوى في الحب زائفة.
 
وربما كان من أسباب الكَشف غلبةُ الحب، وتسوُّر الجهر على الحياء، فلا يملك الإنسان حينئذٍ لنفسه صرفًا ولا عَدْلًا. وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكُّمه على العقل، حتى يمثل الحسن في تمثال القبيح، والقبيح في هيئة الحسن، وهنالك يرى الخير شرًّا، والشر خيرًا. وكم من مَصون الستر، مُسبل القناع، مَسدول الغِطاء، قد كَشف الحبُّ ستْره، وأباح حريمه، وأهمل حِماه! فصار بعد الصيانة عَلَمًا، وبعد السكون مثلًا، وأحبُّ شيء إليه الفضيحة فيما لو مثل له قبل اليوم لاعتراه النافض عن ذكره، ولطالت استعاذته منه، فسَهُل ما كان وعرًا، وهان ما كان عزيزًا، ولانَ ما كان شديدًا.
 
ولعهدي بفتًى من سَرَوات الرجال وعِلْية إخواني قد دُهِي بمحبَّة جاريةٍ مقصورة هام بها، وقطعه حُبُّها عن كثير من مصالحه، وظهرت آيات هواه لكل ذي بصر، إلى أن كانت هي تعذله على ما ظهر منه مما يقوده إليه هواه.
 
خبر
وحدَّثني موسى بن عاصم بن عمرو قال: كنت بين يدي أبي الفتح والدي — رحمه الله — وقد أمرني بكتابٍ أكتبه، إذ لمحتْ عيني جارية كنت أكلَف بها، فلم أملك نفسي ورميتُ الكتاب عن يدي وبادرتُ نحوها، وبُهت أبي وظن أنه عرَض لي عارض، ثم راجعني عقلي فمسحتُ وجهي ثم عُدت واعتذرت بأنه غَلبني الرُّعاف.
واعلم أن هذا داعيةُ نِفار المحبوب، وفساد في التدبير، وضعف في السياسة، وما شيء من الأشياء إلا وللمأخذ فيه سُنة وطريقة، متى تعدَّاها الطالب أو خَرِق في سلوكها انعكس عمله عليه، وكان كَدُّه عناءً، وتعبه هباءً، وبحثه وباءً، وكلما زاد عن وجه السِّيرة انحرافًا، وفي تجنُّبها إغراقًا، وفي غير الطريق إيغالًا، ازداد عن بلوغ مراده بُعدًا. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
 
وَلَا تَسْعَ فِي الأَمْرِ الجَسِيمِ تَهَازُؤًا وَلَا تَسْعَ جَهْرًا فِي اليَسِيرِ تُرِيدُهُ
وَقَابِلْ أَفَانِينَ الزَّمَانِ مَتَى يَرِدْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الدَّهْرَ جَمٌّ وُرُودُهُ
فَأَشْكَالُهَا مِنْ حُسْنِ سَعْيِكَ يَكْفِكَ الـ ـيَسِير بِغَيْرٍ وَالشَّرِيد شَرِيدهُ
أَلَمْ تُبْصِرِ المِصْبَاحَ أَوَّلَ وَقْدِهِ وِإِشْعَالِهِ بِالنَّفْخِ يُطْفَا وَقُودُهُ
وَإِنْ يَتَصَرَّمْ لَفْحه وَلَهِيبُه فَنَفْخُكَ يُذْكِيهِ وَتَبْدُو مُدُودُهُ
خبر
وإني لأعرف من أهل قُرطبة من أبناء الكتاب وجلة الخدَمة من اسمه أحمد بن فَتْح، كنت أعهده كثير التصاون، من بُغاة العلم وطُلاب الأدب، يبزُّ أصحابه في الانقباض، ويفُوتهم في الدَّعة، لا ينظر إلا في حَلْقة فضل، ولا يُرى إلا في محفل مرضَّى، محمود المذاهب، جميل الطريقة، بائنًا بنفسه ذاهبًا بها، ثم أبعدت الأقدارُ داري من داره، فأول خبر طرأ عليَّ بعد نزولي شاطبة أنه خلَع عذاره في حُب فتًى من أبناء الفتَّانين يُسمَّى إبراهيم بن أحمد؛ أعرفه، لا تستأهل صفاته محبة مَن بيتُه خير وتقدُّم، وأموال عريضة، ووفر تالِد، وصح عندي أنه كَشف رأسه، وأبدى وجهه، ورَمَى رَسَنه، وحَسر مُحيَّاه، وشَمَّر عن ذراعيه، وصمَد صَمْد الشهوة، فصار حديثًا للسُّمار، ومُدافَعًا بين نقلة الأخبار، وتُهودي ذِكره في الأقطار، وجرت نقلته في الأرض راحلةً بالتعجب، ولم يحصل من ذلك إلا على كشف الغطاء، وإذاعة السر، وشنعة الحديث، وفَتْح الأحدوثة، وشُرُود محبوبه عنه جملة، والتَّحظير عليه من رؤيته البتة.
وكان غنيًّا عن ذلك وبمندوحةٍ ومعزلٍ رحبٍ عنه، ولو طوى مكنون سره وأخفى بليَّات ضميره لاستدام لباس العافية، ولم يُنهج بُرد الصيانة، ولكان له في لِقاء من بُلي به ومحادثته ومجالسته أملٌ من الآمال، وتعلُّلٌ كافٍ، وإنَّ حَبل العذر ليقطع به، والحُجة عليه قائمة، إلا أن يكون مُختلطًا في تمييزه، أو مصابًا في عقله بجليل ما فدحه، فربما آل ذلك لعذر صحيح، وأما إن كانت له بقية من عقل أو ثبتت مُسكه، فهو ظالم في تعرُّضه ما يعلم أن محبوبه يكرهه ويتأذَّى به.
هذا غير صفة أهل الحب، وسيأتي هذا مفسرًا في باب الطاعة إن شاء الله تعالى.
ومن أسباب الكشف وجه ثالث
وهو عند أهل العقول وجه مرذول وفعل ساقط؛ وذلك أن يرى المُحب مِن محبوبه غدرًا أو مللًا أو كراهةً، فلا يجد طريقَ الانتصاف منه إلا بما ضرره عليه أعود منه على المقصود من الكشف والاشتهار. وهذا أشدُّ العار وأقبح الشنار، وأقوى بشواهد عدم العقل ووجود السخف. وربما كان الكشف من حديث يَنتشر وأقاويل تفشو توافق قلة مبالاةٍ من المحب بذلك، ورضًى بظهور سره؛ إما لإعجاب أو لاستظهار على بعض ما يُؤمِّله. وقد رأيت هذا الفعل لبعض إخواني من أبناء القوَّاد، وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يُشتهر ويكشف حُبه ويجاهر ويعلن وينوِّه بذكرهن. ولا أدري ما معنى هذا، على أنه يُذكر عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مُناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى؟!
 باب الطاعة
ومن عجيب ما يَقع في الحُب طاعةُ المحب لمحبوبه، وصرفُه طباعَه قسرًا إلى طباع من يُحبه، وربما يكون المرء شَرِسَ الخُلُق، صعب الشكيمة، جموح القياد، ماضي العزيمة، حميَّ الأنف، أبيَّ الخَسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيمَ الحب، ويتورَّط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لِيانًا، والصعوبة سهلةً، والمضاء كلالةً، والحمية استسلامًا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
فَهَلْ لِلْوِصَالِ إِلَيْنَا مَعَاد وَهَلْ لِتَصَارِيفِ ذَا الدَّهْرِ حَد
فَقَدْ أَصْبَحَ السَّيْفُ عَبْدَ القَضِيبِ وَأَضْحَى الغَزَالُ الأَسِيرُ أَسَد
وأقول شعرًا، منه:
 
وَإِنِّي وَإِنْ تَعْتِبْ لَأَهْوَنُ هَالِكٍ كَذَائِبِ نُقْرٍ زَلَّ مِنْ يَدِ جهبذِ
عَلَى أَنَّ قَتْلِي فِي هَوَاكَ لَذَاذَةٌ فَيَا عَجَبًا مِنْ هَالِكٍ مُتَلَذِّذِ
ومنها:
 
ولَوْ أَبْصَرَتْ أَنْوارَ وجهك فَارِسٌ لَأَغْنَاهُمُ عَنْ هرمزان ومَوبذ
وربما كان المحبوب كارهًا لإظهار الشكوى، متبرمًا بسماع الوَجد؛ فترى المُحب حينئذٍ يكتُم حزنه، ويكظِم أسفه، ويَنطوي على علَّته، وإن الحبيب مُتجنٍّ، فعندها يقع الاعتذار عن كل ذنب والإقرار بالجريمة والمرء منها بريء؛ تسليمًا لقوله، وتركًا لمخالفته. وإني لأعرف من دُهي بمثل هذا فما كان ينفكُّ من توجيه الذنوب نحوه ولا ذنب له، وإيقاع العتاب عليه والسخط وهو نقي الجلد.
 
وأقول شعرًا إلى بعض إخواني ويقرب مما نحن فيه وإن لم يكن منه:
 
وَقَدْ كُنْتَ تَلْقَانِي بِوَجْهٍ لِقُرْبِه تَدَانٍ، وَلِلْهُجْرَانِ عَنْ قُرْبِهِ سخطُ
وَمَا تَكْرَهُ العتبَ اليَسِيرَ سَجِيَّتِي عَلَى أَنَّهُ قَدْ عِيبَ فِي الشَّعَرِ الوَخْطُ
فَقَدْ يُتْعِبُ الإِنْسَانُ فِي الفِكْرِ نَفْسَه وَقَدْ يحسنُ الخِيلَانُ فِي الوَجْهِ وَالنَّقْطُ
تَزِينُ إِذَا قَلَّتْ ويَفحُشُ أَمْرُها إِذَا أَفْرَطَتْ يَوْمًا وَهَلْ يُحْمَدُ الفَرْطُ
ومنه:
 
أَعِنْهُ فَقَدْ أَضْحَى لِفَرْطِ هُمُومِهِ يُبَكَّى له القِرْطَاسُ وَالحِبْرُ وَالخَطُّ
ولا يقولنَّ قائل إن صبر المحب على ذلَّة المحبوب دَناءةٌ في النفس؛ فقد أخطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس كفوًا ولا نظيرًا فيُقارض بأذاه، وليس سبُّه وجفاه مما يُعيَّر به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب، ولا يقع ذلك في مجالس الخلفاء ولا في مقاعد الرؤساء فيكون الصبرُ جارًّا للمذلة، وضراعة قائدة للاستهانة؛ فقد ترى الإنسان لا يكلَف بأَمَته التي يملك رقها، ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها، فكيف الانتصارُ منها؟ وسبل الامتعاض من السبِّ غير هذه، إنما ذلك بين عِلْية الرجال الذين تحصل أنفاسهم وتتبع معاني كلامهم فتوجه لها الوجوه البعيدة، لأنهم لا يُوقعونها سدًى، ولا يُلقونها هملًا. وأما المحبوب فصمدة ثابتة، وقضيب مُنآد، يجفو ويرضى متى شاء لا لمعنًى. وفي ذلك أقول:
 
لَيْسَ التَّذَلُّلُ فِي الهَوَى يُسْتَنْكَرُ فَالحُبُّ فِيهِ يَخضَعُ المُسْتَكْبِرُ
لَا تَعْجَبُوا مِنْ ذِلَّتِي فِي حَالَةٍ قَدْ ذَلَّ فِيهَا قَبْلِيَ المُسْتَبْصِرُ
لَيْسَ الحَبِيبُ مُمَاثلًا وُمكَافِيًا فَيَكُونَ صَبْرُكَ ذِلَّةً إِذْ تَصْبِرُ
تُفَّاحَةٌ وَقَعَتْ فَآلَمَ وَقْعُهَا هَلْ قَطْعُهَا مِنْكَ انْتِصَارٌ يُذْكَرُ
خبر
وحدثني أبو دلف الورَّاق عن مَسلمة بن أحمد الفيلسوف المعروف بالمَرجيطي أنه قال في المسجد الذي بشرقيِّ مقبرة قريش بقرطبة الموازي لدار الوزير ابن عمرو أحمد بن محمد جدير — رحمه الله: في هذا المسجد كان مقدم بن الأصفر مريضًا أيام حداثته لعشق بعجيب، فتى الوزير أبي عمرو المذكور، وكان يترك الصلاة في مسجد مسرور — وبها كان سكناه — ويقصد في الليل والنهار إلى هذا المسجد بسبب عجيب، حتى أخذه الحرس غير ما مرَّة في الليل في حين انصرافه عن صلاة العشاء الآخرة، وكان يقعد وينظر منه إلى أن كان الفتى يغضب ويضجر ويقوم إليه فيُوجعه ضربًا، ويلطم خدَّيه وعينيه، فيُسرُّ بذلك ويقول: هذا والله أقصى أمنيتي، والآن قَرَّت عيني. وكان على هذا زمانًا يماشيه.
 
قال أبو دلف: ولقد حدَّثنا مُسلم بهذا الحديث غير مرة بحضرة عجيب عندما كان يَرى من وجاهة مقدم بن الأصفر وعرض جاهه وعافيته، فكانت حال مقدم بن الأصفر هذا قد جلت جدًّا واختص بالمظفر بن أبي عامر اختصاصًا شديدًا واتصل بوالدته وأهله، وجرى على يديه من بنيان المساجد والسقايات وتسهيل وجوه الخير غيرُ قليل، مع تصرُّفه في كل ما يتصرف فيه أصحاب السلطان من العناية بالناس وغير ذلك.
 
خبر
وأشنع من هذا أنه كانت لسعيد بن مُنذر بن سعيد — صاحب الصلاة في جامع قرطبة أيام حكم المستنصر بالله رحمه الله — جاريةٌ يحبها حبًّا شديدًا، فعرض عليها أن يُعتقها ويتزوجها، فقالت له ساخرةً به، وكان عظيم اللحية: إن لحيتك أَستبشعُ عِظَمها؛ فإن حذفت منها كان ما تَرغبه. فأعمل الجملين فيها حتى لَطُفت، ثم دعا بجماعة شهود وأشهدهم على عتقها، ثم خَطبها إلى نفسه فلم ترضَ به. وكان في جملة من حضر أخوه حكم بن منذر، فقال لمن حضر: اعرِضْ عليها أني أخطبها أنا. ففعل، فأجابت إليه، فتزوجها في ذلك المجلس بعينه ورضي بهذا العار الفادح على ورعه ونُسكه واجتهاده.
 
فأنا أدركت سعيدًا هذا وقد قَتله البربر يوم دخولهم قرطبة عَنوةً وانتهابهم إياها، وحكم المذكور أخوه هو رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم ومتكلمهم وناسكهم، وهو مع ذلك شاعر طيب وفقيه، وكان أخوه عبد الملك بن مُنذر متهمًا بهذا المذهب أيضًا، وَلِيَ خُطبة الرد أيام الحكم — رضي الله عنه — وهو الذي صَلبه المنصور بن أبي عامر إذ اتهمه هو وجماعة من الفقهاء والقضاة بقرطبة أنهم يُبايعون سرًّا لعبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر — رضي الله عنهم — فقُتل عبد الرحمن، وصُلب عبد الملك بن منذر، وبُدِّد شمل جميع من اتُّهم. وكان أبوهم قاضي القضاة منذر بن سعيد متهمًا بمذهب الاعتزال أيضًا، وكان أخطب الناس وأعلمهم بكل فن، وأورعهم، وأكثرهم هزلًا ودُعابةً. وحَكَم المذكور في الحياة في حين كتابتي إليك بهذه الرسالة قد كُف بصره وأسنَّ جدًّا.
 
خبر
ومن عجيب طاعة المُحب لمحبوبه أني أعرف مَن كان سَهِر اللياليَ الكثيرة، ولقي الجهد الجاهِد، فقطعت قلبَه ضروبُ الوَجْد، ثم ظفر بِمن يُحب وليس به امتناع ولا عنده دفع، فحين رأى منه بعضَ الكراهة لما نَواه تركه وانصرف عنه، لا تعففًا ولا تخوُّفًا، لكن توقُّفًا عند مُوافقته رضاه، ولم يجد من نفسه مُعينًا على إتيان ما لم يَرَ له إليه نشاطًا وهو يَجد ما يجد. وإني لأعرف من فعل هذا الفعل ثم تندَّم لعذر ظهر من المحبوب، فقلت في ذلك:
 
غَافِصِ الفُرْصَةَ وَاعْلَمْ أَنَّهَا كَمُضِيِّ البَرْقِ تَمْضِي الفُرَصُ
كَمْ أُمُور أَمْكَنَتْ أُمْهِلُهَا هِيَ عِنْدِي إِذْ تَوَلَّتْ غُصَصُ
بَادِرِ الكَنْزَ الَّذِي أَلْفَيْتَهُ وَانْتَهِزْ صَيْدًا كَبَازٍ يَقْنصُ
ولقد عرض مثلُ هذا بعينه لأبي المظفَّر عبد الرحمن بن أحمد بن محمود صديقنا، وأنشدته أبياتًا لي؛ فطار بها كل مطار، وأخذها مني فكانت هجِّيراه.
 
خبر
ولقد سألني يومًا أبو عبد الله محمد بن كُليب، من أهل القيروان، أيام كوني بالمدينة، وكان طويل اللسان جدًّا، مثقفًا للسؤال في كل فن، فقال لي وقد جرى بعض ذكر الحب ومعانيه: إذا كره مَن أحب لقائي وتجنَّب قُربي، فما أصنع؟ قلت: أرى أن تسعى في إدخال الرَّوْح على نفسك بلقائه وإن كره. فقال: لكني لا أرى ذلك، بل أوثر هواه على هواي، ومُراده على مرادي، وأصبر ولو كان في ذلك الحَتف. فقلت له: إني إنما أحببتُه لنفسي ولالتذاذها بصورته، فأنا أتبع قياسي وأقود أَصلي وأقفو طريقتي في الرغبة في سرورها. فقال لي: هذا ظلم من القياس، أشد من الموت ما تمني له الموت، وأعز من النفس ما بذلت له النفس. فقلت له: إن بذلت نفسك لم يكن اختيارًا، بل كان اضطرارًا، ولو أمكنك ألَّا تبذلها لما بذلتها، وتركُك لقاءه اختيارًا منك أنت فيه ملوم لإضرارك بنفسك، وإدخالك الحتف عليها. فقال لي: أنت رجل جدليٌّ، ولا جدل في الحب يلتفت إليه. فقلت له: إذًا كان صاحبه مئوفًا. فقال: وأيُّ آفة أعظم من الحب؟!
باب المخالفة
وربما اتبع المحب شهوتَه وركب رأسه فبلغ شِفاءه من محبوبه، وتعمَّد مسرته منه على كل الوجوه سخط أو رضي. ومَن ساعده على الوقت هذا وثبت جنانُه وأُتِيحت له الأقدار، استوفى لذته جميعها، وذهب غمُّه، وانقطع همُّه، ورأى أمله، وبلغ مرغوبه. وقد رأيتُ مَن هذه صفتُه، وفي ذلك أقول أبياتًا، منها:
 
إِذَا أَنَا بَلَّغْتُ نَفْسِي المُنَى مِنْ رَشَأٍ مَا زَالَ لِي مُمْرِضا
فَمَا أُبَالِي الكُرْهَ مِنْ طَاعَةٍ وَلَا أُبَالِي سَخَطًا مِنْ رِضا
إِذَا وَجَدْتُ المَاءَ لَا بُدَّ أَنْ أُطْفِي بِهِ مُشْعَلَ جَمْرِ الغَضَا
باب العاذل
وللحب آفات، فأوَّلها العاذل. والعذَّال أقسام، فأصلهم صديقٌ قد أسقطتَ مئونةَ التحفظ بينك وبينه، فعَذْلُه أفضل من كثير المساعدات؟ وهي من الحظ والنهي، وفي ذلك زاجر للنفس عجيب، وتقوية لطيفة لها عرض، وعمل ودواء تشتد عليه الشهوة، ولا سيما إن كان رفيقًا في قوله، حسن التوصل إلى ما يورد من المعاني بلفظه، عالمًا بالأوقات التي يؤكِّد فيها النهي، وبالأحيان التي يزيد فيها الأمر، والساعات التي يكون فيها واقفًا بين هذين، على قدر ما يرى من تسهل العاشق وتوعُّره، وقَبوله وعصيانه.
 
ثم عاذل زاجر لا يُفيق أبدًا من الملامة، وذلك خطب شديد وعبء ثقيل. وَوقع لي مثلُ هذا، وإن لم يكن من جنس الكتاب ولكنه يُشبهه، وذلك أن أبا السريِّ عمار بن زياد صديقَنا أكثرَ من عذلي على نحو نحوتُه، وأعان عليَّ بعض من لامني في ذلك الوجه أيضًا، وكنت أظن أنه سيكون معي، مُخطئًا كنتُ أو مصيبًا؛ لوَكيد صداقتي وصحيح أُخوَّتي به.
 
ولقد رأيت مَن اشتدَّ وَجْده وعَظُم كلفه حتى كان العَذْل أحبَّ شيء إليه، ليُري العاذلَ عصيانَه ويستلذَّ مخالفته، ويحصِّل مقاومته للأئمة وغلبته إياه؛ كالملك الهازم لعدوه، والمجادل الماهر الغالب لخصمه، ويُسَر بما يقع منه في ذلك، وربما كان هو المستجلب لعذل العاذل بأشياء يوردها توجب ابتداء العذل. وفي ذلك أقول أبياتًا، منها:
 
أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيَّ اللَّوْمُ وَالعَذل كَيْ أَسْمَعَ اسْمَ الَّذِي ذِكْرَاهُ لِي أَمَلُ
كَأَنَّنِي شَارِبٌ بِالعذلِ صَافِيَةً وَبِاسْمِ مَوْلَايَ بَعْدَ الشُّرْبِ أَنْتَقِلُ
باب المساعد من الإخوان
ومن الأسباب المتمنَّاة في الحُب أن يهب الله عزَّ وجل للإنسان صديقًا مُخلصًا، لطيفَ القول، بسيطَ الطَّول، حسنَ المأخذ، دقيقَ المنفذ، متمكنَ البيان، مُرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة، شديد الاحتمال، صابرًا على الإدلال، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوي المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، كارهًا للمباعدة، نبيل المدخل، مصروف الغوائل، غامض المعاني، عارفًا بالأماني، طيب الأخلاق، سريَّ الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحس، صحيح الحدْس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، ظاهر الغَناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقًا بالصبر، يألف الإمحاض، ولا يعرف الإعراض، يستريح إليه ببلابله، ويشاركه في خلوة فكره، ويفاوضه في مكتوماته.
 
وإن فيه للمحب لأعظمَ الراحات، وأين هذا، فإن ظفرتْ به يداك فشُدَّهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل، وصُنْه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الأنس، وتنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال، ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عونًا جميلًا، ورأيًا حسنًا؛ ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخففوا عنهم بعضَ ما حملوه من شديد الأمورِ، وطُوِّقوه من باهض الأحمال، ولكي يستغنوا بآرائهم، ويستمدوا بكفايتهم، وإلا فليس في قوة الطبيعة أن تقاوم كل ما يَرِد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها.
 
ولقد كان بعض المحبين، لعدمه هذه الصفة من الإخوان، وقلَّة ثقته منهم لما جرَّبه من الناس، وأنه لم يعدم مَن باح إليه بشيء من سرِّه أحد وجهين؛ إما إزراءً على رأيه، وإما إذاعةً لسره، أقام الوحدة مقام الأنس، وكان ينفرد في المكان النازح عن الأنيس، ويناجي الهوى، ويكلم الأرض، ويجد في ذلك راحة كما يجد المريض في التأوُّه، والمحزون في الزفير؛ فإن الهموم إذا ترادفت في القلب ضاق بها، فإن لم يُنْضِ منها شيء باللِّسان، ولم يسترح إلى الشكوى، لم يلبث أن يهلك غمًّا ويموت أسفًا. وما رأيت الإسعاد أكثر منه في النساء؛ فعندهن من المحافظة على هذا الشأن، والتواصي بكتمانه، والتواطؤ على طيِّه إذا اطَّلعن عليه ما ليس عند الرجال، وما رأيت امرأة كشفت سرَّ متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة مرمية عن قوس واحدة. وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشأن ما لا يوجد عند الفتيات؛ لأن الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغاير، وهذا لا يكون إلا في النُّدرة، وأما العجائز فقد يَئِسن من أنفسهن؛ فانصرف الإشفاق محضًا إلى غيرهن.
 
خبر
وإني لأعلم امرأةً مُوسرةً ذات جوار وخَدَم، فشاع على إحدى جواريها أنها تعشق فتًى من أهلها ويعشقها، وأن بينهما معانيَ مكروهة، وقيل لها: إن جاريتك فلانة تعرف ذلك وعندها جلية أمرها. فأخذتها وكانت غليظة العقوبة فأذاقتها من أنواع الضرب والإيذاء ما لا يَصبر على مثله جُلداء الرجال؛ رجاءَ أن تبوح لها بشيء مما ذُكر لها، فلم تفعل البتة.
 
خبر
وإني لأعلم امرأةً جليلةً حافظةً لكتاب الله عز وجل ناسكة مقبلة على الخير، وقد ظَفرت بكتابٍ لفتًى إلى جاريةٍ كان يكلَف بها، وكان في غير ملكها، فعرَّفته الأمر، فرام الإنكار فلم يتهيأ له ذلك، فقالت له: ما لك؟ ومن ذا عُصم؟ فلا تُبالِ بهذا، فوالله لا أطلعت على سرِّكما أحدًا أبدًا، ولو أمكنتني أن أبتاعها لك من مالي، ولو أحاط به كله، لجعلتها لك في مكان تصل إليها فيه ولا يَشعر بذلك أحد. وإنك لترى المرأة الصالحة المُسنَّة المُنقطعة الرجاء من الرجال، وأحبُّ أعمالها إليها وأرجاها للقبول عندها سعيُها في تَزويج يتيمة، وإعارة ثيابها وحَلْيِها لعروس مُقلَّة.
 
وما أعلم علَّة تمكُّن هذا الطبع من النساء إلا أنهن متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتآلف ووجوهه، لا شغل لهن غيره، ولا خُلقن لسواه، والرجال مُقتسمون في كسب المال، وصحبة السلطان، وطَلب العلم، وحياطة العيال، ومُكابدة الأسفار، والصيد، وضُروب الصناعات، ومُباشرة الحروب، ومُلاقاة الفِتَن، وتحمُّل المخاوف، وعمارة الأرض. وهذا كله مُتحيف للفراغ، صارف عن طريق البُطْل.
 
وقرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكِّل ثقةً له بنسائه يُلقي عليهنَّ ضريبةً من غزل الصوف يشتغلن بها أبد الدهر؛ لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال، وتحنُّ إلى النكاح. ولقد شاهدتُ النساء وعلمتُ من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني رُبيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرَهن، ولا جالستُ الرجال إلا وأنا في حدِّ الشباب وحين تفيَّل وجهي، وهن علَّمنني القرآن، وروَّينني كثيرًا من الأشعار، ودرَّبنني في الخط، ولم يكن وُكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدًّا إلا تعرُّف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك. وأنا لا أنسى شيئًا مما أراه منهن، وأصل ذلك غيرة شديدة طُبعتُ عليها، وسوء ظنٍّ في جهتهن فُطرتُ به، فأشرفتُ من أسبابهن على غير قليل، وسيأتي ذلك مفسرًا في أبوابه، إن شاء الله تعالى.
 
 
باب الرقيب
ومن آفات الحُبِّ الرقيبُ، وإنه لحُمَّى باطنة، وبرسامٌ مُلحٌّ، وفكرٌ مُكِبٌّ. والرقباء أقسام، فأولهم مُثْقِل بالجلوس غير متعمِّد في مكانٍ اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيءٍ من سرهما والبوح بوَجْدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمُحب من القلق بهذه الصفة ما لا يعرض له مما هو أشد منها. وهذا وإن كان يزول سريعًا، فهو عائق حالَ دون المُراد، وقطع متوفر الرجاء.
خبر
ولقد شاهدت يومًا مُحبين في مكانٍ قد ظنَّا أنهما انفردا فيه، وتأهَّبا للشكوى، فاستحليا ما هما فيه من الخلوة، ولم يكن الموضع حمًى، فلم يلبثا أن طلع عليهما من كانا يَستثقلانِه، فرَأى فَعَدل إليَّ وأطال الجلوس معي، فلو رأيتَ الفتى المحب وقد تمازج الأسفُ البادي على وجهه مع الغضب لرأيت عجبًا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
يُطِيلُ جُلُوسًا وَهْوَ أَثْقَلُ جَالِسٍ
 
ويُبْدِي حَدِيثًا لَسْتُ أَرْضَى فُنُونَهُ
شَمَام ورَضْوَى وَاللُّكَام وَيَذْبُل
 
ولُبْنَان والصمَّان وَالحرب دُونَه
ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطَرف، وتوجَّس من مذهبهما شيئًا، فهو يريد أن يستبين حقيقة ذلك، فيُدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتخفى بالحركات، ويرمُق الوُجوه، ويحصِّل الأنفاس. وهذا أعدى من الحرب. وإني لأعرف مَن هَمَّ أن يُباطش رقيبًا هذه صفتُه. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
مُوَاصِلٌ لَا يُغَبُّ قَصْدًا
 
أَعْظِمْ بِهَذَا الوِصَالِ غَمًّا
صَارَ وَصِرْنَا لِفَرْطِ مَا لَا
 
يَزُولُ كَالإِسْمِ وَالمُسَمَّى
ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلةَ فيه إلا بترضية، وإذا أُرضِي فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرتْه الشعراء في أشعارها. ولقد شاهدتُ من تلطَّف في استرضاء رقيبٍ حتى صار الرقيبُ عليه رقيبًا له، ومتغافلًا في وقت التغافل، ودافعًا عنه، وساعيًا له. ففي ذلك أقول:
وَرُبَّ رَقِيبٍ أَرْقَبُوهُ فَلَمْ يَزَل
 
عَلَى سَيِّدِي عَمْدًا لِيُبْعِدَنِي عَنْهُ
فَمَا زَالَتِ الأَلْطَافُ تَحْكُمُ أَمْرَه
 
إِلَى أَنْ غَدَا خَوْفِي لَهُ آمنًا مِنْهُ
وَكَانَ حُسَامًا سُلَّ حَتَّى يَهُدني
 
فَعَادَ مُحِبًّا مَا لِنِعْمَتِهِ كُنْهُ
وأقول قطعةً، منها:
صَارَ حَيَاةً وَكَانَ سَهْمَ رَدًى
 
وَكَانَ سُمًّا فَصَارَ دِرْيَاقا
وإني لأعرف مَن رقَّب على بعض مَن كان يُشفق عليه رقيبًا وَثِق به عند نفسه، فكان أعظمَ الآفة عليه، وأصلَ البلاء فيه.
وأما إذا لم يكن في الرقيب حيلة، ولا وُجد إلى ترضِّيه سبيل؛ فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همسًا وبالحاجب أحيانًا، والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك مُتعة وبلاغ إلى حين يقنع به المُشتاق. وفي ذلك أقول شعرًا، أوَّله:
عَلَى سَيِّدِي مِنِّي رَقِيبٌ مُحَافِظٌ
 
وَفِيٌّ لِمَنْ وَالَاهُ لَيْسَ بِنَاكِثِ
ومنه:
وَيَقْطَعُ أَسْبَابَ اللُّبَانَةِ فِي الهَوَى
 
وَيَفْعَلُ فِيهَا فِعْلَ بَعْضِ الحَوَارِثِ
كَأَنَّ لَهُ فِي قَلْبِهِ رِيبَةً تُرَى
 
وَفِي كُلِّ عَيْنٍ مُخْبِرٌ بِالأَحَادِثِ
ومنه:
عَلَى كُلِّ مَنْ حَوْلِي رَقِيبَانِ رُتِّبَا
 
وَقَدْ خَصَّنِي ذُو العَرْشِ مِنْهُمْ بِثَالِثِ
وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتُحن بالعشق قديمًا، ودُهي به، وطالت مدته فيه ثم عُري عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغبًا في صيانة مَن رُقِّب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأتي منه؟! وأي بلاء مصبوب يحلُّ على أهل الهوى من جهته؟! وفي ذلك أقول:
رَقِيبٌ طَالَمَا عَرَفَ الغَرَامَا
 
وَقَاسَى الوَجْدَ وَامْتَنَعَ المَنَامَا
وَلَاقَى فِي الهَوَى أَلَمًا أَلِيمًا
 
وَكَادَ الحُبُّ يُورِدُهُ الحِمَامَا
وَأَتْقَنَ حِيلَةَ الصَّبِّ المُعَنَّى
 
وَلَمْ يَضَعِ الإِشَارَةَ وَالكَلَامَا
وَأَعْقَبَهُ التَّسَلِّي بَعْدَ هَذَا
 
وَصَارَ يَرَى الهَوَى عَارًا وَذَامَا
وَصَيَّر دُونَ مَنْ أَهْوَى رَقِيبًا
 
لِيُبْعِدَ عَنْهُ صَبًّا مُسْتَهَامَا
فَأَيُّ بَلِيَّةٍ صُبت عَلَيْنَا
 
وَأَيُّ مُصِيبَةٍ حَلَّتْ لِمَاما؟
ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبَّين مذهبُهما واحد في حُب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كُل واحد منهما رقيب على صاحبه. وفي ذلك أقول:
صَبَّانِ هَيْمَانَانِ فِي وَاحِدٍ
 
كِلَاهُمَا عَنْ خِدْنِهِ مُنْحَرِف
كَالكَلْبِ فِي الآرِي لَا يَعْتَلِف
 
وَلَا يُخَلِّي الغَيْرَ أَنْ يَعْتَلِف
 
باب الواشي
ومن آفات الحُب الواشي، وهو على ضربين؛ أحدهما واشٍ يريد القَطع بين المتحابين فقط، وإن هذا لأفترهما سوأةً، على أنه السم الذُّعاف، والصاب المُمقر، والحتف القاصد، والبلاء الوارد. وربما لم يَنجع ترقيشه. وأكثر ما يكون الواشي فإلى المحبوب، وأما المحب فهيهات؛ حال الجريض دون القريض، ومنع الحَرَب من الطرَب؛ شغله بما هو مانع له من استماع الواشي. وقد علم الوُشاة ذلك، وإنما يقصدون إلى الخليِّ البال، الصائل بحوزة الملك، المتعتب عند أقل سبب.
 
وإن للوُشاة ضروبًا من التَّنقيل، فمنها أن يذكر للمحبوب عمن يحب أنه غير كاتم للسر. وهذا مكان صعب المُعاناة، بطيء البُرء إلا أن يوافق معارضًا للمُحب في محبته، وهذا أمر يوجب النِّفار، فلا فرج للمحبوب إلا بأن تُساعده الأقدار بالاطلاع على بعض أسرار من يُحب، بعد أن يكون المحبوب ذا عقل، وله حظ من تمييز، ثم يَدعه والمُطاولة، فإذا تكذَّب عنده نَقْل الواشي مع ما أظهر من الجفاء والتحفظ ولم يسمع لسره إذاعة؛ علم أنه إنما زور له الباطل، واضمحل ما قام في نفسه. ولقد شاهدت هذا بعينه لبعض المُحبين مع بعض من كان يحب، وكان المحبوب شديدَ المراقبة عظيم الكتمان، وكثر الوشاة بينهما حتى ظهرت أعلام ذلك في وجهه، وحدَث في حُب لم يكن، وركبته وجمة، وأظلته فكرة، ودهمته حيرة، إلى أن ضاق صدره وباح بما نُقل إليه. فلو شاهدت مقام المحب في اعتذاره، لعلمت أن الهوى سلطان مُطاع، وبناء مشدود الأواخي، وسنان نافذ، وكان اعتذاره بين الاستسلام والاعتراف، والإنكار والتوبة والرمي بالمقاليد، فبعد لأيٍ ما صلح الأمر بينهما.
 
وربما ذكر الواشي أن ما يُظهر المحب من المحبة ليست بصحيحة، وأن مذهبه في ذلك شِفاء نفسه وبلوغ وَطره. وهذا فصل وإن كان شديدًا في النقل فهو أيسر مُعاناة مما قبله، فحالة المحب غير حالة المتلذذ، وشواهد الوجد متفرقة بينهما. وقد وقع من هذا نُبذ كافية في باب الطاعة. وربما نقل الواشي أن هوى العاشق مشترك، وهذه النار المُحرقة، والوَجع الفاشي في الأعضاء، وإذا وافق الناقل لهذه المقالة أن يكون المُحب فتًى حسنَ الوجه، حُلو الحركات، مرغوبًا فيه، مائلًا إلى اللذات، دُنياوي الطبع، والمحبوب امرأة جليلة القدر سرية المنصب، فأقرب الأشياء سَعْيها في إهلاكه، وتصدِّيها لحتفه. فكم صريع على هذا السبب! وكم مَن سُقي السم فقَطع أمعاءه لهذا الوجه! وهذه كانت ميتة مروان بن أحمد بن حدير، والد أحمد المتنسك، وموسى وعبد الرحمن، المعروفَين بابنَي لبنى، من قِبل قَطْر الندى جاريته. وفي ذلك أقول محذِّرًا لبعض إخواني قطعةً، منها:
 
وَهَلْ يَأْمَنُ النِّسْوَانَ غَيْرُ مُغَفَّلٍ جَهُولٍ لِأَسْبَابِ الرَّدَى مُتَأَرِّض
وَكَمْ وَارِدٍ حَوْضًا مِنَ المَوْتِ أَسْوَد تَرَشَّفَهُ مِنْ طيِّبِ الطَّعْمِ أَبْيَض
والثاني واشٍ يَسعَى للقَطْع بين المُحبين لينفرد بالمحبوب ويستأثر به. وهذا أشد شيء وأقطعه، وأجزم لاجتهاد الواشي واستفادة جُهده.
 
ومن الوُشاة جنس ثالث، وهو واشٍ يَسعى بهما جميعًا، ويكشف سرَّهما، وهذا لا يُلتفت إليه إذا كان المحب مساعدًا. وفي ذلك أقول:
 
عَجِبْتُ لِوَاشٍ ظَلَّ يَكْشِفُ أَمْرَنَا وَمَا بِسِوَى أَخْبَارِنَا يَتَنَفَّسُ
وَمَاذَا عَلَيْهِ مِنْ عَنَائِي وَلَوْعَتِي أَنَا آكُلُ الرُّمَّانَ وَالوُلْد تَضْرس
ولا بد أن أورد ما يُشبه ما نحن فيه، وإن كان خارجًا منه، وهو شيء في بيان التنقيل والنمائم؛ فالكلام يدعو بعضُه بعضًا كما شرطنا في أول الرسالة، وما في جميع الناس شر من الوُشاة، وهم النمامون، وإن النميمة لطَبْعٌ يدُل على نتن الأصل، ورداءة الفَرع، وفساد الطبع، وخُبث النشأة، ولا بد لصاحبه من الكذب.
 
والنميمة فرع من فروع الكذب، ونوع من أنواعه، وكل نمَّام كذَّاب، وما أحببت كذابًا قط، وإني لأسامح في إخاء كل ذي عَيب وإن كان عظيمًا، وأكِلُ أمره إلى خالقه عزَّ وجل، وآخذ ما ظَهر من أخلاقه حاشا مَن أعلمه يكذب؛ فهو عندي ماحٍ لكل محاسنه، ومُعَفٍّ على جميع خِصاله، ومُذهِبٌ كلَّ ما فيه، فما أرجو عنده خيرًا أصلًا؛ وذلك لأن كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه، وكل ذامٍّ فقد يمكن الاستتار به والتوبة منه حاشا الكذب؛ فلا سبيلَ إلى الرجعة عنه، ولا إلى كتمانه حيث كان. وما رأيت قط ولا أخبرني مَن رأى كذَّابًا ترك الكذب ولم يعد إليه، ولا بدأت قط بقطيعة ذي معرفة إلا أن أطلع له على الكذب، فحينئذٍ أكون أنا القاصد إلى مجانبته، والمتعرِّض لمتاركته، وهي سِمة ما رأيتُها قط في أحد إلا وهو مَزْنون في نفسه إليه بشق، مغموز عليه لعاهة سوءٍ في ذاته. نعوذ بالله من الخذلان.
 
وقد قال بعض الحكماء: آخِ من شئت واجتنب ثلاثة: الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، والمَلُول؛ فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكُّدها يخذلك، والكذاب؛ فإنه يجني عليك آمنَ ما كنت فيه من حيثُ لا تشعر.
 
وحديث عن رسول الله ﷺ: حُسن العهد من الإيمان.
 
وعنه عليه السلام: لا يُؤمِن الرجلُ بالإيمان كله حتى يدع الكذب في المُزاح.
 
حدثنا بهما أبو عمر أحمد بن محمد، عن محمد بن عليِّ بن رِفاعة، عن عليِّ بن عبد العزيز، عن أبي عُبيد القاسم بن سلَّام عن شيوخه، والآخر منهما مُسند إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله — رضي الله عنهما.
 
والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.
 
وعن رسول الله ﷺ أنه سُئل: هل يكون المؤمن بَخيلًا؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المُؤمن جَبانًا؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن كَذَّابًا؟ قال: لا.
 
حدَّثناه أحمد بن محمد بن أحمد، عن أحمد بن سَعيد، عن عُبيد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك بن أنس، عن صَفوان بن سليم.
 
وبهذا الإسناد أن رسول الله ﷺ قال: لا خيرَ في الكذب. في حديثٍ سُئل فيه.
 
وبهذا الإسناد عن مالك أنه بلغه عن ابن مسعود أنه كان يقول: لا يزال العَبد يكْذِب ويُنكَت في قلبه نُكتة سوداء حتى يَسودَّ القلب؛ فيُكتب عند الله من الكذابين.
 
وبهذا الإسناد عن ابن مسعود — رضي الله عنه — أنه قال: عليكم بالصِّدق؛ فإنه يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب؛ فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
 
وروي أنه أتاه ﷺ رجلٌ فقال: يا رسول الله، إني أستتر بثلاث: الخمر والزنا والكذب؛ فمُرني أيهما أترك. قال: اترك الكذب. فذهب عنه، ثم أراد الزنا ففكَّر فقال: آتي رسول الله ﷺ فيسألني: أزنيت؟ فإن قلت: نعم، حدَّني، وإن قلت: لا، نقضت العهد. فتركه، ثم كذلك في الخمر، فعاد إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إني تركت الجميع.
 
فالكذب أصل كل فاحشة، وجامع كل سوء، وجالبٌ لمقت الله عز وجل. وعن أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — أنه قال: لا إيمان لمن لا أمانة له.
 
وعن ابن مسعود — رضي الله عنه — أنه قال: كل الخلال يُطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. وعن رسول الله ﷺ أنه قال: ثلاث من كُنَّ فيه كان منافقًا: من إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان.
 
وهل الكُفر إلا كذب على الله عز وجل؟ والله الحق، وهو يحب الحق، وبالحق قامت السموات والأرض. وما رأيت أخزى من كذَّاب، وما هلكت الدول، ولا هلكت الممالك، ولا سُفكت الدماء ظلمًا، ولا هُتكت الأستار بغير النمائم والكذب، ولا أُكِّدت البغضاء والإحَن المُردية إلا بنمائم لا يَحْظى صاحبها إلا بالمَقت والخزي والذل، وأن ينظر منه الذي ينقل إليه، فضلًا عن غيره، بالعين التي ينظر بها من الكلب. والله عزَّ وجل يقول: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ، ويقول جلَّ من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا — فسمى النقل باسم الفسوق، ويقول: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. والرسول عليه السلام يقول: لا يدخل الجنة قَتَّات. ويقول: وإياكم وقاتل الثلاثة. يعني المنقِّل والمنقول إليه والمنقول عنه. والأحنف يقول: الثقة لا يبلِّغ، وحق لذي الوَجهين ألَّا يكون عند الله وجيهًا. وهو ما يَجعله من أخس الطبائع وأرذلها.
 
ولي إلى أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى الثَّقفي الشاعر — رحمه الله — وقد نقَل إليه رجل من إخواني عني كذبًا على جهة الهزل، وكان هذا الشاعر كثيرَ الوهم فأغضبه وصدَّقه، وكلاهما كان لي صديقًا، وما كان الناقل إليه من أهل هذه الصفة، ولكنه كان كثير المُزاح جمَّ الدعابة، فكتبت إلى أبي إسحاق، وكان يقول بالخبر، شعرًا، منه:
 
وَلَا تَتَبَدَّلْ قَالَةً قَدْ سَمِعْتَهَا تُقَالُ وَلَا تَدْرِي الصَّحيحَ بِمَا تَدْرِي
كَمَنْ قَدْ أَرَاقَ المَاءَ لِلآلِ إِنْ بَدَا فَلَاقَى الرَّدَى فِي الأَفيحِ المَهْمَهِ القَفْر
وكتبتُ إلى الذي نَقل عني شعرًا، منه:
 
وَلَا تُدْغِمَنْ فِي الجِدِّ مَزْحًا كمُولِج فَسَاد عِلَاج النَّفْسِ طَي صَلَاحِها
وَمَنْ كَان نَقْلُ الزُّورِ أَمْضَى سِلَاحِه كَمِثْلِ الحُبَارَى تَتَّقِي بِسِلَاحِها
وكان لي صديق مرةً، وكثر التدخيل بيني وبينه حتى كَدح ذلك فيه واستبان في وجهه وفي لحظه، وطُبعتُ على التأني والتربُّص والمُسالمة ما أمكنت، ووجدت بالانخفاض سبيلًا إلى معاودة المودة، فكتبت إليه شعرًا، منه:
 
وَلِي فِي الَّذي أُبْدِي مَرَامٍ لَوَ انَّها بَدَتْ مَا ادَّعَى حُسْنَ الرِّمَايَةِ وَهْرز
وأقول مخاطبًا لعُبيد الله بن يحيى الجزيري الذي يحفظ لعمِّه الرسائل البليغة، وكان طبْعُ الكذب قد استولى عليه، واستحوذ على عقله، وألفه ألفة النفس الأمل، ويؤكِّد نقلَه وكذبَه بالأيمان المؤكِّدة المُغلَّظة، مجاهرًا بها أكذب من السراب، مستهترًا بالكذب مشغوفًا به، لا يزال يحدث من قد صحَّ عنده أنه لا يصدقه، فلا يزجره ذلك عن أن يحدث بالكذب:
 
بَدَا كُلُّ مَا كَتَّمته بَيْنَ مُخْبِر وَحَالٍ أَرَتْنِي قُبْحَ عَقْدِكَ بَيِّنا
وَكَمْ حَالَةٍ صَارَتْ بَيَانًا بِحَالَةٍ كَمَا تُثْبِتُ الأَحْكَامُ بِالحَبَلِ الزِّنا
وفيه أقول قطعةً، منها:
 
أَنَمُّ مِنَ المِرْآةِ فِي كُلِّ مَا دَرَى وَأَقْطَعُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قصبِ الهِنْدِ
أَظُنُّ المَنَايَا وَالزَّمَانَ تَعَلَّمَا تَحَيُّلَهُ بِالقَطْعِ بَيْنَ ذَوِي الوُدِّ
وفيه أيضًا أقول من قصيدة طويلة:
 
وَأَكْذَبُ مِنْ حُسْنِ الظُّنُونِ حَدِيثُه وَأَقبْحُ مِنْ دَيْنٍ وَفَقْرٍ مُلَازِمِ
أَوَامِرُ رَبِّ العَرْشِ أضْيَعُ عِنْدَه وَأَهْوَنُ مِنْ شَكْوَى إِلَى غَيْرِ رَاحِم
تَجَمَّعَ فِيهِ كُلُّ خِزْيٍ وَفَضْحَةٍ فَلَمْ يُبْقِ شَتْمًا فِي المَقَالِ لِشَاتِم
وَأَثْقَلُ مِنْ عَذْلٍ عَلَى غَيْرِ قَابِلٍ وَأَبْرَد بَرْدًا مِنْ مَدِينَةِ سَالِم
وَأَبْغَضُ مِنْ بَيْنٍ وَهَجْرٍ وَرِقْبَةٍ جُمِعْنَ عَلَى حَرَّانَ حَيْرَانَ هَائِم
وليس من نَبَّه غافلًا، أو نصح صديقًا، أو حفظ مسلمًا، أو حكى عن فاسق، أو حدَّث عن عدو — ما لم يكن يَكذِب ولا يكذب ولا تعمد الضغائن — متنقِّلًا. وهل هلك الضعفاء وسقط من لا عقل له إلا في قلة المعرفة بالناصح من النمام؟ وهما صفتان متقاربتان في الظاهر، متفاوتتان في الباطن، إحداهما داء والأخرى دواء، والثاقب القريحة لا يخفى عليه أمرهما، لكن الناقل من كان تنقيله غيرَ مرضيٍّ في الديانة، ونوى به التشتيت بين الأولياء، والتضريب بين الإخوان، والتحريش والتوبيش والترقيش. فمن خاف إن سلك طريق النصيحة أن يقع في طريق النميمة، ولم يثق لنفاذ تمييزه ومضاء تقديره فيما يَرِدُه من أمور دنياه ومعاملة أهل زمانه، فليجعل دينه دليلًا له وسراجًا يستضيء به، فحيثما سلك به سلك، وحيثما أوقفه وقف؛ فشارع الشريعة وباعث الرسول عليه السلام ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق، وأدرى بعواقب السلامة ومغبَّات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه، وباحث بقياسه في ظنه.
باب الوصل
ومن وجوه العِشقِ الوصلُ، وهو حظ رفيع، ومرتبة سريَّة، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السنيُّ، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار مَمَرٍّ ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره؛ لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كَدر فيه، والفَرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنتهى الأراجي. ولقد جرَّبت اللذات على تصرُّفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنوِّ من السلطان، ولا المال المُستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغَيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروُّح على المال، من الموقع في النفس، ما للوصل؛ ولا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء. وما أصناف النبات بعد غِبِّ القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات في الزمان السجسج، ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر؛ بأحسنَ من وصل حَبيب قد رُضيت أخلاقه، وحُمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه، وإنه لمُعجز ألسنة البلغاء، ومقصِّر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام. وفي ذلك أقول:
 
وَسَائِلٍ لِيَ عَمَّا لِي مِنَ العُمُر وَقَدْ رَأَى الشَّيبَ فِي الفَوْدَيْنِ وَالعُذُر
أَجَبْتُهُ سَاعَةً لَا شَيْءَ أَحْسَبُه عُمْرًا سِوَاهَا بِحُكْمِ العَقْلِ وَالنَّظَر
فَقَالَ لِي كَيْفَ ذَا بَيِّنْهُ لِي فَلَقَدْ أَخْبَرْتَنِي أَشْنَعَ الأَنْبَاءِ وَالخَبَرِ
فَقُلْتُ إِنَّ الَّتِي قَلْبِي بِهَا عَلِقٌ قَبَّلْتُهَا قُبْلَةً يَوْمًا عَلَى خَطَر
فَمَا أَعُدُّ وَلَوْ طَالَتْ سِنِيَّ سِوَى تِلْكَ السُّوَيْعَةِ بِالتَّحْقِيقِ مِنْ عُمُرِي
ومن لذيذ معاني الوصلِ المواعيدُ، وإن للوعد المُنتظر مكانًا لطيفًا من شِغاف القلب، وهو ينقسم قسمين؛ أحدهما: الوعد بزيارة المحب لمحبوبه، وفيه أقول قطعةً، منها:
 
أُسَامِرُ البَدْرَ لَمَّا أَبْطَأْت وَأَرَى فِي نُورِه مِنْ سَنَا إِشْرَاقِهَا عَرَضا
فَبِتُّ مُشْتَرِطًا وَالوُدُّ مُخْتَلِطًا وَالوَصْلُ مُنْبَسِطًا وَالهَجْرُ مُنْقَبِضا
والثاني انتظار الوعد من المحب أن يزور محبوبه. وإنَّ لمبادي الوصل وأوائل الإسعاف لتَوَلُّجًا على الفؤاد ليس لشيء من الأشياء. وإني لأعرف من كان مُمتحنًا بهوًى في بعض المنازل المُصاقبة، فكان يصل متى شاء بلا مانع، ولا سبيل إلى غير النظر والمُحادثة زمانًا طويلًا، ليلًا متى أحب ونهارًا، إلى أن ساعدته الأقدار بإجابة، ومكَّنته بإسعادٍ بعد يأسه، لطول المدة. ولعهدي به قد كاد أن يختلط عقله فرحًا، وما كاد يتلاحق كلامه سرورًا، فقلت في ذلك:
 
بِرَغْبَةٍ لَوْ إِلَى رَبِّي دَعَوْتُ بِهَا لَكَانَ ذَنْبِيَ عِنْدَ اللهِ مَغْفُورا
وَلَوْ دَعَوْتُ بِهَا أُسْدَ الفَلَا لَغَدَا إِضْرَارُهَا عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ مَقْصُورا
فَجَادَ بِاللَّثْمِ لِي مِنْ بَعْدِ مَنْعَتِهِ فَاهْتَاجَ مِنْ لَوْعَتِي مَا كَانَ مَغْمُورا
كَشَارِبِ المَاءِ كَيْ يُطْفِي الغَلِيلَ بِهِ فَغُصَّ فَانْصَاعَ فِي الأَجْدَاثِ مَقْبُورا
وقلت:
 
جَرَى الحُبُّ مِنِّيَ مَجْرَى النَّفَس وَأعطيتُ عيني عنان الفَرَسْ
وَلِي سَيِّدٌ لَمْ يَزَلْ نَافِرًا وَرُبَّتَمَا جَادَ لِي فِي الخِلَس
فَقَبَّلْتُه طَالِبًا رَاحَةً فَزَادَ أَلِيلًا بِقَلْبي اليَبس
وَكَان فُؤَادِي كَنَبْتٍ هَشِيمٍ يَبِيسٍ رَمَى فِيهِ رَامٍ قَبَس
ومنها:
 
وَيَا جَوْهَرَ الصِّينِ سُحْقًا فَقَدْ غَنِيت بَيَاقُوتَةِ الأَنْدَلُس
خبر
وإني لأعرف جاريةً اشتد وَجْدها بفتًى من أبناء الرؤساء، وهو لا علم عنده، وكثر غمُّها وطال أسفها إلى أن ضَنِيتْ بحُبه، وهو بغرارة الصِّبَا لا يشعر، ويَمنعُها من إبداء أمرها إليه الحياءُ منه؛ لأنها كانت بكرًا بخاتَمها، مع الإجلال له عن الهجوم عليه بما لا تدري لعله لا يوافقه؛ فلما تمادى الأمر وكانا إلفين في النشأة، شكَت ذلك إلى امرأة جزلة الرأي كانت تثق بها لتَولِّيها تربيتَها، فقالت لها: عرِّضي له بالشعر. ففعلت المرَّة بعد المرَّة وهو لا يأبه في كل هذا، ولقد كان لَقِنًا ذكيًّا لم يظن ذلك فيميل إلى تنتيش الكلام بوهمه، إلى أن عِيل صبرُها، وضاق صدرها، ولم تُمسك نفسها في قَعدة كانت لها معه في بعض الليالي منفردَيْن، ولقد كان يعلم الله عفيفًا مُتصاونًا بعيدًا عن المعاصي، فلما حان قيامها عنه بَدرت إليه فقبَّلته في فمه، ثم ولت في ذلك الحين ولم تكلمه بكلمة، وهي تتهادى في مشيها، كما أقول في أبيات لي:
 
كَأَنَّهَا حِينَ تَخْطُو فِي تَأوُّدِهَا قَضِيبُ نَرْجسَةٍ فِي الرَّوْضِ مَيَّاسُ
كَأَنَّمَا خُلْدُهَا فِي قَلْبِ عَاشِقِهَا فَفِيهِ مِنْ وَقْعِهَا خَطْرٌ وَوَسْوَاس
كَأَنَّمَا مَشْيُهَا مَشْيُ الحَمَامَةِ لَا كَدٌّ يُعَابُ وَلَا بُطْءٌ بِهِ بَاس
فبُهتَ وسُقط في يده وفُت في عضده، ووَجد في كبده، وعلَتْه وجمة، فما هو إلا أن غابت عنه ووقع في شَرَك الرَّدى، واشتعلت في قلبه النار، وتصعدت أنفاسه، وترادفت أوجاله، وكثر قلقه، وطال أرقه، فما غمض تلك الليلة عينًا، وكان هذا بدء الحب بينهما دهرًا، إلى أن جَذَّت جملتها يدُ النوى. وإن هذا لمن مصائد إبليس، ودواعي الهوى التي لا يقف لها أحد إلا من عصمه الله عز وجل. ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يُودي بالحب. وهذا هجين من القول، إنما ذلك لأهل المَلَل، بل كلما زاد وصلًا زاد اتصالًا.
 
وعني أخبرك أني ما روِيتُ قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأً. وهذا حكم مَن تداوى برأيه وإنْ رَبَّهُ عنه سريعًا. ولقد بلغتُ من التمكُّن بمن أُحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمًى، فما وجدتُني إلا مستزيدًا، ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسآمةٍ ولا رهقتني فترة. وقد ضمَّني مجلس مع بعض من كنتُ أحب، فلم أُجل خاطري في فن من فنون الوصل إلا وجدته مقصرًا عن مرادي، وغير شافٍ وَجْدي، ولا قاضٍ أقلَّ لُبانة من لباناتي، ووجدتُني كلما ازددتُ دنوًّا ازددتُ ولوعًا، وقدحت زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعي، فقلت في ذلك المجلس:
 
وَدِدْتُ بأَنَّ القَلْبَ شُقَّ بِمُدْيَةٍ وَأُدْخلتِ فِيهِ ثُمَّ أُطْبِقَ فِي صَدْرِي
فَأَصْبَحْتِ فِيهِ لَا تَحُلِّينَ غَيْرَهُ إِلَى مُقْتَضَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَالحَشْرِ
تَعِيشِينَ فِيهِ مِا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ سَكَنْتِ شِغَافَ القَلْبِ فِي ظُلَمِ القَبْرِ
وما في الدنيا حالة تَعدل محبَّين إذا عُدما الرقباء، وأمنا الوشاة، وسلما من البَيْن، ورغبا عن الهجر، وبَعُدا عن الملل، وفقدا العُذَّال، وتوافقا في الأخلاق، وتكافيا في المحبة، وأتاح الله لهما رزقًا دارًّا، وعيشًا قارًّا، وزمانًا هاديًا، وكان اجتماعُهما على ما يُرضي الرب من الحال، وطالت صُحبتهما واتصلت إلى وقت حُلول الحِمامِ الذي لا مردَّ له ولا بد منه. هذا عطاء لم يحصُل عليه أحد، وحاجة لم تُقْض لكل طالب، ولولا أن مع هذه الحال الإشفاق من بَغتات المقادير المحكمة في غيب الله عز وجل، من حُلول فراق لم يكتسب، واخترام منية في حال الشباب أو ما أشبه ذلك، لقلت إنها حال بعيدة من كل آفة، وسليمة من كل داخلة. ولقد رأيت مَن اجتمع له هذا كُله، إلا أنه كان دُهي فيمن كان يحبه بشَراسة الأخلاق، ودالَّة على المحبة، فكانا لا يتهنَّيان العيش، ولا تطلع الشمس في يوم إلا وكان بينهما خلاف فيه، وكلاهما كان مطبوعًا بهذا الخُلق؛ لثقة كل واحد منهما بمحبة صاحبه، إلى أن دنت النَّوى بينهما، فتفرَّقا بالموت المرتَّب لهذا العالم، وفي ذلك أقول:
 
كَيْفَ أَذُمُّ النَّوَى وَأَظْلِمُهَا وَكُلُّ أَخْلَاقِ مَنْ أُحِبُّ نَوى
قَدْ كَانَ يَكْفِي هَوًى أَضِيقُ بِهِ فَكَيْفَ إِذْ حَلَّ بِي نَوًى وَهَوى
ورُويَ عن زِياد بن أبي سفيان — رحمه الله — أنه قال لجُلسائه: من أنعمُ الناس عيشةً؟ قالوا: أمير المؤمنين. فقال: وأين ما يلقى من قريش؟ قيل: فأنت. قال: أين ما ألقى من الخوارج والثغور؟ قيل: فمَن أيها الأمير؟ قال: رجل مُسلم له زوجة مسلمة، لهما كفاف من العيش، قد رضيت به ورضي بها، لا يَعرفنا ولا نعرفه.
 
وهل فيما وافق إعجاب المخلوقين، وجلا القلوب، واستمال الحواس، واستهوى النفوس، واستولى على الأهواء، واقتطع الألباب، واختلس العقول؛ مستحسن يعدل إشفاق مُحب على محبوب؟ ولقد شاهدت مِن هذا المعنى كثيرًا، وإنه لمن المَناظر العجيبة الباعثة على الرقَّة الرائقة المعنى، لا سيما إن كان هوًى يتكتم به. فلو رأيت المحبوب حين يعرض بالسؤال عن سبب تَغضُّبه بمُحبِّه، وخجلته في الخروج مما وقع فيه بالاعتذار، وتوجيهه إلى غير وجهه، وتحيُّله في استنباط معنًى يُقيمه عند جلسائه، لرأيت عجبًا ولذة مخفية لا تقاومها لذة. وما رأيت أجلب للقلوب، ولا أغوص على حياتها، ولا أنفذ للمقاتل من هذا الفعل. وإن للمُحبين في الوصل من الاعتذار ما أعجزَ أهلَ الأذهان الذكية والأفكار القوية، ولقد رأيت في بعض المرات هذا فقلت:
 
إِذَا مَزَجْتَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ جَوَّزْتَ مَا شِئْتَ عَلَى الغَافِلِ
وَفِيهِمَا فَرقٌ صَحِيحٌ لَه عَلَامَةٌ تَبْدُو إِلَى العَاقِل
كَالتِّبْرِ إِنْ تَمزجْ بِهِ فِضَّةً جَازَتْ عَلَى كُلِّ فَتًى جَاهِل
وَإِنْ تُصَادِفْ صَائِغًا مَاهِرًا مَيَّزَ بَيْنَ المَحْضِ وَالحَائِل
وإني لأعلم فتًى وجاريةً، كان يكلف كلُّ واحد منهما بصاحبه، فكانا يَضطجعان إذا حضرهما أحد وبينهما المسند العظيم من المساند الموضوعة عند ظهور الرؤساء على الفرش، ويلتقي رأساهما وراء المسند، ويُقَبِّل كل واحد منهما صاحبه ولا يُرَيان، وكأنهما إنما يتمدَّدان من الكلل. ولقد كان بلغ من تكافئهما في المودة أمرًا عظيمًا، إلى أن كان الفتى المحب ربما استطال عليها. وفي ذلك أقول:
 
وَمِنْ أَعَاجِيبِ الزَّمَانِ الَّتِي طَمَّتْ عَلَى السَّامِعِ وَالقَائِل
رَغْبَةُ مَرْكُوبٍ إِلَى رَاكِبٍ وَذِلَّةُ المَسْئُولِ لِلسَّائِل
وَطَوْلُ مَأْسُورٍ إِلَى آسِرٍ وَصَوْلَةُ المَقْتُولِ لِلقَاتِل
مَا إِنْ سَمِعْنَا فِي الوَرَى قَبْلَهَا خُضُوعَ مَأْمُولٍ إِلَى آمِلِ
هَلْ هَا هُنَا وَجْهٌ تَرَاهُ سِوَى تَوَاضُعِ المَفْعُولِ لِلْفَاعِلِ
ولقد حدَّثتني امرأة أثق بها أنها شاهدت فتًى وجاريةً كان يَجد كل واحد منهما بصاحبه فضل وَجْد، قد اجتمعا في مكان على طَرب، وفي يد الفتى سِكِّين يقطع بها بعض الفواكه، فجرَّها جرًّا زائدًا فقطع إبهامه قطعًا لطيفًا ظهر فيه دم، وكان على الجارية غلالة قصب خَزائنية لها قيمة، فصرفت يدها وخرقتها وأخرجت منها فضلة شدَّ بها إبهامه. وأما هذا الفعل للمُحب فقليل فيما يجب عليه، وفرض لازم وشريعة مؤداة، وكيف لا وقد بذل نفسه ووهب روحه، فما يمنع بعدها؟!
 
خبر
وأنا أدركت بنت زكريا بن يحيى التَّميمي المعروف بابن برطال، وعمُّها كان قاضي الجماعة بقُرطبة محمد بن يحيى، وأخوه الوزير القائد الذي كان قتله غالبٌ وقائدين له في الوقعة المشهورة بالثغور، وهما: مروان بن أحمد بن شهيد، ويوسف بن سعيد العكي؛ وكانت متزوجة بيحيى بن محمد ابن الوزير يحيى بن إسحاق، فعاجلته المنية وهو في أغض عيشه وأنضر سرورهما، فبلغ من أسفها عليه أن باتت معه في دِثار واحد ليلة مات، وجعلته آخر العهد به وبوصله، ثم لم يفارقها الأسف بعده إلى حين موتها.
 
وإن للوصل المختلس الذي يُخاتل به الرقباء ويتحفظ به من الحُضَّر، مثل الضحك المستور، والنحنحة، وجَوَلان الأيدي، والضغط بالأجناب، والقرص باليد والرجل، لموقعًا من النفس شهيًّا. وفي ذلك أقول:
 
إِنَّ لِلْوَصْلِ الخَفِيِّ مَحلًّا لَيْسَ لِلْوَصْلِ المَكِينِ الجَلِيِّ
لَذَّةٌ أَمْرُها بِارْتِقَابٍ كَمسيرٍ فِي خِلَالِ النقيِّ
خبر
ولقد حدثني ثقة من إخواني جليل من أهل البيوتات أنه كان علق في صباه جارية كانت في بعض دور آله، وكان ممنوعًا منها، فهام عقلُه بها. قال لي: فتنزهنا يومًا إلى بعض ضياعنا بالسهلة غربيَّ قرطبة مع بعض أعمامي، فتمشَّينا في البساتين، وأُبعدنا عن المنازل، وانبسطنا على الأنهار، إلى أن غيَّمت السماء وأقبل الغيث، فلم يكن بالحضرة من الغطاء ما يكفي الجميع. قال: فأمر عمي ببعض الأغطية فأُلقي عليَّ، وأمرها بالاكتنان معي، فظن بما شئت من التمكُّن على أعين الملأ وهم لا يشعرون، ويا لك من جمع كخَلاء، واحتفال كانفراد! قال لي: فوالله لا نسيت ذلك اليوم أبدًا، ولعهدي به وهو يحدثني بهذا الحديث وأعضاؤه كلها تضحك، وهو يهتز فرحًا على بُعد العهد وامتداد الزمان. ففي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
يَضْحَكُ الرَّوْضُ وَالسَّحَائِبُ تَبْكِي كَحَبِيبٍ رَآهُ صَبٌّ مُعَنَّى
خبر
ومن بديع الوصل ما حدَّثني به بعض إخواني أنه كان في بعض المنازل المُصاقبة له هوًى، وكان في المنزلين موضع مطلع من أحدهما على الآخر، فكانت تقف له في ذلك الموضع، وكان فيه بعضُ البُعد، فتسلم عليه ويدها ملفوفة في قميصها، فخاطبها مستخبرًا لها عن ذلك، فأجابته: إنه ربما أُحِسَّ من أمرنا شيء فوقف لك غيري فسلَّم عليك فرددتَ عليه، فصح الظن، فهذه علامة بيني وبينك؛ فإذا رأيت يدًا مكشوفة تشير نحوك بالسلام فليست يدي، فلا تُجاوب.
 
وربما استُحلي الوصال واتفقت القلوب حتى يقع التخلج في الوصال، فلا يُلتفت إلى لائم، ولا يُستتر من حافظ، ولا يُبالَى بناقل، بل العذل حينئذٍ يُغري. وفي صفة الوصل أقول شعرًا، منه:
 
كَمْ دُرْتُ حَوْلَ الحُبِّ حَتَّى لَقَدْ حَصلتُ فِيهِ كَحُصُولِ الفَرَاشِ
ومنه:
 
تَعْشُو إِلَى الوَصْلِ دَوَاعِي الهَوَى كَمَا سَرَى نَحْوَ سَنَا النَّارِ عَاشِ
ومنه:
 
عَلَّلَنِي بِالوَصْلِ من سَيِّدِي كَمِثْلِ تَعْلِيلِ الظِّمَاءِ العِطَاشِ
ومنه:
 
لَا تُوقِفِ العَيْنَ عَلَى غَايَةٍ فَالحُسْنُ فِيهِ مُسْتَزِيدٌ وَبَاشِ
وأقول من قصيدة لي:
 
هَلْ لِقَتِيلِ الحُبِّ مِنْ وَادِي أَمْ هَلْ لِعَانِي الحُبِّ مِنْ فَادِي
أَمْ هَلْ لِدَهْرِي عَوْدَةٌ نَحْوَهَا كَمِثْلِ يَوْمٍ مَرَّ فِي الوَادِي
ظَلِلْتُ فِيهِ سَابِحًا صَادِيًا يَا عَجَبًا لِلسَّابِحِ الصَّادِي
ضَنيتُ يَا مَوْلَايَ وَجْدًا فَمَا تُبْصِرُنِي أَلْحَاظُ عُوَّادِي
كَيْفَ اهْتَدَى الوَجْدُ إِلَى غَائِبٍ عَنْ أَعْيُنِ الحَاضِرِ وَالبَادِي
مَلَّ مُدَاوَاتِي طَبِيبِي فَقَدْ يَرْحَمُنِي لِلسُّقْمِ حُسَّادِي
باب الهجر
ومن آفات الحُبِّ أيضًا الهجرُ، وهو على ضروب؛ فأولها هجر يُوجبه تحفُّظ من رقيب حاضر، وإنه لأحلى من كل وصل، ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يُوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت به عنه، ولأجْللته عن تسطيره فيه؛ فحينئذٍ ترى الحبيب مُنحرفًا عن مُحبه، مقبلًا بالحديث على غيره، مُعرضًا بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته، وترى المحب أيضًا كذلك، ولكنَّ طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم؛ فتراه حينئذٍ مُنحرفًا كمُقبِل، وساكتًا كناطق، وناظرًا إلى جهة نفسه في غيرها. والحاذق الفطن إذا كشف بوهمه عن باطن حديثهما عَلِمَ أن الخافي غير البادي، وما جَهَر به غير نفس الخَبر. وإنه لمن المَشاهد الجالبة للفتن، والمناظر المحركة للسواكن، الباعثة للخواطر، المهيجة للضمائر، الجاذبة للفتوة. ولي أبيات في شيء من هذا أوردتها، وإن كان فيها غير هذا المعنى على ما شرطنا، منها:
 
يَلُومُ أَبُو العَبَّاسِ جَهْلًا بِطَبْعِهِ كَمَا عَيَّرَ الحُوتُ النَّعَامَةَ بِالصَّدَى
ومنها:
 
وَكَمْ صَاحِبٍ أَكْرَمْتُهُ غَيْرَ طَائِعٍ وَلَا مُكْرَهٍ إِلَّا لِأَمْرٍ تَعَمَّدَا
وَمَا كَانَ ذَاكَ البِرُّ إِلَّا لِغَيْرِهِ كَمَا نَصَبُوا لِلطَّيْرِ بِالحبِّ مِصْيَدا
وأقول من قصيدة محتوية على ضروب من الحِكَم وفنون من الآداب الطبيعية:
 
وَسَرَّاءُ أَحْشَائِي لِمَنْ أَنَا مُؤْثِرٌ وَسَرَّاءُ أَبْنَائِي لِمَنْ أَتَحَبَّبُ
فَقَدْ يُشْرَبُ الصَّابُ الكَرِيهُ لِعِلَّةٍ وَيُتْرَكُ صَفوُ الشهْدِ وهو مُحَبَّبُ
وَأَعدلُ فِي إِجْهَادِ نَفْسِيَ فِي الَّذِي أُرِيدُ وَإِنِّي فِيهِ أَشْقَى وَأَتْعَبُ
هَلِ اللُّؤْلُؤ المَكْنُون وَالدُّر كُلهُ رَأَيْتَ بِغَيْرِ الغَوْصِ فِي البَحْرِ يُطْلَبُ
وَأَصْرِفُ نَفْسِي عَنْ وُجُوهِ طِبَاعِهَا إِذَا فِي سِوَاهَا صَحَّ مَا أَنَا أَرْغَبُ
كَمَا نَسَخَ الله الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا بِمَا هُوَ أَدْنَى لِلصَّلَاحِ وَأَقْرَبُ
وَأَلْقَى سَجَايَا كُلِّ خَلْقٍ بِمِثْلِهَا ونَعتُ سَجَايَايَ الصَّحِيحُ المُهذب
كَمَا صَارَ لَوْنُ المَاءِ لَوْنَ إِنَائِهِ وَفِي الأَصْلِ لَوْنُ المَاءِ أَبْيَضُ مُعْجبُ
ومنها:
 
أَقمتُ ذَوِي وُدِّي مُقَامَ طَبَائِعِي حَيَاتِي بِهَا وَالمَوْتُ مِنْهُنَّ يَرْهَبُ
ومنها:
 
وَمَا أَنَا مِمَّنْ تطَّبِيهِ بَشَاشَةٌ وَلَا يَقْتَضِي مَا فِي ضَمِيرِي التَّجَنُّبُ
أَزِيدُ نِفَارًا عِنْدَ ذَلِكَ بَاطِنًا وَفِي ظَاهِرِي أَهْلٌ وَسَهْلٌ وَمَرْحَبُ
فَإِنِّي رَأَيْتُ الحَرْبَ يَعْلُو اشْتِعَالُهَا وَمَبْدَؤُهَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ مَلْعَب
وَلِلْحَيَّةِ الرَّقْشَاءِ وَشْيٌ وَلَوْنُهَا عَجِيبٌ وَتَحْتَ الوَشْيِ سُمٌّ مُرَكَّب
وَإِنَّ فِرنْدَ السَّيْفِ أَعْجَبُ مَنْظَرًا وَفِيهِ إِذَا هُزَّ الحِمَامُ المُذَرَّبُ
وَأَجْعَلُ ذُلَّ النَّفْسِ عِزَّةَ أَهْلِهَا إِذَا هِيَ نَالَتْ مَا لهَا فِيهِ مَذهبُ
فَقَدْ يَضَعُ الإِنْسَانُ فِي التُّرْبِ وَجْهَهُ لِيَأْتِي غَدًا وَهْوَ المَصُونُ المُقَرَّبُ
فَذُلٌّ يَسُوقُ العِزَّ أَجْوَدُ لِلْفَتَى مِنَ العِزِّ يَتْلُوهُ مِنَ الذُّلِّ مَرْكَب
وَكَمْ مَأْكَلٍ أَرَبتْ عَوَاقِبُ غَيِّهِ وَرُبَّ طَوًى بِالخِصْبِ آتٍ وَمُعْقِب
وَمَا ذَاقَ عِزَّ النَّفْسِ مَنْ لَا يُذِلُّهَا وَلَا الْتَذَّ طَعْمَ الرَّوحِ مَنْ لَيْسَ يَنْصَبُ
وُرُودُكَ نَهْلَ المَاءِ مِنْ بَعْدِ ظَمْأَةٍ أَلَذُّ مِنَ العَلِّ المَكِينِ وَأَعْذَبُ
ومنها:
 
وَفِي كُلِّ مَخْلُوقٍ تَرَاهُ تَفَاضُلٌ فَرِدْ طَيِّبًا إِنْ لَمْ يُتَحْ لَكَ أَطْيَب
وَلَا تَرْضَ وِرْدَ الرِّيقِ إِلَّا ضَرُورَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الأرْضِ حَاشَاهُ مَشْرَب
وَلَا تَقْربَنْ مِلْحَ المِيَاهِ فَإِنَّهَا شَجًى وَالصَّدى بِالحَرِّ أَوْلَى وَأَوْجَب
ومنها:
 
فَخُذْ مِنْ جَرَاهَا مَا تَيَسَّرَ وَاقتنِعْ وَلَا تَكُ مَشْغُولًا بِمَنْ هُوَ يَغْلِب
فَمَا لَكَ شَرْطٌ عِنْدَهَا لَا وَلَا يَدٌ وَلَا هِيَ إِنْ حَصَّلْتَ أمٌّ وَلَا أَب
ومنها:
 
وَلَا تَيْأَسَنْ مِمَّا يُنَالُ بِحِيلَةٍ وَإِنْ بَعُدَتْ فَالأَمْرُ يَنْأَى وَيَصْعُب
وَلَا تَأْمَنِ الإِظْلَامَ فَالفَجْرُ طَالِعٌ وَلَا تَلْتَبِسْ بِالضَّوْءِ فَالشَّمْسُ تَغْرُب
ومنها:
 
أَلِحَّ فَإِنَّ المَاءَ يَكْدَحُ فِي الصَّفَا إِذَا طَالَ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَيَذْهَب
وَكَثِّرْ وَلَا تَفْشَلْ وَقَلِّلْ كَثِيرَ مَا فَعلْتَ فَمَاءُ المُزْنِ جَمٌّ وَيَنْضُب
فَلَوْ يَتَغَذَّى المَرْءُ بِالسُّمِّ قَاتَهُ وَقَامَ لَهُ مِنْهُ غِذَاءٌ مُجَرَّب
ثم هَجْر يُوجبه التذلُّل، وهو ألذُّ من كثير الوصال؛ ولذلك لا يكون إلا عن ثِقة كُل واحد من المتحابِّين بصاحبه، واستحكام البصيرة في صحة عَقده؛ فحينئذٍ يُظهر المحبوب هجرانًا ليرى صبر مُحبه؛ وذلك لئلا يصفوَ الدهرَ البتة، وليأسف المحب إن كان مفرط العشق عند ذلك لا لما حلَّ، لكن مخافة أن يترقَّى الأمر إلى ما هو أجلُّ. يكون ذلك الهجر سببًا إلى غيره، أو خوفًا من آفة حادث ملل. ولقد عرض لي في الصبا هجر مع بعض من كنت آلف، على هذه الصفة، وهو لا يلبث أن يضمحل ثم يعود، فلما كثر ذلك قلت على سبيل المزاح شعرًا بديهيًّا ختمتُ كل بيت منه بقسم من أول قصيدة طرفة بن العبد المُعلَّقة، وهي التي قرأناها مشروحةً على أبي سعيد الفتى الجعفري، عن أبي بكر المقرئ، عن أبي جعفر النحاس — رحمهم الله — في المسجد الجامع بقرطبة، وهي:
 
تَذَكَّرْتُ وُدًّا لِلْحَبِيبِ كَأَنَّهُ لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَة ثَهْمَدِ
وَعَهْدِي بِعَهْدٍ كَانَ لِي مِنْهُ ثَابِتٍ يَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
وَقَفْتُ بِهِ لَا مُوقِنًا بِرُجُوعِهِ وَلَا آيِسًا أَبْكِي وَأَبْكِي إِلَى الغَدِ
إِلَى أَنْ أَطَالَ النَّاسُ عَذْلِي وَأَكْثَرُوا يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ
كَأَنَّ فُنُونَ السُّخْطِ مِمَّنْ أُحِبُّهُ خَلَايَا سَفينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَد
كَأَنَّ انْقِلَابَ الهَجْرِ وَالوَصْلِ مَرْكَبٌ يَجُورُ بِهِ المَلَّاحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي
فَوَقْتُ رِضًى يَتْلُوهُ وَقْتُ تَسَخُّطٍ كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ المُفَايِلُ بِاليَدِ
وَيَبْسِمُ نَحْوِي وهو غَضْبَانُ مُعْرِضٌ مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ
ثم هَجْر يُوجبه العِتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعضُ الشدة، لكن فرحة الرجعة وسُرور الرضى يعدل ما مضى؛ فإن لرضى المَحبوب بعد سخطه لذةً في القلب لا تعدلها لذة، وموقفًا من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا. وهل شاهد مُشاهد أو رأت عين أو قام في فكرٍ ألذُّ وأشهى من مقام قد قام عنه كل رقيب، وبَعُد عنه كل بغيض، وغاب عنه كل واشٍ، واجتمع فيه مُحبَّان قد تصارما لذنب وقع من المحب منهما وطال ذلك قليلًا، وبدأ بعض الهجر ولم يكن ثَمَّ مانع من الإطالة للحديث، فابتدأ المُحب في الاعتذار والخضوع والتذلُّل والأدلة بحجته الواضحة من الإدلال والإذلال والتذمم بما سلف، فطورًا يُدلي ببراءته، وطورًا يردُّ بالعفو ويستدعي المغفرة ويُقر بالذَّنب ولا ذنب له، والمحبوب في كل ذلك ناظر إلى الأرض يُسارقه اللحظَ الخفي، وربما أدامه فيه، ثم يبسم مُخفيًا لتبسمه، وذلك علامة الرضى، ثم ينجلي مجلسهما عن قَبول العذر، ويقبل القول، وامتحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط، ووقع الجواب بنعم وذنبك مغفور، ولو كان، فكيف ولا ذنب؟ وختما أمرهما بالوصل الممكن، وسُقوط العتاب، والإسعاد، وتفرقا على هذا.
 
هذا مكان تَتقاصر دونه الصفات، وتتلكَّن بتحديده الألسنة. ولقد وطئتُ بساط الخلفاء وشاهدتُ محاضر الملوك فما رأيتُ هيبةً تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكُّن المتغلبين على الرؤساء وتحكُّم الوزراء وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أشد تبجُّحًا ولا أعظم سرورًا بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده، ووثق بميله إليه، وصحة مودته له.
 
وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف مُحب هَيمان بين يدي محبوب غضبان قد غَمره السخط، وغلب عليه الجفاء. ولقد امتحنت الأمرين، وكنت في الحالة الأولى أشدَّ من الحديد، وأنفذ من السيف، لا أجيب إلى الدنية، ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلُّل، وأغتنم فُرصة الخضوع لو نجع، وأتحلَّل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفنن القول فنونًا، وأتصدى لكل ما يوجب الترضِّي.
 
والتجنِّي بعضُ عوارض الهجران، وهو يقع في أول الحب وآخره، فهو في أوله علامة لصحَّة المحبة، وفي آخره علامة لفتورها وباب للسلو.
 
خبر
وأذكر في مثل هذا أني كنت مجتازًا في بعض الأيام بقرطبة في مقبرة باب عامر، في لَمَّة من الطلاب وأصحاب الحديث، ونحن نريد مجلس الشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد المصري بالرصافة أستاذي — رضي الله عنه — ومعنا أبو بكر عبد الرحمن بن سليمان البلوي من أهل سِبتة، وكان شاعرًا مفلقًا، وهو ينشد لنفسه في صفة متجنٍّ معهود أبياتًا له، منها:
 
سَرِيعٌ إِلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَإِنَّهُ إِلَى نَقْضِ أَسْبَابِ المَوَدَّةِ يُسْرِعُ
يَطُولُ عَلَيْنَا أَنْ نُرِقِّعَ وُدَّهُ إِذَا كَانَ فِي تَرْقِيعِهِ يَتَقَطَّعُ
فوافق إنشاد البيت الأول من هذين البيتين خطور أبي الحسين بن علي الفاسي — رحمه الله تعالى — وهو يؤم أيضًا مجلس ابن أبي يزيد، فسمعه فتبسم — رحمه الله — نحونا، وطوانا ماشيًا وهو يقول: بل إلى عقد المودة إن شاء الله؛ فهو أولى. هذا على جِد أبي الحسين — رحمه الله — وفضله وتقرُّبه وبراءته ونسكه وزهده وعلمه، فقلت في ذلك:
 
دَعْ عَنْكَ نَقْضَ مَوَدَّتِي مُتَعَمِّدًا وَاعْقِدْ حِبَالَ وِصَالِنَا يَا ظَالِمُ
وَلَتَرْجِعَنَّ أَرَدْتَهُ أَوْ لَمْ تُرِد كُرْهًا لِمَا قَالَ الفَقِيهُ العَالِمُ
ويقع فيه الهجر والعتاب. ولعمري إن فيه إذا كان قليلًا للذة، وأما إذا تفاقم فهو فأل غير محمود، وأمارة وبيئة المصدر، وعلامة سوء، وهي بجملة الأمر مطية الهجران، ورائد الصريمة، ونتيجة التجنِّي، وعنوان الثقل، ورسول الانفصال، وداعية القلى، ومقدِّمة الصد، وإنما يُستحسن إذا لَطُف وكان أصله الإشفاق. وفي ذلك أقول:
 
لَعَلَّكَ بَعْدَ عَتبِكَ أَنْ تَجُودَا بِمَا مِنْهُ عَتَبْتَ وَأَنْ تَزِيدَا
فَكَمْ يَوْمٍ رَأَيْنَا فِيهِ صَحْوًا وَأَسْمَعَنَا بِآخِرِهِ الرُّعُودَا
وَعَادَ الصَّحْوُ بَعْدُ كَمَا عَلِمْنَا وَأَنْتَ كَذَاكَ نَرْجُو أَنْ تَعُودَا
وكان سبب قولي هذه الأبيات عِتاب وقع في يومٍ هذه صفتُه من أيام الربيع، فقلتُها في ذلك الوقت، وكان لي في بعض الزمن صديقان، وكانا أخوين، فغابا في سفر ثم قَدِما وقد أصابني رَمَدٌ فتأخَّرا عن عيادتي، فكتبتُ إليهما — والمخاطبة للأكبر منهما — شعرًا، منه:
 
وَكُنْتُ أُعَدِّدُ أُيْضًا عَلَى أَخِيكَ بِمُؤْلِمَةِ السَّامِعِ
وَلَكِنْ إِذَا الدَّجْنُ غَطَّى ذُكَاءً فَمَا الظَّنُّ بِالقَمَرِ الطَّالِعِ؟
ثم هجر يُوجبه الوُشاة. وقد تقدم القول فيهم وفيما يتولد من دبيب عقاربهم، وربما كان سببًا للمقاطعة البتة.
 
ثم هجر الملل. والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دُهي به ألا يصفوَ له صديق، ولا يَصحَّ له إخاء، ولا يثبت على عهد، ولا يصبر على إلف، ولا تطول مُساعدته لمُحب، ولا يُعتقد منه وُدٌّ ولا بغض. وأولى الأمور بالناس ألَّا يغروه منهم، وأن يفروا عن صحبته ولقائه؛ فلن يظفروا منه بطائل؛ ولذلك أبعدنا هذه الصفة عن المُحبين، وجعلناها في المحبوبين، فهم بالجملة أهل التجنِّي والتظنِّي والتعرض للمقاطعة. وأما من تزيَّا باسم الحُبِّ وهو مَلُولٌ فليس منهم، وحقُّه ألا يتجرع مذاقه، ويُنفى عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم.
 
وما رأيت قط هذه الصفة أشد تغلبًا منها على أبي عامر محمد بن عامر — رحمه الله — فلو وصف لي واصف بعضَ ما علمتُه منه لما صدقتُه. وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبةً، وأقلُّهم صبرًا على المحبوب، وعلى المكروه والصد، وانقلابهم عن الودِّ على قدر تسرُّعهم إليه؛ فلا تثِق بملول، ولا تَشغل به نفسك، ولا تُعنِّها بالرجاء في وفائه، فإن دُفعت إلى محبته ضرورةً فَعُدَّه ابنَ ساعته، واستأنفه كل حين من أحيانه بحسب ما تراه من تلوُّنه، وقابله بما يشاكله.
 
ولقد كان أبو عامر المُحدَّث عنه يرى الجاريةَ فلا يَصبر عنها، ويُحيق به من الاغتمام والهم ما يكاد أن يأتيَ عليه حتى يملكها، ولو حال دون ذلك شوكُ القتاد، فإذا أيقن بتصيُّرها إليه عادت المحبة نفارًا، وذلك الأنس شُرودًا، والقلق إليها قلقًا منها، ونزاعه نحوها نزاعًا عنها، فيبيعها بأوكس الأثمان. هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا من عشرات ألوف الدنانير عددًا عظيمًا. وكان — رحمه الله — مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقُّد مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض.
 
وأما حسن وجهه وكمال صُورته فشيء تَقف الحدود عنه، وتَكِلُّ الأوهام عن وصف أقله، ولا يتعاطى أحد وصفه. ولقد كانت الشوارع تخلو من السيَّارة ويتعمدون الخُطور على باب داره في الشارع الآخذ من النهر الصغير على باب دارنا في الجانب الشرقي بقُرطبة إلى الدرب المتصل بقصر الزاهرة — وفي هذا الدرب كانت داره، رحمه الله، ملاصقةً لنا — لا لشيء إلا للنظر منه. ولقد مات من محبَّته جَوارٍ كُنَّ علَّقْن أوهامهن به، ورثَينَ له فخانَهنَّ مما أمَّلْنه منه، فصِرْنَ رهائنَ البِلَى وقتلتهنَّ الوحدة.
 
وأنا أعرف جاريةً منهن كانت تُسمى عفراء، عهدي بها لا تتستر بمحبته حيثما جلست، ولا تجف دموعها، وكانت قد تصيرت من داره إلى البركات الخيَّال صاحب الفتيان. ولقد كان — رحمه الله — يُخبرني عن نفسه أنه يملُّ اسمَه فضلًا عن غير ذلك.
 
وأما إخوانه فإنه تبدَّل بهم في عُمره على قِصَره مرارًا، وكان لا يثبُتُ على زي واحد كأبي بَراقش؛ حينًا يكون في ملابس الملوك، وحينًا في ملابس الفتَّاك.
 
فيجب على مَن امتُحن بمخالطة مَن هذه صفته على أي وجهٍ كان ألَّا يستفرغ عامة جُهْده في محبَّته، وأن يُقيم اليأس من دوامه خَصمًا لنفسه؛ فإذا لاحت له مخايل الملل قاطعه أيامًا حتى ينشط بالُه، ويبعد به عنه، ثم يُعاوده، فربما دامت المودَّة مع هذا. وفي ذلك أقول:
 
لَا تَرْجُوَنَّ مَلُولًا لَيْسَ المَلُولُ بِعُدَّهْ
وُدَّ المَلُولِ فَدَعْهُ عَارِيَة مُسْتَرَدَّهْ
ومن الهَجْر ضَربٌ يكون متولِّيه المحب، وذلك عندما يرى من جَفاء محبوبه والميل عنه إلى غيره، أو لثقيل يلازمه، فيرى الموت ويتجرَّع غُصص الأسى، والعض على نقيف الحنظل أهون من رؤية ما يكره، فينقطع وكبده تتقطع. وفي ذلك أقول:
 
هَجَرْتُ مَنْ أَهْوَاهُ لَا عَنْ قِلًى يَا عَجَبًا لِلعَاشِقِ الهَاجِرِ
لَكِنَّ عَيْنِي لَمْ تُطِقْ نَظْرَةً إِلَى مُحَيَّا الرَّشَأ الغَادِرِ
فَالمَوْتُ أَحْلَى مَطْمَعًا مِنْ هَوًى يُبَاحُ لِلْوَارِدِ وَالصَّادِرِ
وَفِي الفُؤَادِ النَّارُ مَذْكِيَّةٌ فَاعجبْ لِصَبٍّ جَزِعٍ صَابِرِ
وَقَدْ أَبَاحَ الله فِي دِينِهِ تَقِيَّةَ المَأْسُورِ لِلآسِرِ
وَقَدْ أَحَلَّ الكُفْرَ خَوْفُ الرَّدَى حَتَّى تَرَى المُؤْمِنَ كَالكَافِرِ
خبر
ومن عجيب ما يكون فيها وشنيعه أني أعرف مَن هام قلبُه بمتناءٍ عنه نافرٍ منه، فقاسى الوجد زمنًا طويلًا، ثم سَنحت له الأيام بسانحة عجيبة من الوصل أشرف بها على بلوغ أمله، فحين لم يكن بينه وبين غاية رجائه إلا كهؤلاء عاد الهَجر والبُعد إلى أكثر ما كان قبلُ، فقلت في ذلك:
 
كَانَتْ إِلَى دَهْرِيَ لِي حَاجَةٌ مَقْرُونَةٌ فِي البُعْدِ بِالمُشْتَرِي
فَسَاقَهَا بِاللُّطْفِ حَتَّى إِذَا كَانَتْ مِنَ القُرْبِ عَلَى مَحْجر
أَبْعَدَهَا عَنِّي فَعَادَتْ كَأَنْ لَمْ تَبْدُ لِلْعَيْنِ وَلَمْ تَظْهَرِ
وقلت:
 
دَنَا أَمَلِي حَتَّى مَدَدْتُ لِأَخْذِهِ يَدًا فَانْثَنَى نَحْوَ المَجَرَّةِ رَاحِلَا
فَأَصْبَحْتُ لَا أَرْجُو وَقَدْ كُنْتُ مُوقِنًا وَأُضْحي مَعَ الشِّعْرَى وَقَدْ كَانَ حَاصِلا
وَقَدْ كُنْتُ مَحْسُودًا فَأَصْبَحْتُ حَاسِدًا وَقَدْ كُنْتُ مَأْمُولًا فَأَصْبَحْتُ آمِلا
كَذَا الدَّهْرُ فِي كَرَّاتِهِ وَانْتِقَالِهِ فَلَا يَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ مَنْ كَانَ عَاقِلا
ثم هَجْر القِلَى، وهنا ضلت الأساطير، ونفدت الحِيل، وعظم البلاء؛ وهو الذي خلَّى العقولَ ذواهلَ، فمن دُهي بهذه الداهية فليتصدَّ لمحبوب محبوبه، وليتعمَّد ما يعرف أنه يستحسنه، ويجب أن يجتنب ما يدري أنه يكرهه، فربما عطَّفه ذلك عليه إن كان المحبوب ممن يدري قدر الموافقة والرغبة فيه، وأما من لم يعلم قدر هذا فلا طَمع في استصرافه، بل حسناتك عنده ذنوب؛ فإن لم يقدر المرء على استصرافه؛ فليتعمَّد السُّلوان، وليحاسب نفسه بما هو فيه من البلاء والحرمان، ويسعى في نيل رغبته على أي وجه أمكنه. ولقد رأيت مَن هذه صفته، وفي ذلك أقول قطعةً، أوَّلها:
 
دُهِيتُ بِمَنْ لَوْ أَدْفَعُ المَوْتَ دُونَهُ لَقَالَ إِذًا يا لَيْتَنِي فِي المَقَابِرِ
ومنها:
 
وَلَا ذَنْبَ لِي إِذْ صِرْتُ أَحْدُو رَكَائِبِي إِلَى الورْدِ وَالدُّنْيَا تُسِيءُ مَصَادِرِي
وَمَاذَا عَلَى الشَّمْسِ المُنِيرَةِ بِالضُّحَى إِذَا قَصُرَتْ عَنْهَا ضِعَافُ البَصَائِرِ
وأقول:
 
مَا أَقْبَحَ الهَجْرَ بَعْدَ وَصْلٍ وَأَحْسَنَ الوَصْلَ بَعْدَ هَجْرِ
كَالوَفْرِ تَحْوِيهِ بَعْدَ فَقْرٍ وَالفَقْرِ يَأْتِيكَ بَعْدَ وَفْرِ
وأقول:
 
مَعْهُود أَخْلَاقك قِسْمانِ وَالدَّهْرُ فِيكَ اليَوْمَ صِنْفان
فَإِنَّكَ النُّعْمانُ فِيما مَضَى وَكَانَ لِلنُّعْمَانِ يَوْمَان
يَوْمُ نَعِيمٍ فِيهِ سَعْدُ الوَرَى وَيَوْمُ بَأْسَاء وَعُدْوَانِ
فَيَوْم نُعْمَاكَ لِغَيْرِي وَيَوْ مِي مِنْكَ ذُو بُؤْسٍ وَهجْرَانِ
أَلَيْسَ حُبِّي لَكَ مُسْتَاهِلًا لِأَنْ تُجَازِيهِ بِإِحْسَانِ
وأقول قطعةً، منها:
 
يَا مَنْ جَمِيعُ الحُسْنِ مُنْتَظِمٌ فِيهِ كَنَظْمِ الدُّرِّ فِي العِقْدِ
مَا بَالُ حَتْفِي مِنْكَ يَطْرُقُنِي قَصْدًا وَوَجْهُكَ طَالِعُ السَّعْدِ
وأقول قصيدة، أولها:
 
أَسَاعَةُ تَوْدِيعِكَ أَمْ سَاعَةُ الحَشْرِ وَلَيْلَةُ بَيْنِي مِنْكَ أَمْ لَيْلَةُ النَّشْرِ
وَهَجْرُكَ تَعْذِيبُ المُوَحِّدِ يَنْقَضِي وَيَرْجُو التَّلَاقِي أَمْ عَذَابُ ذَوِي الكُفْرِ
ومنها:
 
سَقَى الله أَيَّامًا مَضَتْ وَلَيَالِيًا تُحَاكِي لَنَا النَّيْلُوفَرَ الغَضَّ فِي النَّشْرِ
فَأَوْرَاقُهُ الأَيَّامُ حُسْنًا وَبَهْجَةً وَأَوْسَطُهُ اللَّيْلُ المُقَصِّرُ لِلْعُمْرِ
لَهَوْنَا بِهَا فِي غَمْرَةٍ وَتَآلُفٍ تَمُرُّ فَلَا نَدْرِي وَتَأتِي فَلَا نَدْرِي
فَأَعْقَبَنَا مِنْهُ زَمَانٌ كَأَنَّهُ وَلَا شَكَّ حُسْنُ العقْدِ أعقب بِالغَدْرِ
ومنها:
 
فَلَا تَيْأَسِي يَا نَفْسُ عَلَّ زَمَانَنَا يَعُودُ بِوَجْهٍ مُقْبِلٍ غَيْرِ مُدْبِرِ
كَمَا صَرفَ الرَّحْمَنُ مُلْكَ أُمَيَّة إِلَيْهِمْ، وَلُوذِيَ بِالتَّجَمُّلِ وَالصَّبْرِ
وفي هذه القصيدة أمدح أبا بكر هشام بن محمد، أخا أمير المؤمنين عبد الرحمن المرتضى — رحمه الله — فأقول:
 
أَلَيْسَ يُحِيطُ الرُّوحَ فِينَا بِكُلِّ مَا دَنَا وَتَنَاءَى وَهْوَ فِي حُجُبِ الصَّدْرِ
كَذَا الدَّهْرُ جِسْمٌ وهو فِي الدَّهْرِ رُوحُهُ مُحِيطٌ بِمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتَ فَاسْتقْرِ
ومنها:
 
إِتَاوَتُهَا تُهْدى إِلَيْهِ وَمِنَّةٌ تَقبُّلُهَا مِنْهُمْ يُقَاوَمُ بِالشُّكْرِ
كَذَا كُلُّ نَهْرٍ فِي البِلَادِ وَإِنْ طَمَتْ غَزَارَتُهُ يَنْصَبُّ فِي لُجَجِ البَحْرِ

 باب الوفاء
ومن حميد الغرائز وكريم الشِّيم وفاضل الأخلاق في الحُبِّ وغيرِه الوفاءُ، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طِيب الأصل، وشَرف العُنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
أَفْعَالُ كُلِّ امْرِئٍ تُنْبِي بِعُنْصُرِهِ وَالعَيْنُ تُغْنِيكَ عَنْ أَنْ تَطْلُبَ الأَثَرَا
ومنها:
 
وَهَلْ تَرَى قَطُّ دِفْلى أَنْبَتَتْ عِنَبًا أَوْ تَذْخرُ النَّحْل فِي أَوْكَارِهَا الصَّبِرَا
وأول مراتب الوفاء أن يفيَ الإنسان لمن يفي له. وهذا فرض لازم، وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خَلاقَ له ولا خير عنده. ولولا أن رسالتنا هذه لم نقصد بها الكلام في أخلاق الإنسان وصفاته المطبوعة والتطبُّع بها، وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبُّع بعدم الطبع، لزدتُ في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله، ولكنا إنما قصدنا التكلُّم فيما رغبته من أمر الحب فقط. وهذا أمر كان يطول جدًّا؛ إذ الكلام فيه يتفنن كثيرًا.
 
خبر
ومن أرفع ما شاهدته من الوفاء في هذا المعنى وأهوله شأنًا قصَّة رأيتها عِيانًا، وهو أني أعرف مَن رَضِي بقطيعة محبوبه وأعزِّ الناس عليه، ومن كان الموت عنده أحلى من هجر ساعة في جَنب طيِّه لسرٍّ أودعه، والتزم محبوبه يمينًا غليظةً ألَّا يكلمه أبدًا، ولا يكون بينهما خبرٌ أو يفضح إليه ذلك السر. على أن صاحب ذلك السرِّ كان غائبًا، فأبى من ذلك، وتمادى هو على كتمانه، والثاني على هجرانه إلى أن فرَّقت بينهما الأيام.
 
ثم مرتبة ثانية، وهو الوفاء لمن غَدر، وهي للمُحب دون المحبوب، وليس للمحبوب ها هنا طريق ولا يلزمه ذلك، وهي خُطة لا يُطيقها إلا جَلْد قويٌّ واسع الصدر، حرُّ النفس، عظيم الحِلْم، جليل الصبر، حَصِيف العقل، ماجد الخُلُق، سالم النية. ومن قابل الغدر بمثله فليس بمُستأهل للملامة، ولكن الحال التي قدمنا تفوقها جدًّا وتفوتها بُعدًا. وغاية الوفاء في هذه الحال تركُ مكافأة الأذى بمثله، والكف عن سيئ المعارضة بالفعل والقول، والتأني في جرِّ حَبل الصحبة ما أمكن، ورُجيت الألفة، وطُمع في الرجعة، ولاحت للعودة أدنى مخيلة، وشيمت منها أقل بارقة، أو توجس منها أيسر علامة.
 
فإذا وقع اليأس واستحكم الغيظ حينئذٍ والسلامة من غرك، والأمن من ضرك، والنجاة من أذاك، وأن يكون ذكر ما سلف مانعًا من شفاء الغيظ فيما وقع، فرَعْي الأذمة حق وَكِيد على أهل العقول، والحنين إلى ما مضى، وألا ينسى ما قد فرغ منه وفنيت مدته أثبت الدلائل على صحة الوفاء. وهذه الصفة حسنة جدًّا، وواجب استعمالها في كل وجهٍ من وجوه معاملات الناس فيما بينهم على أي حالٍ كانت.
 
خبر
ولعهدي برجل من صَفوة إخواني قد علق بجاريةٍ فتأكد الود بينهما، ثم غدرت بعهده، ونقَضت وُدَّه، وشاع خبرهما، فوجد لذلك وجدًا شديدًا.
 
خبر
وكان لي مرةً صديق، ففسدت نيَّتُه بعد وَكِيد مودة لا يُكفر بمثلها، وكان علم كل واحد منا سرَّ صاحبه، وسقطت المئونة، فلما تغير عليَّ أفشى كل ما اطَّلع لي عليه مما كنت اطلعت منه على أضعافه، ثم اتَّصل به أن قوله فيَّ قد بلغني؛ فجزع لذلك وخشي أن أُقارضه على قبيح فعلته، وبلغني ذلك فكتبتُ إليه شعرًا أؤنسه فيه وأعلمه أني لا أقارضه.
 
خبر
ومما يدخل في هذا الدرج، وإن كان ليس منه ولا هذا الفصل المتقدم من جنس الرسالة والباب، ولكنه شبيه له على ما قد ذكرنا وشرطنا، وذلك أن محمد بن وليد بن مكسير الكاتب كان مُتصلًا بي ومُنقطعًا إليَّ أيام وزارة أبي — رحمة الله عليه — فلما وقع بقُرطبة ما وقع وتغيرت أحوالٌ خرج إلى بعض النواحي فاتَّصل بصاحبها، فعرض جاهُه وحدثت له وَجاهة وحالٌ حسنة، فحللتُ أنا تلك الناحية في بعض رحلتي فلم يُوَفِّني حقي، بل ثَقُل عليه مكاني وأساء معاملتي وصُحْبتي، وكلَّفته في خلال ذلك حاجةً لم يقُم فيها ولا قعَد، واشتغل عنها بما ليس في مثله شُغل، فكتبتُ إليه شعرًا أعاتبه فيه، فجاوبني مستعتبًا على ذلك، فما كلَّفته حاجةً بعدها. ومما لي في هذا المعنى، وليس من جنس الباب ولكنه يشبهه، أبيات قلتها، منها:
 
وَلَيْسَ يُحْمَدُ كِتْمَانٌ لِمُكْتَتِمٍ لَكِنَّ كَتْمَكَ مَا أَفْشَاهُ مُفْشِيهِ
كَالجُودِ بِالوَفْرِ أَسْنَى مَا يَكُونُ إِذَا قَلَّ الوُجُودُ لَهُ أَوْ ضَنَّ مُعْطِيهِ
ثم مَرتبة ثالثة؛ وهي الوفاء مع اليأس الباتِّ، وبعد حلول المنايا وفجاءات المنون. وإن الوفاء في هذه الحالة لأجلُّ وأحسن منه في الحياة، ومع رجاء اللقاء.
 
خبر
ولقد حدَّثتني امرأة أثق بها أنها رأت في دار محمد بن أحمد بن وهب، المعروف بابن الركيزة، من وَلد بدر الداخل مع الإمام عبد الرحمن بن معاوية — رضي الله عنه — جاريةً رائعةً جميلةً كان لها مولًى فجاءته المنيَّة، فبيعت في تركته، فأبت أن ترضى بالرجال بعده، وما جامَعها رجل إلى أن لقيت الله عز وجل، وكانت تُحسنُ الغناء فأنكرت علمَها به، ورضيت بالخدمة والخروج عن جملة المتخذات للنَّسل واللذة والحال الحسنة وفاءً منها لمن دثر ووارته الأرض والْتأمت عليه الصفائح. ولقد رامها سيدُها المذكورُ أن يضمَّها إلى فراشه مع سائر جواريه ويُخرجها مما هي فيه فأبتْ، فضربها غير مرةٍ وأوقع بها الأدب، فصبرت على ذلك كله، فأقامت على امتناعها. وإن هذا من الوفاء غريب جدًّا.
 
واعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب، وشرطه له ألزم؛ لأن المحب هو البادي باللُّصوق والتعرُّض لعقد الأذمة، والقاصد لتأكيد المودة، والمستدعي صحة العشرة، والأول في عدد طلاب الأصفياء، والسابق في ابتغاء اللذة باكتساب الخلة، والمقيد نفسه بزمام المحبة قد عقلها بأوثق عقال، وخطمها بأشد خطام، فمن قسره على هذا كله إن لم يُرد إتمامه؟ ومن أجبره على استجلاب المِقة إن لم يَنْوِ ختمها بالوفاء لمن أراده عليها؟ والمحبوب إنما هو مجلوب إليه، ومقصود نحوه، ومُخيَّر في القبول أو الترك، فإن قبل فغاية الرجاء، وإن أبى فغير مستحقٍّ للذم. وليس التعرُّض للوصل والإلحاح فيه والتأني لكل ما يُستجلب به من الموافقة وتصفية الحضرة والمغيب من الوفاء في شيء؛ فحظ نفسه أراد الطالب، وفي سُروره سَعى، وله احتطب، والحب يدعوه ويَحْدوه على ذلك شاء أو أبَى، وإنما يُحمد الوفاء ممن يقدر على تركه.
 
وللوفاء شُروط على المحبين لازمة؛ فأولها أن يحفظ عهدَ محبوبه ويرعى غيبته، وتستوي علانيته وسريرته، ويطوي شره وينشر خيره، ويغطي على عيوبه، ويحسن أفعاله، ويتغافل عما يقع منه على سبيل الهفوة، ويرضى بما حمله، ولا يكثر عليه بما ينفر منه، وألا يكون طُلعةً ثئُوبًا ولا مَلَّةً طَروقًا. وعلى المحبوب إن ساواه في المحبَّة مثلُ ذلك، وإن كان دونه فيها فليس للمحب أن يكلفه الصعود إلى مرتبته، ولا له الاستشاطة عليه بأن يسومه الاستواء معه في درجته، وبحسبه منه حينئذٍ كتمان خبره، وألا يقابله بما يكره ولا يُخيفه به، وإن كانت الثالثة؛ وهي السلامة مما يلقى بالجملة، فَلْيَقنع بما وجد، وليأخذ من الأمر ما استدف، ولا يطلب شرطًا ولا يقترح حقًّا، وإنما له ما سنح بجده أو ما حان بكده. واعلم أنه لا يستبين قُبح الفعل لأهله؛ ولذلك يتضاعف قُبحه عند من ليس من ذويه، ولا أقول قولي هذا مُمتدحًا، ولكن آخذًا بأدب الله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
 
لقد مَنحني الله عز وجل من الوفاء لكُل من يَمُتُّ إليَّ بلقية واحدة، ووهبني من المحافظة لمن يتذمَّم مني ولو بمُحادثته ساعة حظًّا، أنا له شاكر وحامد، ومنه مُستمد ومستزيد. وما شيء أثقل عليَّ من الغدر، ولعمري ما سمحت نفسي قط في الفِكرة في إضرار مَن بيني وبينه أقل ذمام، وإن عظمت جريرته، وكثرت إليَّ ذنوبه. ولقد دهمني من هذا غيرُ قليل، فما جزيت على السُّوأَى إلا بالحُسنى، والحمد لله على ذلك كثيرًا. وبالوفاء أفتخر في كلمة طويلة ذكرت فيها ما مضَّنَا من النكبات، ودهمنا من الحل والترحال والتحول في الآفاق، أوَّلها:
 
وَلَّى فَوَلَّى جَمِيلُ الصَّبْرِ يَتْبَعُهُ وَصَرَّحَ الدَّمْعُ مَا تُخْفِيهِ أَضْلُعُهُ
جِسْمٌ مَلُولٌ وَقَلْبٌ آلِفٌ فَإِذَا حَلَّ الفِرَاقُ عَلَيْهِ فَهْوَ مُوجِعُهُ
لَمْ تَسْتَقرَّ بِهِ دَارٌ وَلَا وَطَنٌ وَلَا تَدَفَّأَ مِنْهُ قَطُّ مَضْجعُهُ
كَأَنَّمَا صِيغَ مِنْ رَهْوِ السَّحَابِ فَمَا تَزَالُ رِيحٌ إِلَى الآفَاقِ تَدْفَعُهُ
كَأَنَّمَا هُوَ تَوْحِيدٌ تَضِيقُ بِهِ نَفْسُ الكَفُورِ فَتَأْبَى حِينَ تُودعُهُ
أُوْ كَوْكَبٌ قَاطِعٌ فِي الأُفْقِ مُنْتَقِلٌ فَالسَّيْرُ يُغْرِبُهُ حِينًا وَيُطْلِعُهُ
أَظُنُّهُ لَوْ جزته أَوْ تُسَاعِدُهُ أَلْقَتْ عَلَيْهِ انْهِمَالَ الدَّمْعِ يَتْبَعُهُ
وبالوفاء أيضًا أفتخر في قصيدة لي طويلة أوردتها، وإن كان أكثرها ليس من جنس الكتاب، فكان سبب قولي لها أن قومًا من مُخالفيَّ شرقوا بي فأساءوا العتب في وجهي، وقذفوني بأني أعضدُ الباطل بحُجتي، عجزًا منهم عن مُقاومة ما أوردته من نَصر الحق وأهله، وحسدًا لي، فقلت وخاطبت بقصيدتي بعض إخواني، وكان ذا فهم، منها:
 
وَخُذْنِي عَصَا مُوسَى وَهَاتِ جَمِيعَهُمْ وَلَو أَنَّهُمْ حَيَّاتُ ضَالٍ نَضَانِضُ
ومنها:
 
يُرِيغُونَ فِي عيني عَجَائِب جَمَّة وَقَدْ يَتَمَنَّى اللَّيْثُ وَاللَّيْثُ رَابِضُ
ومنها:
 
وَيَرْجُونَ مَا لَا يَبْلُغُونَ كَمِثْلِ مَا يُرَجِّي مُحَالًا فِي الإِمَامِ الرَّوَافِضُ
ومنها:
 
وَلَوْ جَلَدِي فِي كُلِّ قَلْبٍ وَمُهْجَةٍ لَمَا أَثَّرَتْ فِيهَا العُيُونُ المَرَائِضُ
أَبَتْ عَنْ دَنِيءِ الوَصْفِ ضَرْبَةُ لَازِبٍ كَمَا أَبَتِ الفِعْلَ الحُرُوفُ الخَوَافِضُ
ومنها:
 
وَرَأْيِي لَهُ فِي كُلِّ مَا غَابَ مَسْلَكٌ كَمَا تَسْلُكُ الجِسْمَ العُرُوقُ النَّوَابِضُ
يَبِينُ مَدَبُّ النَّمْلِ فِي غَيْرِ مُشْكَلٍ ويُسترُ عَنْهُمْ لِلْفُيُولِ المَرَابِضُ
باب الغدر
وكما أنَّ الوفاء من سريِّ النعوت ونَبيل الصفات، فكذلك الغدر من ذَميمها ومكروهها، وإنما يُسمى غدرًا من البادي. وأما المُقارض بالغدر على مثله، وإن استوى معه في حقيقة الفعل، فليس بغدرٍ ولا هو مَعيبًا بذلك، والله عز وجل يقول: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا. وقد علمنا أنَّ الثانية ليست بسيِّئة، ولكن لما جانست الأولى في الشبه أُوقع عليها مثل اسمها. وسيأتي هذا مفسَّرًا في باب السلو إن شاء الله. ولكثرة وجود الغدر في المحبوب استُغرب الوفاء منه، فصار قليله الواقع منهم يقاوم الكثيرَ الموجود في سواهم. وفي ذلك أقول:
 
قَلِيلُ وَفَاءِ مَنْ يُهْوَى يَجِلُّ وَعُظْمُ وَفَاءِ مَنْ يَهْوَى يَقِلُّ
فَنَادِرَةُ الجَبَانِ أَجَلُّ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ الشُّجَاعُ المُسْتَقِلُّ
ومن قبيح الغدر أن يكون للمحب سفير إلى محبوبه يستريح إليه بأسراره، فيسعى حتى يقلبه إلى نفسه ويستأثر به دونه. وفيه أقول:
 
أَقَمْتُ سَفِيرًا قَاصِدًا فِي مَطَالِبِي وَثِقْتُ بِهِ جَهْلًا فَضَرَّبَ بَيْنَنَا
وَحَلَّ عُرَى وُدِّي وَأَثْبَتَ وُدَّهُ وَأَبْعَدَ عَنِّي كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنَا
فَصِرْتُ شَهِيدًا بَعْدَمَا كُنْتُ مُشْهِدًا وَأَصْبَحْتُ ضَيْفًا بَعْدَمَا كَانَ ضَيْفَنَا
خبر
ولقد حدَّثني القاضي يونس بن عبد الله قال: أذكر في الصِّبَا جاريةً في بعض السدد يَهواها فتًى من أهل الأدب من أبناء الملوك وتَهواه ويَتراسلان، وكان السفير بينهما والرسول بكتبهما فتًى من أترابه كان يصل إليها، فلما عُرضت الجارية للبيع أراد الذي كان يُحبها ابتياعها، فبدر الذي كان رسولًا فاشتراها، فدخل عليها يومًا فوجدها قد فتحت دُرجًا لها تطلب فيه بعض حوائجها، فأتى إليها وجعل يُفتِّش الدرج، فخرج إليه كتاب من ذلك الفتى الذي كان يَهواها مُضمَّخًا بالغالية مَصونًا مُكرمًا، فغضب وقال: من أين هذا يا فاسقة؟ قالت: أنت سُقتَه إليَّ. فقال: لعله مُحدَث بعد ذاك الحين. فقالت: ما هو إلا من قديم تلك التي تعرف. قال: فكأنما ألقمتْه حجرًا، فسُقِط في يديه وسكت.
باب البَيْن
وقد علمنا أنه لا بد لكل مُجتمِع من افتراق، ولكل دانٍ من تَناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين، وما شيء من دواهي الدنيا يَعدل الافتراق، ولو سالت الأرواحُ به فضلًا عن الدموع كان قليلًا. وسمع بعضُ الحكماء قائلًا يقول: الفِراق أخو الموت. فقال: بل الموت أخو الفراق.
 
والبين ينقسم أقسامًا؛ فأولها مُدة يُوقَن بانصرامِها وبالعودة عن قريب، وإنه لشَجًى في القلب، وغُصَّة في الحلق لا تبرأ إلا بالرَّجعة. وأنا أعلم من كان يَغيب من يُحب عن بصره يومًا واحدًا فيعتريه من الهلَع والجزَع وشُغل البال وتُرادُف الكُرَب ما يكاد يأتي عليه.
 
ثم بَيْنٌ مَنْعٌ من اللِّقاء، وتَحظيرٌ على المحبوب من أن يراه مُحبُّه، فهذا — ولو كان مَن تُحبُّه معك في دارٍ واحدة — فهو بَينٌ؛ لأنه بائنٌ عنك. وإن هذا ليولِّد من الحزن والأسفِ غير قليل، ولقد جرَّبناه فكان مُرًّا، وفي ذلك أقول:
 
أَرَى دَارَهَا فِي كُلِّ حِينٍ وَسَاعَةٍ وَلَكِنَّ مَنْ فِي الدَّارِ عَنِّي مُغَيَّبُ
وَهَلْ نَافِعِي قُرْبُ الدِّيَارِ وَأَهْلِهَا عَلَى وَصْلِهِمْ مِنِّي رَقِيبٌ مُرَاقِبُ
فَيَا لَك جار الجَنْبِ أَسمَعُ حِسَّهُ وَأَعْلَمُ أَنَّ الصِّينَ أَدْنَى وَأَقْرَبُ
كَصَادٍ يَرَى مَاءَ الطَّوِيِّ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ يُسَبِّبُ
كَذِلَكَ مَنْ فِي اللَّحْدِ عَنْكَ مُغَيَّبٌ وَمَا دُونَهُ إِلَّا الصَّفِيحُ المُنَصَّبُ
وأقول من قصيدة مُطوَّلة:
 
مَتَى تَشْتَفِي نَفْسٌ أَضَرَّ بِهَا الوَجْدُ وَتَصْقَبُ دَارٌ قَدْ طَوَى أَهْلَهَا البُعْدُ
وَعَهْدِي بِهِنْدٍ وَهْيَ جَارَةُ بَيْتِنَا وَأَقْرَبُ مِنْ هِنْدٍ لِطَالِبِهَا الهِنْدُ
بَلَى إِنَّ فِي قُرْبِ الدِّيَارِ لَرَاحَةً كَمَا يُمْسِكُ الظَّمْآنُ أَنْ يَدْنُوَ الوِرْدُ
ثم بَيْنٌ يتعمَّده المحبُّ بُعْدًا عن قول الوُشاة، وخوفًا أن يكون بقاؤه سببًا إلى منع اللقاء، وذريعةً إلى أن يَفشوَ الكلام فَيقَع الحجابُ الغليظ.
 
ثم بَيْنٌ يولِّده المُحبُّ لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعُذره مقبول أو مُطرح على قدر الحافز له إلى الرحيل.
 
خبر
ولعهدي بصديق لي دارُه المريَّة، فعَنَّتْ له حوائجُ إلى شاطِبة فقصدها، وكان نازلًا بها في منزلي مدةَ إقامته بها، وكان له بالمريَّة علاقة هي أكبر همِّه، وأدهى غَمِّه، وكان يُؤمِّلُ بَتَّها وفراغ أسبابه، وأن يُوشك الرَّجعة ويُسرع الأوبة، فلم يكن إلا حِينٌ لطيف بعد احتلاله عندي حتى جَيَّشَ الموفَّق أبو الحسن مجاهد، صاحب الجزائر، الجيوش وقَرَّب العساكر، ونابذ خَيران صاحب المريَّة، وعزم على استئصاله، فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب، وتُحوميت السُّبل، واحتُرس البحر بالأساطيل، فتضاعف كَرْبه إذ لم يجد إلى الانصراف سبيلًا البتة، وكاد يَطفَأ أسفًا، وصار لا يأنس بغير الوحدة، ولا يلجأ إلا إلى الزفير والوُجوم، ولعمري لقد كان ممن لم أقدُر قط فيه أنَّ قلبه يُذعن للود، ولا شراسةَ طَبعِه تجيب إلى الهوى.
 
وأذكر أني دخلتُ قرطبة بعد رحيلي عنها، ثم خرجتُ منصرفًا عنها، فضمَّني الطريق مع رجل من الكُتَّاب قد رحل لأمر مُهمٍّ وتَخلَّف سَكْنٌ له، فكان يَرتمض لذلك. وإني لأعلم مَن عَلِق بهوًى له، وكان في حال شَظف، وكانت له في الأرض مذاهبُ واسعة، ومناديح رَحْبة، ووُجوه متصرف كثيرة، فهان عليه ذلك وآثر الإقامة مع من يحب. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
 
لَكَ فِي البِلَادِ مَنَادِحٌ مَعْلُومَةٌ وَالسَّيْفُ غُفْلٌ أَوْ يَبِينُ قِرَابه
ثم بَيْنُ رحيلٍ وتباعدِ ديار، ولا يكون من الأوبة فيه على يقين خبر، ولا يَحدُث تلاقٍ، وهو الخَطب المُوجع، والهم المُفظع، والحادث الأشنع، والداء الدويُّ. وأكثر ما يكون الهلَع فيه إذا كان النائي هو المحبوب، وهو الذي قالت فيه الشعراء كثيرًا. وفي ذلك أقول قصيدةً، منها:
 
وَذِي عِلَّةٍ أَعْيَا الطَّبِيبَ عِلَاجُهَا سَتُورِدُنِي لَا شَكَّ مَنْهَلَ مَصْرَعِي
رَضِيتُ بِأَنْ أُضْحِي قَتِيلَ وِدَادِهِ كَجَارِعِ سُمٍّ فِي رَحِيقٍ مُشَعْشعِ
فَمَا لِلَّيَالِي، مَا أَقلَّ حَيَاءَهَا وَأَوْلَعَهَا بِالنَّفْسِ مِنْ كُلِّ مُولَع
كَأَنَّ زَمَانَي عَبْشَمِيٌّ يَخَالُنِي أَعَنْتُ عَلَى عُثْمَانَ أَهْلَ التَّشَيُّعِ
وأقول من قصيدة:
 
أَظُنُّكَ تِمْثَال الجِنَانِ أَبَاحَهُ لِمُجْتَهِدِ النُّسَّاكِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ
وأقول من قصيدة:
 
لأبْرد بِاللُّقْيَا غَلِيلًا مِنَ الهَوَى تَوَقَّع نِيرَان الغَضَى هَيمَانه
وأقول شعرًا، منه:
 
خَفِيت عن الأَبْصَارِ وَالوَجْدُ ظَاهِرٌ فَاعْجبْ بِأَعْرَاضٍ تَبِينُ وَلَا شَخْص
غَدَا الفَلَكُ الدَّوَّارُ حَلْقَةَ خَاتَمٍ مُحِيطٍ بِمَا فِيهِ وَأَنْتِ لَهُ فَص
وأقول من قصيدة:
 
غَنِيت عَن التَّشْبِيهِ حُسْنًا وَبَهْجَةً كَمَا غَنِيت شَمْسُ السَّمَاءِ عَنِ الحَلْي
عَجِبْتُ لِنَفْسِي بَعْدَهُ كَيْفَ لَمْ تَمُتْ وهجْرَانُهُ دَفْنِي وَفُقْدَانُهُ نَعيي
وَلِلْجَسَدِ الغَضِّ المُنَعَّمِ كَيْفَ لَمْ تُذِبْهُ يَدٌ خَشْنَاء … …
وإنَّ للأوبة من البَيْن الذي تُشفق منه النفس لِطُول مسافته، وتكاد تيأس من العودة فيه لروعةً تبلغ ما لا حدَّ وراءه، وربما قتلت. وفي ذلك أقول:
 
لِلتَّلَاقِي بَعْدَ الفِرَاقِ سُرُورٌ كَسُرُورِ المُفِيقِ حَانَتْ وَفَاتُهْ
فَرْحَةٌ تُبْهِجُ النُّفُوسَ وَتُحْيي مَنْ دَنَا مِنْهُ بِالفرَاقِ مَمَاتُه
رُبمَا قَدْ تَكُونُ دَاهِيَةُ المَوْ تِ وَتُودِي بِأَهلِهِ هَجَمَاتُه
كم رأينا مَن عَبَّ في الماء عطشا نَ فزارَ الحِمام وهو حَياتُه!
وإني لأعلم مَن نأت دارُ محبوبه زمنًا ثم تيسَّرت له أوبة، فلم يكن إلا بقَدْر التسليم واستيفائه، حتى دعتْه نوًى ثانية فكاد أن يَهلِك. وفي ذلك أقول:
 
أَطَلْتُ زَمَانَ البُعْدِ حَتَّى إِذَا انْقَضَى زَمَانُ النَّوَى بِالقُرْبِ عُدْتَ إِلَى البُعْدِ
فَلَمْ يَكُ إِلَّا كَرَّة الطَّرْفِ قُرْبَكُمْ وَعَاوَدَكُمْ بَعْدِي وَعَاوَدَنِي وَجْدِي
كَذَا حَائِرٌ فِي اللَّيْلِ ضَاقَتْ وُجُوهُهُ رَأَى البَرْقَ فِي دَاجٍ مِنَ اللَّيْلِ مُسْوَدِّ
فَأَخلَفهُ مِنهُ رَجاءُ دَوامِه وبَعضُ الأرَاجِي لا تُفيدُ ولا تُجدِي
وفي الأوبة بعد الفراق أقول قطعةً، منها:
 
لَقَدْ قَرَّتِ العَيْنَانِ بِالقُرْبِ مِنْكُمُ كَمَا سَخُنَتْ أَيَّام يَطْوِيكُمُ البُعْدُ
فَلله فِيمَا قد مَضَى الصَّبْرُ وَالرِّضَى وَلله فِيمَا قَدْ قَضَى الشُّكْرُ وَالحَمْدُ
خبر
ولقد نُعي إليَّ بعضُ مَن كنتُ أحبُّ من بلدة نازحة، فقمتُ فارًّا بنفسي نحو المقابر وجعلتُ أمشي بينها وأقول:
 
وَدِدْتُ بِأَنَّ ظَهْرَ الأَرْضِ بَطْنٌ وَأَنَّ البَطْنَ مِنْهَا صَارَ ظَهْرَا
وَأَنِّي مِتُّ قَبْلَ وُرُودِ خَطْبٍ أَتَى فَأَثَارَ فِي الأَكْبَادِ جَمْرا
وَأَنَّ دَمِي لِمَنْ قَدْ بَانَ غُسْلٌ وَأَنَّ ضُلُوعَ صَدْرِي كُنَّ قبرا
ثم اتصل بعد حينٍ تكذيبُ ذلك الخبرِ، فقلت:
 
بُشْرى أَتَتْ وَاليَأْسُ مُسْتَحْكم وَالقَلْبُ فِي سَبْعٍ طِبَاقٍ شِدَادِ
كَسَتْ فُؤَادِي خُضْرَة بَعْدَمَا كَانَ فُؤَادِي لَابِسًا لِلحِدَادِ
جَلَّى سَوَادَ الغَمِّ عَنِّي كَمَا يُجْلَى بِلَوْنِ الشَّمْسِ لَوْنُ السَّوَاد
هَذَا وَمَا آمُلُ وَصْلًا سِوَى صِدْقِ وَفَاءٍ بِقَدِيمِ الوِدَادِ
فَالمُزْنُ قَدْ تُطْلَبُ لَا لِلْحَيَا لَكِنْ لِظِلٍّ بَارِدٍ ذِي امْتِدَادِ
ويقع في هذين الصنفين من البَينِ الوداعُ؛ أعني رحِيلَ المُحب أو رحيل المحبوب. وإنه لمن المناظر الهائلة والمواقف الصعبة التي تَفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتَسكب كلُّ عينٍ جمود، ويَظهر مكنون الجوى. وهو فصل من فصول البَيْن يجب التكلُّم فيه، كالعتاب في باب الهجر. ولعمري لو أن ظريفًا يموت في ساعة الوداع لكان معذورًا إذا تفكَّر فيما يَحُلُّ به بعد ساعة من انقطاع الآمال، وحلول الأوجال، وتبدُّل السرور بالحزن. وإنها ساعة تُرِقُّ القلوب القاسية، وتُلين الأفئدة الغلاظ. وإن حركة الرأس وإدمان النظر والزَّفرة بعد الوداع لهاتكةٌ حجابَ القلب، ومُوصلة إليه من الجزع بمقدار ما تفعل حركةُ الوجه في ضد هذا.
 
والإشارة بالعين والتبسُّم في مواطن المُوافقة والوداع ينقسم قسمين؛ أحدهما لا يتمكَّن فيه إلا بالنظر والإشارة، والثاني يتمكن فيه بالعناق والملازمة، وربما لعلَّه كان لا يُمكن قبل ذلك البتة مع تجاور المحال وإمكان التلاقي؛ ولهذا تمنَّى بعضُ الشعراء البَيْنَ ومدَحوا يوم النَّوَى، وما ذاك بحَسن ولا بصواب ولا بالأصيل من الرأي؛ فما يفي سرورُ ساعة بحزن ساعات، فكيف إذا كان البين أيامًا وشهورًا وربما أعوامًا! وهذا سوء من النظر ومعْوجٌّ من القياس، وإنما أثنيتُ على النوى في شعري تمنِّيًا لرجوع يومها، فيكون في كل يوم لقاء ووداع. على أن تَحمُّل مضض هذا الاسم الكريه، وذلك عندما يمضي من الأيام التي لا التقاء فيها، يرغِّب المحب عن يوم الفراق لو أمكنه في كل يوم. وفي الصنف الأول من الوداع أقول شعرًا، منه:
 
تَنُوبُ عَنْ بَهْجَةِ الأَنْوَارِ بَهْجَتُهُ كَمَا تَنُوبُ عَن النِّيرَانِ أَنْفَاسِي
وفي الصنف الثاني من الوداع أقول شعرًا، منه:
 
وَجْهٌ تَخِرُّ لَهُ الأَنْوَارُ سَاجِدَةً وَالوَجْهُ تِمٌّ فَلَمْ يَنْقُصْ وَلَمْ يَزِدِ
دِفْءٌ وَشَمْسُ الضُّحَى بِالجَدْيِ نَازِلَةٌ وَبَارِدٌ نَاعِمٌ وَالشَّمْسُ فِي الأَسَدِ
ومنه:
 
يَوْمُ الفِرَاقِ لَعَمْرِي لَسْتُ أَكْرَهُهُ أَصْلًا وَإِنْ شَتَّ شَمْلُ الرُّوحِ عَنْ جَسَدِي
فَفِيهِ عَانَقْتُ مَنْ أَهْوَى بِلَا جَزَعٍ وَكَانَ مِنْ قَبْلِهِ إِنْ سِيلَ لَمْ يَجُدِ
أَلَيْسَ مِنْ عَجَبٍ دَمْعِي وَعَبْرَتِهَا يَوْمُ الوِصَالِ لِيَوْمِ البَيْنِ ذُو حَسَدِ
وهل هجس في الأفكار أو قام في الظنون أشنعُ وأوجع من هَجر عِتاب وقع بين مُحبَّين، ثم فجأتْهما النوى قبل حلول الصُّلح وانحلال عُقدة الهجران، فقاما إلى الوداع وقد نُسي العِتاب، وجاء ما طَمَّ على القُوى وأطار الكرى. وفيه أقول شعرًا، منه:
 
وَقَدْ سَقَطَ العَتبُ المُقَدَّمُ وَامَّحَى وَجَاءَتْ جُيُوشُ البَيْنِ تَجْرِي وَتُسْرِعُ
وَقَدْ ذَعَرَ البَيْنُ الصُّدُودَ فَرَاعَهُ فَوَلَّى فَمَا يُدْرَى لَهُ اليَوْمَ مَوْضِعُ
كَذِئْبٍ خَلَا بِالصَّيْدِ حَتَّى أَضَلَّهُ هِزَبْرٌ لَهُ مِنْ جَانِبِ الغِيلِ مَطْلعُ
لَئِنْ سَرَّنِي فِي طَرْدِهِ الهَجْرَ إِنَّنِي لإِبْعَادِهِ عَنِّي الحَبِيبَ لَمُوجَع
وَلَا بُدَّ عِنْدَ المَوْتِ مِنْ بَعْضِ رَاحَةٍ وَفِي غَيِّهَا المَوْتُ الوَحِيِّ المُصَرِّعُ
وأعرف من أتى ليُودِّع محبوبَه يوم الفِراق فوجده قد فات، فوقف على آثاره ساعةً وتردَّد في الموضع الذي كان فيه ثم انصرف كئيبًا متغيِّر اللون كاسف البال، فما كان بعد أيام قلائل حتى اعتلَّ ومات — رحمه الله.
 
وإن للبين في إظهار السرائر المطوية عملًا عجبًا، ولقد رأيتُ من كان حبُّه مكتومًا، وبما يَجِد فيه مستترًا حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون وظهر الخفي. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
بَذَلْتَ مِنَ الوُدِّ مَا كُنْتَ قَبْلُ مَنَعْتَ وَأَعْطَيْتَنِيهِ جُزَافَا
وَمَا لِي بِهِ حَاجَةٌ عِنْدَ ذَاكَ وَلَوْ جُدْتَ قَبْلُ بَلَغْتَ الشِّغَافَا
وَمَا يَنْفَعُ الطِّبُّ عِنْدَ الحِمَامِ وَيَنْفَعُ قَبْلَ الرَّدَى مِنْ تِلَافَا
وأقول:
 
الآنَ إِذْ حَلَّ الفِرَاقُ جُدْتَ لِي بِخَفِيِّ حُبٍّ كُنْتَ تُبْدِي بُخْلَهُ
فَزِدْتَنِي فِي حَسْرَتِي أَضْعَافَهَا ويحي فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَهُ
ولقد أذكرني هذا أني حَظيتُ في بعض الأزمان بمودة رجل من وزراء السلطان أيام جاهه، فأظهر بعض الامتساك، فتركته حتى ذهبت أيامه وانقضت دولته، فأبدى لي من المودة والأُخوَّة غير قليل، فقلت:
 
بَذَلْتَ لِيَ الإِعْرَاضَ وَالدَّهْرُ مُقْبِلٌ وَتَبْذُلُ لِي الإِقْبَالَ وَالدَّهْرُ مُعْرِضُ
وَتَبْسُطُني إِذْ لَيِسَ يَنْفَعُ بَسْطُكُمْ فَهَلَّا أَبَحْتَ البَسْطَ إِذْ كُنْتَ تَقْبِضُ
ثم بَينُ الموت؛ وهو الفوت، وهو الذي لا يُرجى له إياب، وهو المصيبة الحالَّة، وهو قاصمة الظهر، وداهية الدهر، وهو الويل، وهو المُغَطِّي على ظلمة الليل، وهو قاطع كل رجاء، وماحي كل طمع، والمؤيس من اللقاء. وهنا حادت الألسن، وانجذم حبل العلاج، فلا حيلة إلا الصبر طوعًا أو كرهًا. وهو أجلُّ ما يُبتلى به المحبون، فما لمن دُهي به إلا النوح والبكاء إلى أن يتلَف أو يَملَّ، فهي القرحة التي لا تُنكى، والوجع الذي لا يفنى، وهو الغمُّ الذي يتجدَّد على قدر بلاء من اعتمدته، وفيه أقول:
 
كُل بَيْنٍ وَاقِعٍ فَمُرَجًّى لَمْ يَفُتْ
لَا تعجل قَنطًا لَمْ يَفُتْ مَنْ لَمْ يَمُتْ
وَالَّذِي قَدْ مَاتَ فَالْـ ـيَأْسُ عَنْهُ قَدْ ثَبتْ
وقد رأينا مَن عَرض له هذا كثيرًا، وعنِّي أخبرك أني أحدُ من دُهي بهذه الفادحة، وتعجَّلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنتُ أشدَّ الناس كلفًا وأعظمهم حُبًّا بجاريةٍ لي، كانت فيما خلا اسمها نُعْم، وكانت أمنيةَ المتمنِّي وغايةَ الحسن خَلْقًا وخُلُقًا ومُوافَقةً لي، وكنت أنا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتْني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومرُّ النهار، وصارت ثالثةَ التراب والأحجار، وسنِّي حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمتُ بعدها سبعةَ أشهر لا أتجرَّد عن ثيابي، ولا تَفتر لي دمعة على جُمود عيني وقلة إسعادها. وعلى ذلك فوالله ما سلوتُ حتى الآن، ولو قُبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة عليَّ مسارعًا طائعًا، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيتُ ذِكرها، ولا أنِسْتُ بسواها. ولقد عَفَّى حُبي لها على كل ما قبله، وحرَّم ما كان بعده. ومما قلتُ فيها:
 
مُهَذَّبَةٌ بَيْضَاءُ كَالشَّمْسِ إِنْ بَدَتْ وَسَائِرُ رَبَّاتِ الحِجَالِ نُجُومُ
أَطَارَ هَوَاهَا القَلْبَ عَنْ مُسْتَقَرِّهِ فَبَعْدَ وُقُوعٍ ظَلَّ وهو يحومُ
ومن مراثيَّ فيها قصيدة، منها:
 
كَأَنِّيَ لَمْ آنَسْ بِأَلْفَاظِكِ الَّتِي عَلَى عُقَدِ الأَلْبَابِ هُنَّ نَوَافِثُ
وَلَمْ أَتَحَكَّمْ فِي الأَمَانِي كَأَنَّنِي لإِفْرَاطِ مَا حُكِّمتُ فيهِنَّ عَابِثُ
ومنها:
 
وَيُبْدِينَ إِعْرَاضًا وَهُنَّ أَوَالِفٌ وَيُقْسِمنَ فِي هَجْرِي وَهُنَّ حَوَانِثُ
وأقول أيضًا في قصيدةٍ أخاطب فيها ابن عمي أبا المُغيرة عبدَ الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حَزم بن غالب وأقرضه، فأقول:
 
قِفَا فَاسْأَلَا الأَطْلَالَ أَيْنَ قَطِينُهَا أَمَرَّتْ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلوَانِ
عَلَى دَارِسَاتٍ مُقْفِرَاتٍ عَوَاطِلٍ كَأَنَّ المَغَانِي فِي الخَفَاءِ مَعَانِي
واختلف الناسُ في أي الأمرين أشد؛ البينُ أم الهجر؟ وكلاهما مُرتقًى صعبٌ، وموت أحمر، وبليَّة سوداء، وسنة شَهباء. وكُلٌّ يَستبشع من هذين ما ضادَّ طبعه، فأما ذو النفس الأبية الألوف الحنانة، الثابتة على العهد، فلا شيء يعدل عنده مُصيبة البَين؛ لأنه أتى قصدًا، وتعمدتْه النوائب عمدًا، فلا يجد شيئًا يُسلِّي نفسه ولا يصرف فكرته في معنًى من المعاني إلا وجد باعثًا على صبابته، ومحركًا لأشجانه، وعليه لا له، وحجَّة لوجده، وحاضًّا على البكاء على إلفه. وأما الهجر فهو داعية السلو، ورائد الإقلاع.
 
وأما ذو النفس التوَّاقة الكثيرة النزوع والتطلع، القلوق العزوف، فالهجر داؤه، وجالبُ حتفه، والبَين له مَسلاة ومنساة.
 
وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق، وما الهجر إلا جالب للكمد فقط، ويوشك إن دام أن يُحدث إضرارًا، وفي ذلك أقول:
 
وَقالُوا ارْتَحِلْ، فَلَعَلَّ السُّلُوَّ يَكُونُ وَتَرْغَبُ أَنْ تَرْغَبَهْ
فَقُلْتُ الرَّدَى لِيَ قَبْلَ السُّلُوِّ وَمَنْ يَشْرَب السُّمَّ عَنْ تَجْربَهْ
وأقول:
 
سَبَى مُهْجَتِي هَوَاهُ وَأَوْدَتْ بِهَا نَوَاهُ
كَأَنَّ الغَرَامَ ضَيْفٌ وَرُوحِي غَدَا قِرَاهُ
ولقد رأيت مَن يستعمل هجر محبوبه ويتعمده خوفًا من مرارة يوم البَيْن وما يَحدُث به من لوعة الأسف عند التفرُّق. وهذا وإن لم يكن عندي من المذاهب المرضية، فهو حجة قاطعة على أن البين أصعب من الهجر، وكيف لا وفي الناس من يلوذ بالهجر خوفًا من البين! ولم أجد أحدًا في الدنيا يلوذ بالبين خوفًا من الهجر، وإنما يأخذ الناسُ أبدًا الأسهل ويتكلَّفون الأهون. وإنما قلنا إنه ليس من المذاهب المحمودة لأن أصحابه قد استعجلوا البلاء قبل نزوله، وتجرعوا غصة الصبر قبل وقتها، ولعل ما تخوَّفوه لا يكون، وليس من يتعجل المكروه، وهو على غير يقين مما يتعجل، بحكيم. وفيه أقول شعرًا، منه:
 
لَبِسَ الصَّبُّ لِلصَّبَابَةِ بَيْنًا لَيْسَ مَنْ جَانَبَ الأَحِبَّةَ مِنَّا
كَغَنِيٍّ يَعِيشُ عَيْشَ فَقِيرٍ خَوْفَ فَقْرٍ وَفَقْرُهُ قَدْ أَبَنَّا
وأذكرُ لابن عمي أبي المغيرة في هذا المعنى، من أن البينَ أصعبُ من الصدِّ، أبياتًا من قصيدة خاطبني بها وهو ابن سبعة عشر عامًا أو نحوها، وهي:
 
أَجَزِعْتَ أَنْ أَزِفَ الرَّحِيلُ وَوَلهْتَ أَنْ نُصَّ الذَّمِيلُ
كلَّا مُصَابكَ فَادِحٌ وَأَجَلْ فرَاقُهُمُ جَلِيلُ
كَذَبَ الأُلَى زَعَمُوا بِأَنَّ الصَّدَّ مَرْتَعُهُ وَبِيلُ
لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَ الغَلِيـ ـلِ وَقَدْ تحملتِ الحُمُولُ
أَمَّا الفرَاقُ فَإِنَّهُ لِلْمَوْتِ إِنْ أَهْوَى دَلِيلُ
ولي في هذا المعنى قصيدة مطولة، أولها:
 
لَا مِثْل يَوْمِكَ ضَحْوَةُ التَّنْعِيمِ فِي مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَفِي تَنْغِيمِ
قَدْ كَانَ ذَاكَ اليَوْمُ نُدْرَةَ عَاقِرٍ وَصَوَابَ خَاطِئَةٍ وَوُلْدَ عَقِيمِ
أَيَّامَ بَرْقُ الوَصْلِ لَيْسَ بِخُلَّبٍ عِنْدِي وَلَا رَوْضُ الهَوَى بَهَشِيمِ
مِنْ كُلِّ غَانِيَةٍ تَقُولُ ثُديُّهَا سِيري أمامك وَالإِزَار أَقِيمِي
كُلٌّ يُجَاذِبُهَا فَحُمْرَةُ خَدِّهَا خَجَلٌ مِنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيمِ
مَا بِي سِوَى تِلْكَ العُيُونِ وَلَيْسَ فِي بُرْئِي سِوَاهَا فِي الوَرَى بِزَعِيمِ
مِثْل الأَفَاعِي لَيْسَ فِي شَيْءٍ سِوَى أَجْسَادِهَا إِبْرَاءُ لَدْغ سَلِيمِ
والبَيْن أبكى الشعراء على المعاهد، فأدرُّوا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكروا ما قد سلف لهم فيها فأعولوا وانتحبوا، وأحيت الآثار دفين شوقهم فناحُوا وبكَوْا.
 
ولقد أخبرني بعضُ الورَّاد من قرطبة، وقد استخبرتُه عنها، أنه رأى دورنا ببلاط مُغيث، في الجانب الغربي منها، وقد امَّحت رسومها، وطُمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيَّرها البلى، وصارت صحاريَ مجدبة بعد العمران، وفيافيَ مُوحشة بعد الأنس، وخرائبَ مُنقطعة بعد الحُسن، وشِعابًا مُفزِّعة بعد الأمن، ومأوًى للذئاب، ومعازفَ للغِيلان، وملاعبَ للجان، ومكامنَ للوحوش، بعد رجال كالليوث، وخرائدَ كالدُّمى تفيض لديهم النِّعَم الفاشية. تبدَّد شملهم فصاروا في البلاد أياديَ سبأ، فكأن تلك المحاريب المنمَّقة، والمقاصير المزينة، التي كانت تُشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم حسن منظرها، حين شَمِلها الخرابُ وعمَّها الهَدْم كأفواه السباع فاغرة، تُؤذن بفناء الدنيا، وتُريك عواقب أهلها، وتُخبرك عمَّا يصير إليه كل من تراه قائمًا فيها، وتَزهد في طلبها بعد أن طالما زهدت في تركها.
 
وتذكرت أيامي بها ولَذَّاتي فيها، وشُهور صبايَ لديها، مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم، ومثَّلت لنفسي كَونهن تحت الثرى، وفي الآثار النائية، والنواحي البعيدة، وقد فرَّقتهن يدُ الجلاء، ومزقتهن أكفُّ النوى، وخُيل إلى بَصري بقاء تلك النصبة بعدما علمتُهُ من حسنها وغضارتها، والمراتب المحكمة التي نشأت فيها لديها، وخلاء تلك الأفنية بعد تضايقها بأهلها، وأوهمتُ سمعي صوتَ الصدى والهام عليها، بعد حركة تلك الجماعات التي رُبِّيت بينهم فيها، وكان ليلها تبعًا لنهارها في انتشار ساكنها، والتقاء عمارها، فعاد نهارُها تبعًا لليلها في الهدوء والاستيحاش، فأبكى عيني، وأوجع قلبي، وقرع صفاة كبدي، وزاد في بلاء لُبي، فقلت شعرًا، منه:
 
لَئِنْ كَانَ أَظْمَانَا فَقَدْ طَالَمَا سَقَى وَإِنْ سَاءَنَا فِيهَا فَقَدْ طَالَمَا سَرَّا
والبَيْنُ يَولِّد الحنين والاهتياج والتذكُّر، وفي ذلك أقول:
 
لَيْتَ الغُرَابَ يُعِيدُ اليَوْمَ لِي فَعَسَى يَبِينُ بَيْنَهُمُ عَنِّي فَقَدْ وَقَفَا
أَقُولُ وَاللَّيْلُ قَدْ أَرْخَى أَجِلَّتَهُ وَقَدْ تَأَلَّى بِأَلَّا يَنْقَضِي فَوَفَى
وَالنَّجْمُ قَدْ حَارَ فِي أُفقِ السَّمَاءِ فَمَا يَمْضِي وَلَا هوَ لِلتغوِيرِ مُنْصَرِفا
تَخَالُهُ مُخْطِئًا أَوْ خَائِفًا وَجِلًا أَوْ رَاقِبًا مَوْعِدًا أَوْ عَاشِقًا دَنِفا
 
باب القنوع
ولا بد للمُحب، إذا حُرم الوصل، من القنوع بما يجد، وإن في ذلك لمتعللًا للنفس، وشغلًا للرجَاء، وتجديدًا للمُنى، وبعضَ الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكُّن؛ فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال، ومِن سريِّ ما يَسنح في الدهر مع ما تبدَّى من الخَفَر والحياء؛ لما يعلمه كل واحدٍ منهما مما في نفس صاحبه. وهي على وجهين؛ أحدهما أن يزور المحب محبوبه، وهذا الوجه واسع، والوجه الثاني أن يزور المحبوبُ مُحبَّه، ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر. وفي ذلك أقول:
 
فَإِنْ تَنْأَ عنِّي بِالوِصَالِ فَإِنَّنِي سَأَرْضَى بِلَحْظِ العَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْلُ
فَحَسْبِيَ أَنْ أَلْقَاكَ فِي اليَوْمِ مَرَّةً وَمَا كُنْتُ أَرْضَى ضِعْفَ ذَا مِنْكَ لِي قَبْلُ
كَذَا هِمَّةُ الوَالِي تَكُونُ رَفِيعَةً وَيَرْضَى خَلَاصَ النَّفْسِ إِنْ وَقَعَ العَزْلُ
وأما رَجع السلام والمخاطبة فأمل من الآمال، وإن كنت أنا أقول في قصيدة لي:
 
فَهَا أَنَا ذَا أُخْفِي وَأَقْنَعُ رَاضِيًا بِرَجْعِ سَلَامٍ إِنْ تَيَسَّرَ فِي الحِينِ
فإنما هذا لمن ينتقل من مَرتبة إلى ما هو أدنى منها، وإنما يتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها. وأني لأعلم مَن كان يقول لمحبوبه: عِدني واكذب. قُنوعًا بأن يُسلِّيَ نفسه في وعده وإن كان غيرَ صادق، فقلتُ في ذلك:
 
إِنْ كَانَ وَصْلُكَ لَيْسَ فِيهِ مَطْمَعٌ وَالقُرْبُ مَمْنُوعٌ فَعِدْنِي وَاكْذِبِ
فَعَسَى التَّعَلُّلُ بِالْتِقَائِكَ مُمْسِكٌ لِحَيَاةِ قَلْبٍ بِالصُّدُودِ مُعَذَّبِ
فَلَقَدْ يُسَلِّي المُجْدَبِينَ إِذَا رَأَوْا فِي الأُفْقِ يَلْمَعُ ضَوْءُ بَرْقٍ خُلَّبِ
ومما يدخل في هذا الباب شيءٌ رأيته ورآه غيري معي، أن رجلًا من إخواني جَرحه من كان يُحبه بمُدية، فلقد رأيته وهو يُقبِّل مكان الجُرح ويندُبه مرة بعد مرة، فقلت في ذلك:
 
يَقُولُونَ شَجَّكَ مَنْ هِمْتَ فِيهِ فَقُلْتُ لَعَمْرِيَ مَا شَجَّنِي
وَلَكِنْ أَحسَّ دَمِي قُرْبَهُ فَطَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَنْثَنِ
فَيَا قَاتِلِي ظَالِمًا مُحْسِنًا فَدَيْتُكَ مِنْ ظَالِمٍ مُحْسِن
ومن القنوع أن يُسر الإنسان ويَرضى ببعض آلات محبوبه، وإنَّ له من النفس لموقعًا حَسنًا وإن لم يكن فيه إلا ما نَص الله تعالى علينا، من ارتداد يعقوب بصيرًا حين شَم قميص يوسف عليهما السلام. وفي ذلك أقول:
 
لَمَّا مُنِعْتُ القُرْبَ مِنْ سَيِّدِي وَلَجَّ فِي هَجْرِي وَلَمْ يُنْصِفِ
صِرْتُ بِإِبْصَارِيَ أَثْوَابَهُ أَوْ بَعْضَ مَا قَدْ مَسَّهُ أَكْتفِي
كَذَاكَ يَعْقُوبُ نَبِيُّ الهُدَى إِذْ شَفَّهُ الحُزْنُ عَلَى يُوسُفِ
شَمَّ قَمِيصًا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ وَكَانَ مَكْفُوفًا فَمِنْهُ شُفِي
وما رأيتُ قط متعاشقَين إلَّا وهما يتهاديان خُصل الشعر مُبخَّرةً بالعنبر، مرشوشةً بماء الورد، وقد جُمعت في أصلها بالمُصْطكي وبالشمع الأبيض المصفَّى، ولُفَّت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه ذلك؛ لتكون تذكرةً عند البين.
 
وأما تهادي المَساويك بعد مَضغها، والمُصْطكي إثر استعمالها، فكثير بين كُل متحابَّين قد حُظِر عليهما اللقاء. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
أَرَى رِيقَهَا مَاءَ الحَيَاةِ تَيَقُّنًا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُبْقِ لِي فِي الهَوَى حَشى
خبر
وأخبرني بعض إخواني عن سليمان بن أحمد الشاعر أنه رأى ابن سهل الحاجب بجزيرة صِقِلِّية، وذكر أنه كان غايةً في الجمال، فشاهده يومًا في بعض المتنزهات ماشيًا وامرأة خلفه تنظر إليه، فلما أبعد أتت إلى المكان الذي قد أثَّر فيه مشيُه فجعلت تُقَبِّله وتلثم الأرض التي فيها أثرُ رجله. وفي ذلك أقول قطعةً أولُها:
 
يَلُومُونَنِي فِي مَوْطِئٍ خُفُّهُ خَطَا وَلَوْ عَلِمُوا عَادَ الَّذِي لَامَ يَحْسُدُ
فَيَا أَهْلَ أَرْضٍ لَا تَجُودُ سَحَابُهَا خُذُوا بِوصَاتِي تَسْتَقِلُّوا وَتُحْمَدُوا
خُذُوا مِنْ تُرَابٍ فِيهِ مَوْضِعُ وَطْئِهِ وَأَضْمَنُ أَنَّ المَحْلَ عَنْكُمْ يُبعَّدُ
فَكُلُّ تُرَابٍ وَاقِع فِيهِ رِجْلهُ فَذَاكَ صَعِيدٌ طَيِّبٌ لَيْسَ يُجْحَدُ
كَذَلِكَ فِعْلُ السَّامِرِيِّ وَقَدْ بَدَا لِعَيْنَيْهِ مِنْ جِبْرِيلَ إِثْر مُمَجَّدُ
فَصَيَّرَ جَوْفَ العِجْلِ مِنْ ذَلِكَ الثَّرَى فَقَامَ لَهُ مِنْهُ خُوَارٌ مُمَدَّدُ
وأقول:
 
لَقَدْ بُورِكَتْ أَرْضٌ بِهَا أَنْتَ قَاطِنٌ وَبُورِكَ مَنْ فِيهَا وَحَلَّ بِهَا السَّعْدُ
فَأَحْجَارُهَا دُرٌّ وَسَعْدَانُهَا وَرْدٌ وَأَمْوَاهُهَا شُهْدٌ وَتُرْبَتُهَا نَدُّ
ومن القُنوع الرِّضا بمَزار الطَّيف وتَسليم الخيال. وهذا إنما يحدُث عن ذكر لا يفارق، وعهد لا يحول، وفكر لا ينقضي، فإذا نامت العيون وهدأت الحركات سرَى الطيف. وفي ذلك أقول:
 
زَارَ الخَيَالُ فَتًى طَالَتْ صَبَابَتُهُ عَلَى احْتِفَاظٍ مِنَ الحُرَّاسِ وَالحَفَظَهْ
فَبِتُّ فِي لَيْلَتِي جَذْلَانَ مُبْتَهِجًا وَلَذَّةُ الطَّيْفِ تُنْسِي لَذَّةَ اليَقَظَهْ
وأقول:
 
أَتَى طَيْفُ نُعْم مَضْجَعِي بَعْدَ هَدْأَةٍ وَلِلَّيْلِ سُلْطَانٌ وَظِلٌّ مُمَدَّدُ
وَعَهْدِي بِهَا تَحْتَ التُّرَابِ مُقِيمَةٌ وَجَاءَتْ كَمَا قَدْ كُنْتُ مِنْ قَبْلُ أَعْهَدُ
فَعُدنَا كَمَا كُنَّا وَعَادَ زَمَانُنَا كَمَا قَدْ عَهِدنَا قَبْلُ وَالعَوْدُ أَحْمَدُ
وللشعراء في علَّة مَزار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمى، مُخترعة، كلٌّ سبق إلى معنًى من المعاني؛ فأبو إسحاق بن سيَّار النظَّام، رأس المُعتزلة، جعل علة مزار الطَّيف خوفَ الأرواح من الرقيب المرقَّب على بهاء الأبدان، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي جعل علَّته أن نِكاح الطيف لا يُفسد الحُبَّ، ونِكاحَ الحقيقة يفسده، والبُحتري جعل علَّة إقباله استضاءته بنار وَجده، وعلَّة زواله خوف الغرق في دموعه، وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم — فلهم فضل التقدم والسابقة، وإنما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداءً بهم، وجريًا في ميدانهم، وتتبعًا لطريقتهم التي نهجوا وأوضحوا — أبياتًا بيَّنت فيها مزارَ الطيف مقطَّعةً:
 
أَغَارُ عَلَيْكِ مِنْ إِدْرَاكِ طَرْفِي وَأُشْفِقُ أَنْ يُذِيبَكِ لَمْسُ كَفِّي
فَأَمْتَنِعُ اللِّقَاءَ حِذَارَ هَذَا وَأَعْتَمِدُ التَّلَاقِيَ حِينَ أُغْفِي
فَرُوحِي إِنْ أَنَمْ بِكِ ذُو انْفِرَادٍ مِنَ الأَعْضَاءِ مُسْتَتِرٌ وَمَخْفِي
وَوَصْلُ الرُّوحِ أَلْطَفُ فِيكِ وَقْعًا مِنَ الجِسْمِ المُوَاصِلِ أَلْفَ ضِعْف
وحال المَزور في المنام ينقسم أقسامًا أربعةً؛ أحدها مُحب مهجور قد تطاول غمُّه، ثم رَأى في هجعته أنَّ حبيبه وَصله فسُرَّ بذلك وابتهج، ثم استيقظ فأسِف وتلهَّف، حيث علم أن ما كان فيه أمانيَّ النفس وحديثها. وفي ذلك أقول:
 
أَنْتَ فِي مَشْرِقِ النَّهَارِ بَخِيلٌ وَإِذَا اللَّيْلُ جُنَّ كُنْتَ كَرِيما
تَجْعَلُ الشَّمْسَ مِنْكَ لِي عَوَضًا هَيْـ ـهَاتَ مَا ذَا الفِعَالُ مِنْكَ قَوِيما
زَارَنِي طَيْفُكَ البَعِيدُ فَيَأْتِي وَاصِلًا لِي وَعَائدًا وَنَدِيما
غَيْرَ أَنِّي مَنَعتني مِنْ تَمَامِ الـ ـعَيْشِ لَكِنْ أَبَحْتَ لِي التَّشْمِيما
فَكَأَنِّي مِنْ أَهْلِ الَاعْرَافِ لَا الفِرْ دَوْسِ دَارِي وَلَا أَخَافُ الجَحِيما
والثاني مُحبٌّ مواصل مُشفق من تغيُّرٍ يقع، قد رأى في وَسَنه أن حبيبه يهجره؛ فاهتم لذلك همًّا شديدًا، ثم هبَّ من نومه فعلم أن ذلك باطل وبعض وساوس الإشفاق.
 
والثالث مُحب داني الديار يرى أن التنائيَ قد فدَحه، فيكترث ويَوْجَل، ثم ينتبه فيذهب ما به ويعود فَرِحًا، وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
 
رَأَيْتُكَ فِي نَوْمِي كَأَنَّكَ رَاحِلٌ وَقُمْنَا إِلَى التَّوْدِيعِ وَالدَّمْعُ هَامِل
وَزَالَ الكَرَى عَنِّي وَأَنْتَ مُعَانِقِي وَغَمِّي إِذَا عَايَنْتُ ذَلِكَ زَائِل
فَجَدَّدْتُ تَعْنِيقًا وَضَمًّا كَأَنَّنِي عَلَيْك مِنَ البَيْنِ المُفَرِّقِ وَاجِل
والرابع مُحب نائي المزار، يرى أنَّ المزار قد دنا، والمنازل قد تَصاقَبتْ، فيرتاح ويأنس إلى فقد الأسى، ثم يقوم من سِنته فيرى أن ذلك غيرُ صحيح، فيعود إلى أشد ما كان فيه من الغم. وقد جعلتُ في بعض قولي علةَ النومِ الطمعَ في طَيف الخيال، فقلت:
 
طَافَ الخَيَالُ عَلَى مُسْتَهْترٍ كَلِفٍ لَوْلَا ارْتِقَابُ مَزَارِ الطَّيْفِ لَمْ يَنَمِ
لَا تَعْجَبُوا إِذْ سَرَى وَاللَّيْلُ مُعْتَكرٌ فَنُورُه مُوهَبٌ فِي الأَرْضِ لِلظُّلَمِ
ومن القُنوع أن يَقنع المُحب بالنظر إلى الجدران ورُؤية الحيطان التي تحتوي على من يُحب، وقد رأينا مَن هذه صفتُه. ولقد حدثني أبو الوليد أحمد بن محمد بن إسحاق الخازن — رحمه الله — عن رجل جليل أنه حدث عن نفسه بمثل هذا.
 
ومن القنوع أن يرتاح المُحب إلى أن يرى مَن رأى محبوبه، ويأنس به ومَن أتَى من بلاده. وهذا كثير، وفي ذلك أقول:
 
تَوَحَّشَ مِنْ سُكَّانِهِ فَكَأَنَّهُمْ مَسَاكِنُ عَادٍ أَعْقَبَتْهُ ثَمُودُ
ومما يدخل في هذا الباب أبياتٌ لي مُوجبُها أني تنزَّهت أنا وجماعة من إخواني من أهل الأدب والشرف إلى بستانٍ لرجلٍ من أصحابنا، فجُلْنا ساعةً ثم أفضى بنا القُعود إلى مكانٍ دونه يُتمنَّى، فتمددنا في رياضٍ أريضة، وأرضٍ عريضة، للبصر فيها مُنفسح، وللنفس لديها مسرح، بين جَداول تطَّرد كأباريق اللجين، وأطيارٍ تُغرِّد بألحان تزري بما أبدعه معبد والغريض، وثمار مهدَّلة قد ذُللت للأيدي، ودنتْ للمتناول، وظلالٍ مُظلَّة تُلاحظنا الشمس من بينها فتتصوَّر بين أيدينا كرقاع الشطرنج والثياب المدبَّجة، وماءٍ عَذْب يوجدك حقيقة طعم الحياة، وأنهارٍ متدفقة تَنساب كبُطون الحيات لها خرير يقوم ويَهدأ، ونَواوير مُونِقة مختلفة الألوان تُصفِّقُها الرياح الطيبة النسيم، وهواء سَجْسَج، وأخلاق جُلَّاسٍ تفوق كل هذا، في يومٍ ربيعيٍّ ذي شَمس ظليلة، تارة يُغطيها الغيمُ الرقيق والمُزن اللطيف، وتارةً تتجلَّى، فهي كالعذراء الخَفِرة، والخَريدة الخجلة تتراءى لعاشقها من بين الأستار ثم تغيب فيها، حَذَرَ عَينٍ مراقِبة. وكان بعضُنا مُطرقًا كأنه يحادث أخرى، وذلك لسرٍّ كان له، فعُرِّض لي بذلك، وتداعبنا حينًا فكَلِفت أن أقول على لسانه شيئًا في ذلك، فقلتُ بديهة، وما كتبوها إلا من تذكرها بعد انصرافنا، وهي:
 
وَلَمَّا تَرَوَّحْنَا بِأَكْنَافِ رَوْضَةٍ مُهَدَّلَةِ الأَفْنَانِ فِي تُرْبِهَا النَّدِي
وَقَدْ ضَحِكَتْ أَنْوَارُهَا وَتَضَوَّعَتْ أَسَاوِرُهَا فِي ظِلِّ فَيْءٍ مُمَدَّدِ
وَأَبْدَتْ لَنَا الأَطْيَارُ حُسْنَ صَرِيفِهَا فَمِنْ بَيْنِ شَاكٍ شَجْوَهُ وَمُغَرِّدِ
وَلِلمَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا مُتَصَرفٌ وَلِلْعَيْنِ مُرْتَادٌ هُنَاكَ وَلِلْيَدِ
وَمَا شِئْتَ مِنْ أَخْلَاقِ أَرْوَع مَاجِدٍ كَرِيمِ السَّجَايَا لِلْفَخَارِ مُشَيِّدِ
تُنَغِّصُ عِنْدِي كُلَّ مَا قَدْ وَصَفْتَهُ وَلَمْ يَهْنني إِذْ غَابَ عَنِّيَ سَيِّدِي
فَيَا لَيْتَنِي فِي السِّجْنِ وهوَ مُعَانِقِي وَأَنْتُمْ مَعًا فِي قَصْرِ دَارِ المُجَددِ
فَمَنْ رَامَ مِنَّا أَنْ يُبَدِّلَ حَالَهُ بِحَالِ أَخِيهِ أَوْ بِمُلْكٍ مُخَلَّدِ
فَلَا عَاشَ إِلَّا فِي شَقَاءٍ وَنَكْبَةٍ وَلَا زَالَ فِي بُؤْسى وَخِزْي مُرددِ
فقال هو ومن حضر: آمين، آمين. وهذه الوُجوه التي عَدَّدتُ وأوردتُ في حقائق القناعة هي الموجودة في أهل المودة بلا تزيُّد ولا إعياء.
 
وللشعراء فَنٌّ من القُنوع أرادوا فيه إظهارَ غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمَرامي البعيدة، وكلٌّ قال على قدر قوة طبعه، إلا أنه تحكَّم باللسان، وتشدَّق في الكلام، واستطال بالبيان، وهو غير صحيح في الأصل.
 
فمنهم من قنع بأن السماء تُظله هو ومحبوبه والأرض تقلُّهما، ومنهم من قَنع باستوائهما في إحاطة الليل والنهار بهما، وأشباه هذا. وكلٌّ مُبادرٌ إلى احتواء الغاية في الاستقصاء، وإحراز قَصَب السَّبْق في التدقيق، ولي في هذا المعنى قولٌ لا يُمكن لمتعقب أن يجد بعده مُتناولًا، ولا وراءه مكانًا، مع تَبْيِيني علَّة قرب المسافة البعيدة، وهو:
 
وَقَالُوا بَعِيدٌ قُلْتُ حَسْبِي بِأَنَّهُ مَعِي فِي زَمَانٍ لَا يُطِيقُ مَحِيدا
تَمُرُّ عَلَيَّ الشَّمْسُ مِثْلَ مُرُورِهَا بِهِ كُلَّ يَوْمٍ يَسْتَنِيرُ جَدِيدًا
فَمَنْ لَيْسَ بَيْنِي فِي المَسِيرِ وَبَيْنَهُ سِوَى قَطْعِ يَوْمٍ هَلْ يَكُونُ بَعِيدا
وَعِلْمُ إِلَهِ الخَلْقِ يَجْمَعُنَا مَعًا كَفَى ذَا التَّدَانِي مَا أُرِيدُ مَزِيدا
فبيَّنتُ — كما ترى — أني قانعٌ بالاجتماع مع مَن أُحبُّ في علم الله، الذي السمواتُ والأفلاك والعوالم كلها وجميع الموجودات لا تنفصل منه، ولا تتجزأ فيه، ولا يشذ عنه منها شيء، ثم اقتصرت مِن علم الله تعالى على أنه في زمان. وهذا أعمُّ مما قاله غيري في إحاطة الليل والنهار، وإن كان الظاهر واحدًا في البادي إلى السامع؛ لأن كل المخلوقات واقعة تحت الزمان، وإنما الزمان اسم موضوع لمرور الساعات وقَطع الفلك وحركاته وأجرامه، والليل والنهار متولدان عن طُلوع الشمس وغروبها، وهما مُتناهيانِ في بعض العالَم الأعلى، وليس هكذا الزمان، فإنهما بعض الزمان، وإن كان لبعض الفلاسفة قولٌ «إن الظل متمادٍ.» فهذا يخطئه العيان، وعِلَلُ الردِّ عليه بيِّنة ليس هذا موضعها، ثم بيَّنت أنه وإن كان في أقصى المعمور من المشرق وأنا في أقصى المَعمور من المغرب، وهذا طول السكنى، فليس بيني وبينه إلا مسافة يوم؛ إذ الشمس تبدو في أول النهار في أول المشارق، وتغرب في آخر النهار في آخر المغارب.
 
ومن القنوع فصلٌ أُوردُه، وأستعيذُ بالله منه ومن أهله، وأحمَدُه على ما عَرَّف نفوسنا من منافرته؛ وهو أن يضل العقلُ جُملة، ويُفْسِد القريحة، ويُتلف التمييز، ويهون الصعب، ويُذهب الغَيرة، ويُعدم الأنفة، فيرضى الإنسان بالمشاركة فيمن يحب. وقد عرَض هذا لقوم — أعاذنا الله من البلاء — وهذا لا يصح إلا مع كلبيَّة في الطبع، وسُقوط من العقل الذي هو عَيَّار على ما تحته، وضعف حسٍّ، ويؤيد هذا كله حُبٌّ شديد مُعْمٍ، فإذا اجتمعت هذه الأشياء وتلاحقت بمزاج الطبائع ودُخول بعضها في بعض، نتج بينهما هذا الطبع الخسيس، وتولدت هذه الصفة الرذلة، وقام منها هذا الفعل المقذور القبيح، وأما رجلٌ معه أقل همة وأيسر مروءة فهذا منه أبعدُ من الثريَّا، ولو مات وجدًا وتقطع حُبًّا. وفي ذلك أقول زاريًا على بعض المُسامحين في هذا الفصل:
 
رَأَيْتُكَ رَحْبَ الصَّدْرِ تَرْضَى بِمَا أَتَى وَأَفْضَلُ شَيْءٍ أَنْ تَلِينَ وَتَسْمَحَا
فَحَظُّكَ مِنْ بَعْضِ السَّوَانِي مُفَضَّلٌ عَلَى أَنْ يَحُوَز الملكُ مِنْ أَصْلِهَا الرَّحَى
وَعُضْوُ بَعِيرٍ فِيهِ فِي الوَزْنِ ضِعْفُ مَا تُقَدِّرُهُ فِي الجَدْيِ، فَاعْصِ الَّذِي لَحَا
وَلعْبُ الَّذِي تَهْوَى بِسَيْفَيْنِ مُعْجِب فَكُنْ نَاحِيًا فِي نَحْوِهِ كَيْفَمَا نَحَا
باب الضنى
ولا بد لكل مُحب صادق المودَّة ممنوع الوصل، إمَّا بِبَيْن وإمَّا بهَجر وإما بكتمان واقعٍ لمعنًى، من أن يئول إلى حد السقام والضنى والنُّحول، وربما أضجعه ذلك. وهذا الأمر كثير جدًّا موجود أبدًا. والأعراض الواقعة من المَحبة غير العلل الواقعة من هَجمات العِلل، ويميزها الطبيبُ الحاذق والمتفرِّس الناقد. وفي ذلك أقول:
 
يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ بِغَيْرِ عِلْمٍ تَدَاوَ فَأَنْتَ يَا هَذَا عَلِيلُ
وَدَائِي لَيْسَ يَدْرِيهِ سَوَائِي وَرَبٌّ قَادِرٌ مَلِكٌ جَلِيل
أَأَكْتُمُهُ وَيَكْشِفُهُ شَهِيقٌ يُلَازِمُنِي وَإِطْرَاقٌ طَوِيل
وَوَجْهٌ شَاهِدَاتُ الحُزْنِ فِيهِ وَجِسْمٌ كَالخَيَالِ ضَنٍ نَحِيل
وَأَثْبَتُ مَا يَكُونُ الأَمْرُ يَوْمًا بِلَا شَكٍّ إِذَا صَحَّ الدَّلِيل
فَقُلْتُ لَهُ أَبِنْ عَنِّي قَلِيلًا فَلَا وَالله تَعْرِفُ مَا تَقُول
فَقَالَ أَرَى نُحُولًا زَادَ جِدًّا وَعِلَّتُكَ الَّتِي تَشْكُو ذُبُول
فَقُلْتُ لَهُ الذُّبُولُ تَعِلُّ مِنْهُ الـ ـجَوَارِحُ وَهْيَ حُمَّى تَسْتَحِيل
وَمَا أَشْكُو لَعَمْرُ الله حُمَّى وَإِنَّ الحَرَّ فِي جِسْمِي قَلِيل
فَقَالَ أَرَى الْتِفَاتًا وَارْتِقَابًا وَأَفْكَارًا وَصَمْتًا لَا يَزُول
وَأَحْسَبُ أَنَّهَا السَّوْدَاءُ فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ إِنَّهَا عَرَضٌ ثَقِيل
فَقُلْتُ لَهُ كَلَامُكَ ذَا مُحَالٌ فَمَا لِلدَّمْعِ مِنْ عَيْنِي يَسِيل
فَأَطْرَقَ بَاهِتًا مِمَّا رَآهُ أَلَا فِي مِثْلِ ذَا بُهِتَ النَّبِيل
فَقُلْتُ لَهُ دَوَائِي مِنْهُ دَائِي أَلَا فِي مِثْلِ ذَا ضَلَّتْ عُقُول
وَشَاهِدْ مَا أَقُولُ يُرَى عِيَانًا فُرُوعُ النَّبْتِ إِنْ عُكِسَتْ أُصُول
وَتِرْيَاقُ الأَفَاعِي لَيْسَ شَيْءٌ سِوَاهُ بِبُرْءِ مَا لَدَغَتْ كَفِيل
وحدثني أبو بكر محمد بن بقيٍّ الحجريُّ، وكان حكيم الطبع عاقلًا فهيمًا، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذكره، أنه كان ببغداد في خانٍ من خاناتها، فرأى ابنة لوكيلة الخان فأحبَّها وتزوَّجها، فلما خلا بها نظرتْ إليه وكانتْ بِكرًا، وهو قد تكشف لبعض حاجته، فراعَها كِبَر أيْرِه، ففرَّت إلى أمها وتفادت منه، فرام بها كل مَن حواليها أن تُردَّ إليه، فأبتْ وكادتْ أن تموت، ففارقها ثم ندم، ورام أن يُراجعها فلم يُمكنه، واستعان بالأبهري وغيره فلم يقدر أحد منهم على حيلة في أمره، فاختلط عقله وأقام في المارستان يُعاني مدةً طويلةً حتى نَقِه وسَلَا وما كاد، ولقد كان إذا ذكرها يتنفَّس الصُّعَداء.
 
وقد تقدَّم في أشعاري المذكورة في هذه الرسالة من صفة النُّحُول مُفرَّقًا ما استغنيتُ به عن أن أذكر هنا مِن سواها شيئًا خوفَ الإطالة. والله المعين والمستعان.
 
وربما تَرقَّت إلى أن يُغلَب المرء على عقله ويُحال بينه وبين ذهنه فيوسوس.
 
خبر
وإني لأعرف جاريةً من ذوات المَناصب والجمال والشرف من بنات القوَّاد، وقد بلغ بها حُب فتًى من إخواني جدًّا، من أبناء الكُتَّاب، مبلغَ هيجان المرار الأسود، وكادت تختلط، واشتُهر الأمر وشاع جدًّا حتى علمناه وعلمه الأباعد، إلى أن تُدورِكتْ بالعلاج. وهذا إنما يتولَّد عن إدمان الفكر، فإذا غلبت الفكرة وتمكن الخَلط التداوي خرج الأمر عن حدِّ الحُب إلى حد الوَلَهِ والجنون، وإذا أُغفل التداوي في الأول إلى المُعاناة قوي جدًّا ولم يوجد له دواء سوى الوصال. ومن بعض ما كتبتُ إليه قطعةً، منها:
 
قَدْ سَلَبْتَ الفُؤَادَ مِنْهَا اخْتِلَاسًا أَيُّ خَلْقٍ يَعِيشُ دُونَ فُؤَادِ
فَأَغِثْهَا بِالوَصْلِ تَحْيَ شَرِيفًا وَتَفُزْ بِالثَّوَابِ يَوْمَ المَعَادِ
وَأَرَاهَا تَعْتَاضُ إِنْ دَامَ هَذَا مِنْ خَلَاخِيلِهَا حُلَى الأَقْيَاد
أَنْتَ حَقًّا مُتَيِّمُ الشَّمْسِ حَتَّى عِشْقُهَا بَيْنَ ذَا الوَرَى لَكَ بَادِي
خبر
وحدَّثني جعفر مولى أحمد بن محمد بن جدير، المعروف بالبلبيني، أن سبب اختلاط مروان بن يحيى بن أحمد بن جدير وذهاب عقله اعتلاقُه بجاريةٍ لأخيه، فمنعها منه وباعها لغيره، وما كان في إخوته مثله ولا أتم أدبًا منه.
 
وأخبرني أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة، أن سبب جنون يحيى بن أحمد بن عبَّاس بن أبي عبدة بَيْع جاريةٍ له كان يَجِد بها وَجدًا شديدًا، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريَّات.
 
فهذان رجلان جليلان مشهوران فَقدَا عقولهما واختلطا وصارا في القيود والأغلال، فأما مروان فأصابته ضربة مُخطئة يوم دخول البَربر قُرطبة وانتهائهم إليها، فتُوفِّي رحمه الله. وأما يحيى بن محمد فهو حيٌّ على حالته المذكورة في حين كِتابتي لرسالتي هذه، وقد رأيته أنا مرارًا وجالسته في القصر قبل أن يُمتحن بهذه المحنة. وكان أستاذي وأستاذه الفقيه أبو الخيار اللُّغوي، وكان يحيى — لَعَمْري — حُلوًا من الفتيانِ نبيلًا.
 
وأما من دون هذه الطبقة فقد رأينا منهم كثيرًا، ولكن لم نُسمِّهم لخفائهم، وهذه درجة إذا بلغ المشغوف إليها فقد انبتَّ الرجاء وانصرم الطمع، فلا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتَلِفت المعرفة، وتغلبت الآفة. أعاذنا الله من البلاء بطَوْله، وكفانا النِّقَم بمَنِّه.
 
باب السلو

وقد علمنا أن كلَّ ما له أول فلا بُد له من آخر، حاشا نَعيم الله عزَّ وجل، الجنة لأوليائه، وعذابه بالنار لأعدائه. وأما أعراض الدنيا فنافدة فانية، وزائلة مضمحلة، وعاقبة كل حُب إلى أحد أمرين؛ إمَّا اخترام منية، وإما سلوٍّ حادث. وقد نجد النفس تَغلب عليها بعضُ القُوى المصرِّفة معها في الجسد، فكما نجد نَفسًا ترفض الراحات والملاذَّ للعمل في طاعة الله تعالى وللرياء في الدنيا، حتى تُشتهر بالزهد، فكذلك نجد نفسًا تنصرف عن الرغبة في لقاء شكلها للأنفة المستحكمة المنافرة للغدر، أو استمرار سوء المكافأة في الضمير. وهذا أصح السلوِّ، وما كان من غير هذين الشيئين فليس إلا مذمومًا. والسلوُّ المتولِّد من الهجر وطوله إنما هو كاليأس يدخل على النفس من بُلوغها إلى أملها، فيفتر نزاعها ولا تقوى رغبتها. ولي في ذم السلو قصيدة، منها:

إِذَا مَا رَنَتْ فَالحَيُّ مَيْتٌ بِلَحْظِهَا وَإِنْ نَطَقَتْ قُلْت السَّلَامَ رِطَاب

كَأَنَّ الهَوَى ضَيْفٌ أَلَمَّ بِمُهْجَتِي فَلَحْمِي طَعَامٌ وَالنَّجِيعُ شَرَاب

ومنها:

صَبُورٌ عَلَى الأَزْمِ الَّذِي العِزُّ خَلفَهُ وَلَوْ أَمْطَرَتْهُ بِالحَرِيقِ سَحَاب

جَزُوعًا مِنَ الرَّاحَاتِ إِنْ أَنْتَجَتْ لَهُ خُمُولًا وَفِي بَعْضِ النَّعِيمِ عَذَاب

والسلو في التجربة الجميلة ينقسم قسمين: سلو طبيعي، وهو المسمى بالنسيان، يخلو به القلب، ويفَرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط. وهذا القسم ربما لحِق صاحبَه الذمُّ لأنه حادث عن أخلاق مذمومة، وعن أسباب غير مُوجبة استحقاق النسيان — وستأتي مُبيَّنة إن شاء الله تعالى — وربما لم تَلْحقه اللائمة لعذر صحيح. والثاني سلو تطبُّعي، قهر النفس، وهو المسمى بالتصبُّر، فترى المرء يُظهر التجلُّد وفي قلبه أشد لدغًا من وخز الإشْفَى، ولكنه يرى بعضَ الشر أهونَ من بعض، أو يحاسب نفسه بحُجة لا تُصرف ولا تُكْسر. وهذا قسم لا يُذمُّ آتِيه، ولا يُلام فاعله؛ لأنه لا يحدُث إلا عن عظيمة، ولا يقع إلا عن فادحة؛ إما لسبب لا يَصبر على مثله الأحرار، وإما لخطب لا مردَّ له تجري به الأقدار. وكفاك من الموصوف به أنه ليس بناسٍ لكنه ذاكر، وذو حنين واقف على العهد، ومتجرِّع مرارات الصبر، والفرق العامي بين المتصبر والناسي أنك ترى المتصبر وإن أبدَى غاية الجَلَد، وأظهر سَبَّ محبوبه والتحمُّل عليه، يَحتمِلُ ذلك من غيره. وفي ذلك أقول قطعة، منها:

دَعُونِي وَسَبِّي لِلْحَبِيبِ فَإِنني وَإِنْ كُنْتُ أُبْدِي الهَجْرَ لَسْتُ مُعَادِيَا

وَلَكِنَّ سَبِّي لِلْحَبِيبِ كَقَوْلِهِمْ أَجَادَ فَلَقَّاهُ الإِلَهُ الدَّوَاهِيَا

والناسي ضدُّ هذا، وكلُّ هذا فعلى قدر طبيعة الإنسان وإجابتها وامتناعها، وقُوة تمكُّن الحب من القلب أو ضعفه، وفي ذلك أقول، وسمَّيتُ الساليَ فيه المُتصبِّر، قطعةً، منها:

نَاسِي الأَحِبَّةِ غَيْرُ مَنْ يَسْلُوهُمُ حُكْمُ المُقَصِّرِ غَيْرُ حُكْمِ المُقْصِرِ

مَا قَاصِرٌ لِلنَّفْسِ غَيْرَ مُجِيبِهَا مَا الصَّابِرُ المَطْبُوعُ كَالمُتَصَبِّرِ

والأسباب الموجبة للسلو المنقسم هذين القسمين كثيرة، وعلى حسبها وبمقدار الواقع منها يُعذر السالي ويُذم.

فمنها المَلل، وقد قدَّمنا الكلام عليه، وإن من كان سُلوُّه عن مَلل فليس حُبُّه حقيقة، والمُتَّسم به صاحبُ دعوى زائفة، وإنما هو طالب لذَّة ومُبادر شهوة. والسالي من هذا الوجه ناسٍ مذموم.

ومنها الاستبدال، وهو وإن كان يُشبه الملل ففيه معنًى زائدٌ، وهو بذلك المعنى أقبح من الأول، وصاحبه أحقُّ بالذم.

ومنها حَياء مركَّب يكون في المُحبِّ يَحولُ بينه وبين التعريض بما يجد، فيتطاول الأمر، وتتراخى المدة، ويبلى جديد المودة، ويحدُث السلو. وهذا وجه إن كان السالي عنه ناسيًا فليس بمُنصفٍ؛ إذ منه جاء سببُ الحرمان، وإن كان متصبرًا فليس بملوم؛ إذ آثر الحياء على لذة نفسه. وقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الحَياء من الإيمان، والبذاء من النفاق.»

وحدثنا أحمد بن محمد، عن أحمد بن مطرف، عن عبد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك، عن سلمة بن صَفوان الزرقي، عن زيد بن طلحة بن رُكانة يرفعه إلى رسول الله ﷺ أنه قال: «لكل دين خُلقٌ، وخُلقُ الإسلام الحياءُ.»

فهذه الأسباب الثلاثة أصلها من المُحب، وابتداؤها من قِبَله، والدم لاصق به في نسيانه لمن يُحب.

ثم منها أسباب أربعة هُن من قِبل المحبوب، وأصلها عنده، فمنها: الهجر، وقد مرَّ تفسير وجوهه، ولا بد لنا أن نورد منه شيئًا في هذا الباب يوافقه، والهجر إذا تطاول وكثُر العتاب واتصلت المفارقة يكون بابًا إلى السلو. وليس مَن وصلك ثم قَطعك لغيرك من باب الهَجر في شيء؛ لأنه الغدر الصحيح، ولا مَن مَال إلى غيرك دون أن يتقدَّم لك معه صِلةٌ من الهَجر أيضًا في شيء، إنما ذاك هو النِّفار — وسيقع الكلامُ في هذين الفصلين بعد هذا إن شاء الله تعالى — لكن الهجر ممن وَصَلك ثم قطَعك لتنقيل واشٍ، أو لذنب واقع، أو لشيء قام في النفس، ولم يَمِل إلى سواك، ولا أقام أحدًا غيرك مقامك. والناسي في هذا الفصل من المُحبين ملوم دون سائر الأسباب الواقعة من المحبوب؛ لأنه لا تقع حالة تُقيم العذر في نسيانه، وإنما هو راغب عن وَصلك، وهو شيء لا يلزمه. وقد تقدم من أذمَّة الوصال وحق أيامه ما يلزم التذكر، ويوجب عهد الألفة، ولكن الساليَ على جهة التصبر والتجلُّد ها هنا معذور، إذا رأى الهجر متماديًا، ولم يرَ للوصال علامة، ولا للمراجعة دلالة. وقد استجاز كثير من الناس أن يُسمُّوا هذا المعنى عذرًا؛ إذ ظاهرهما واحد، ولكن علَّتيهما مختلفتان؛ فلذلك فرَّقنا بينهما في الحقيقة. وأقول في ذلك شعرًا، منه:

فَكُونُوا كَمَنْ لَمْ أَدْرِ قَطُّ فَإِنَّنِي كَآخَرَ لَمْ تَدْرُوا وَلَمْ تَصِلُوهُ

أَنَا كَالصَّدَى مَا قَالَ كُل أُجِيبُهُ فَمَا شِئْتُمُوهُ اليَوْمَ فَاعْتَمِدُوهُ

وأقول أيضًا قطعةً، ثلاثة أبيات قلتُها وأنا نائم، واستيقظت فأضفت إليها البيت الرابع:

أَلَا لله دَهْرٌ كُنْتُ فِيهِ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ رُوحِي وَأَهْلِي

فَمَا بَرحَتْ يَدُ الهجْرَانِ حَتَّى طَوَاكَ بَنَانُهَا طَيَّ السِّجِلِّ

سَقَانِي الصَّبْرَ هجرُكُمُ كَمَا قَدْ سَقَانِي الحُبَّ وَصْلُكُمُ بِسَجْلِ

وَجَدْتُ الوَصْلَ أَصْلَ الوَجْدِ حَقًّا وَطُولَ الهَجْرِ أَصْلًا لِلتَّسَلِّي

وأقول أيضًا قطعةً:

لَوْ قِيلَ لِي مِنْ قَبْل ذَا أَنْ سَوْفَ تَسْلُو مَنْ تَوَد

فَحَلَفْتُ أَلْفَ قَسَامَةٍ لَا كَانَ ذَا أَبَد الأَبَد

وَإِذَا طَوِيلُ الهَجْرِ مَا مَعَهُ مِنَ السُّلْوَانِ بُد

لله هجرُك إِنَّهُ سَاعٍ لِبُرْئِي مُجْتَهِد

فَالآنَ أَعْجَبُ لِلسلُوِّ وَكُنْتُ أَعْجَبُ لِلْجَلَد

وَأَرَى هَوَاك كَجَمْرَةٍ تَحْتَ الرَّمَادِ لَهَا مَدَد

وأقول:

كَانَتْ جَهَنَّمُ فِي الحَشَا مِنْ حُبِّكُمْ فَلَقَدْ أَرَاهَا نَارَ إِبْرَاهِيمَا

ثم الأسباب الثلاثة الباقية التي هي من قِبَل المحبوب، فالمتصبر من الناس فيها غير مذموم؛ لما سنُورده — إن شاء الله — في كل فصلٍ منها.

فمنها نِفارٌ يكون في المحبوب وانزواء قاطع للأطماع.

خبر

وإني لأخبر عنِّي أني ألفت في أيام صباي ألفةَ المحبة جاريةً نشأت في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنتَ ستة عشرَ عامًا، وكانت غايةً في حُسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخَفَرها ودَماثتها، عديمة الهزل، منيعة البَذل، بديعة البِشْر، مُسْبلة الستر؛ فقيدةَ الذام، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب، دائمة القطوب، حلوة الإعراض، مطبوعة الانقباض، مليحة الصدود، رزينة العقود، كثيرة الوقار، مستلذة النفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامِع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالبٌ كل القلوب، وحالُها طارد مَن أمَّها، تزدان في المنع والبخل ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، موقوفة على الجد في أمرها، غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تحسن العود إحسانًا جيدًا.

فجنحتُ إليها وأحببتها حبًّا مفرطًا شديدًا، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة، وأسمع مِن فيها لفظةً غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع بأبلغ السَّعي؛ فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة. فلعهدي بمُصطنع كان في دارنا لبعض ما يصطنع له في دُور الرؤساء، تجمَّعتْ فيه دخلتُنا ودخلة أخي — رحمه الله — من النساء ونساء فتياننا ومن لاثَ بنا مِن خَدَمنا، ممن يخفُّ موضعه ويلطفُ محله، فلبثن صدرًا من النهار ثم تنقَّلنَ إلى قصة كانت في دارنا مشرفة على بستان الدار، ويطلع منها على جميع قرطبة وفُحوصها، مفتحة الأبواب.

فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن، فإني لأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي فيه أُنسًا بقربها، مُتعرِّضًا للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لُطف الحركة، فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل مِن الزوال إلى غيره. وكانت قد علمتْ كَلَفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه لأنهن كن عددًا كثيرًا، وإذ كلهن يتنقَّلن من باب إلى باب لسبب الاطِّلاع من بعض الأبواب على جهات لا يُطَّلع من غيرها عليها — واعلم أن قيافة النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مُدلج في الآثار — ثم نزلن إلى البستان، فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود وسوَّته بخَفَر وخَجَل لا عهدَ لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حُسنُه في عين مُستحسنه، ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:

إِنِّي طَرِبْتُ إِلَى شَمْسٍ إِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ مَغَارِبُهَا جَوْفَ المَقَاصِيرِ

شَمْسٌ مُمَثَّلَةٌ فِي خُلْقِ جَارِيَةٍ كَأَنَّ أَعْطَافَهَا طَيُّ الطَّوَامِيرِ

لَيْسَتْ مِنَ الإِنْسِ إِلَّا فِي مُنَاسَبَةٍ وَلَا مِنَ الجِنِّ إِلَّا فِي التَّصَاوِيرِ

فَالوَجْهُ جَوْهَرَةٌ، وَالجِسْمُ عَبْهَرَةٌ وَالرِّيحُ عَنْبَرَةٌ، وَالكُلُّ مِنْ نُورِ

كَأَنَّهَا حِينَ تَخْطُو فِي مَجَاسِدِهَا تَخْطُو عَلَى البِيضِ أَوْ حَدِّ القَوَارِيرِ

فلعمري لكأن المِضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكُّن من رؤيتها وسماع كلامها، وفي ذلك أقول:

لَا تَلُمْهَا عَلَى النِّفَار وَمَنْعِ الـ ـوَصْلِ مَا هَذَا لَهَا بِنَكِيرِ

هَلْ يَكُونُ الهِلَالُ غَيْرَ بَعِيدٍ أَوْ يَكُونُ الغَزَالُ غَيْرَ نَفُورِ

وأقول:

مَنَعْتِ جَمَالَ وَجْهِكِ مُقْلَتَيَّا وَلَفْظُكِ قَدْ ضَنَنْتِ بِهِ عَليَّا

أَرَاكِ نَذَرْتِ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَسْتِ تُكَلِّمِينَ اليَوْمَ حَيَّا

وَقَدْ غَنَّيْتِ لِلعَبَّاسِ شِعْرًا هَنِيئًا ذَا لِعَبَّاسٍ هَنِيَّا

فَلَوْ يَلْقَاكِ عَبَّاس لَأَضْحَى لِفَوْزٍ قَانِيًا، وَبِكُمْ شَجِيَّا

ثم انتقل أبي — رحمه الله — من دُورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ربض الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة، وانتقلت أنا بانتقاله، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك، ثم شُغلنا بعدَ قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتُحنَّا بالاعتقال والترقيب والإغرام الفادح والاستتار، وأرْزَمَت الفتنة وألقت باعها وعمَّت الناس، وخَصَّتنا إلى أن تُوفِّي أبي الوزير — رحمه الله — ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يومَ السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنين وأربعمائة.

واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها، وقد ارتفعت الواعية، قائمةً في المأتم وسط النساء في جملة البواكي والنوادب. فلقد أثارت وَجدًا دفينًا، وحرَّكت ساكنًا، وذكرتني عهدًا قديمًا، وحُبًّا تليدًا، ودهرًا ماضيًا، وزمنًا عافيًا، وشهورًا خوالي، وأخبارًا بوالي، ودهورًا فواني، وأيامًا قد ذهبت، وآثارًا قد دثرت، وجدَّدت أحزاني، وهيَّجت بلابلي، على أني كنت في ذلك النهار مُرزأً مُصابًا من وجوه، وما كنت نسيت ولكن زاد الشجا، وتوقَّدت اللوعة، وتأكد الحزن، وتضاعف الأسف، واستجلب الوجد ما كان منه كامنًا فلبَّاه مجيبًا، فقلت قطعةً، منها:

يُبَكِّي لِمَيتٍ مَاتَ وَهْوَ مُكَرَّمٌ وَلَلْحَيُّ أَوْلَى بِالدُّمُوعِ الذَّوَارِفِ

فَيَا عَجَبًا مِنْ آسِفٍ لِامْرِئٍ ثَوَى وَمَا هَوُ لِلْمَقْتُولِ ظُلْمًا بِآسِفِ

ثم ضرب الدهرُ ضربانَه وأُجلينا عن منازلنا وتغَلَّب علينا جند البربر، فخرجتُ عن قرطبة أول المحرم سنة أربعٍ وأربعمائة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر، ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة. وقد تغير أكثر محاسنها، وذهبت نَضارتها، وفنيت تلك البهجة، وغاض ذلك الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل والمرآة الهندية، وذبُل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه متنورًا، ويرتاد فيه متخيرًا، وينصرف عنه متحيرًا.

فلم يبقَ إلا البعض المُنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها، وعدمها الصيانة التي كانت غُذيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا، ولتبذلها في الخروج فيما لا بُد لها منه مما كانت تُصان وتُرفع عنه قبل ذلك. وإنما النساء رياحين متى لم تُتعاهد نقصت، وبنية متى لم يُهتبل بها استُهدمت؛ ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقًا، وأثبت أصلًا، وأعتق جودةً؛ لصبره على ما لو لقي بعضَه وجوهُ النساء لتغيَّرت أشد التغير، مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء وعدم الكنِّ. وإني لو نِلْتُ منها أقل وصل، وأنستْ لي بعض الأنس لخُولطتُ طربًا، أو لمُتُّ فرحًا، ولكن هذا النفار الذي صبَّرني وأسلاني.

وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه في كلا الوجهين مَعذور وغير ملوم؛ إذ لم يقع تثبُّت يوجب الوفاء، ولا عهد يقتضي المُحافظة، ولا سلَف ذمام، ولا فرط تصادف يُلام على تضييعه ونسيانه.

ومنها جفاء يكون من المحبوب، فإذا أفرط فيه وأسرف وصادف من المحب نفسًا لها بعض الألفة والعزة تسلَّى، وإذا كان الجفاء يسيرًا منقطعًا، أو دائمًا، أو كبيرًا منقطعًا؛ احتمل وأغضى عليه، حتى إذا كثر ودام فلا بقاء عليه، ولا يُلام الناسي لمَن يُحبُّ في مثل هذا.

ومنها الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد، ولا يُغضي عليه كريم، وهو المسلاة حقًّا، ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسيًا أو متصبِّرًا، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه. ولولا أن القلوب بيد مُقلِّبها لا إله إلا هو، ولا يكلَّف المرءُ صرفَ قلبه، ولا إحاطة استحسانه، لولا ذاك لقلت إن المُتصبِّر في سلوِّه مع الغدر يكاد أن يستحق الملامة والتعنيف. ولا أدْعَى إلى السلُوِّ عند الحُرِّ النفسِ وذوي الحفيظة والسريِّ السجايا من الغدر، فما يصبر عليه إلا دنيء المروءة، خسيس النفس، نَذْل الهمة، ساقط الأنفة، وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

هَوَاكِ فَلَسْتُ أَقْرَبُهُ غرُورٌ وَأَنْتِ لِكُلِّ مَنْ يَأْتِي سَرِير

وَمَا إِنْ تَصْبِرِينَ عَلَى حَبِيبٍ فَحَوْلَكِ مِنْهُمُ عَدَدٌ كَثِير

فَلَوْ كُنْت الأَمِير لَمَا تَعَاطَى لِقَاءَكَ خَوْفَ جَمْعِهِمُ الأَمِيرُ

رَأَيْتُكِ كَالأَمَانِي مَا عَلَى مَنْ يُلِمُّ بِهَا وَلَوْ كَثرُوا غُرُور

وَلَا عَنْهَا لِمَنْ يَأْتِي دِفَاعٌ وَلَوْ حُشِدَ الأَنَامُ لَهُم نَفِير

ثم سبب ثامن، وهو لا من المُحب ولا من المحبوب، ولكنه من الله تعالى؛ وهو اليأس، وفروعه ثلاثة: إما موت، وإما بَينٌ لا يُرجَى معه أوبة، وإما عارض يدخل على المتحابَّين بعلة المحب التي من أجلها وَثِق المحبوبُ فيغيرها.

وكل هذه الوجوه من أسباب السلو والتصبُّر، وعلى المحب الناسي في هذا الوجه المُنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة من الغَضاضة والذم واستحقاق اسم اللوم والغدر غيرُ قليل، وإن لليأس لعملًا في النفوس عجيبًا، وثلجًا لحرِّ الأكباد كبيرًا. وكل هذه الوجوه المذكورة أولًا وآخرًا فالتأني فيها واجب، والتربُّص على أهلها حسن، فيما يمكن فيه التأني ويصح لديه التربص، فإذا انقطعت الأطماع، وانحسمت الآمال، فحينئذٍ يقوم العذر.

وللشعراء فنٌّ من الشعر يذمُّون فيه الباكيَ على الدِّمن، ويُثنون على المثابر على اللذات. وهذا يدخل في باب السلو. ولقد أكثر الحسن بن هانئ في هذا الباب وافتخر به، وهو كثيرًا ما يَصف نفسه بالغدر الصريح في أشعاره تحكمًا بلسانه، واقتدارًا على القول. وفي مثل هذا أقول شعرًا، منه:

خَلِّ هَذَا وَبَادِرِ الدَّهْرَ وَارْحَلْ فِي رِيَاضِ الرُّبَى مَطِيَّ القِفَارِ

وَاحْدُهَا بِالبَدِيعِ مِنْ نَغَمَاتِ الـ ـعُودِ كَيْمَا تُحِثُّ بِالمِزْمَارِ

إِنَّ خَيْرًا مِنَ الوُقُوفِ عَلَى الدَّا رِ وُقُوفُ البَنَانِ بِالأَوْتَارِ

وَبَدَا النَّرْجِسُ البَدِيعُ كَصَبٍّ حَائِر الطَّرْفِ مَائِلًا كَالمَدَارِ

لَوْنُهُ لَوْنُ عَاشِقٍ مُسْتَهَامٍ وَهْوَ لَا شَكَّ هَائِمٌ بِالبَهَارِ

ومَعاذ الله أن يكون نسيان ما درس لنا طَبعًا، ومعصية الله بشرب الرَّاح لنا خلقًا، وكساد الهمة لنا صفة، ولكن حسبنا قول الله تعالى — ومن أصدقُ من الله قيلًا — في الشعراء: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. فهذه شهادة الله العزيز الجبَّار لهم، ولكنَّ شذوذ القائل للشعر عن مرتبة الشعر خطأ. وكان سبب هذه الأبيات أن حفنَى العامرية، إحدى كرائم المظفَّر عبد الملك بن أبي عامر، كَلفتْنِي صَنعَتها فأَجبْتُها، وكنتُ أجلُّها، ولها فيها صنعة في طريقة النشيد والبسيط رائقة جدًّا. ولقد أنشدتها بعض إخواني من أهل الأدب فقال سرورًا بها: يجب أن توضع هذه في جملة عجائب الدنيا.

فجميع فصول هذا الباب كما ترى ثمانية؛ منها ثلاثة هي من المحب، اثنان منها يذم السالي فيهما على كل وجه؛ وهما الملل والاستبدال، وواحد منها يذم السالي فيه ولا يذم المُتصبِّر؛ وهو الحياء، كما قدمنا، وأربعة من المحبوب، منها واحد يذم الناسي فيه ولا يذم المُتصبِّر؛ وهو الهجر الدائم، وثلاثة لا يذم السالي فيها على أي وجه كان، ناسيًا أو متصبرًا؛ وهي النفار والجفاء والغدر، ووجه ثامن، وهو من قِبَل الله عز وجل؛ وهو اليأس إما بموت أو بَينٍ أو آفةٍ تزمن. والمتصبر في هذه معذور.

وعني أخبرك أني جُبِلتُ على طبيعتين لا يهنئني معهما عيش أبدًا، وإني لأبرم بحياتي باجتماعهما، وأودُّ التثبُّت من نفسي أحيانًا لأفقد ما أنا بسببه من النكد من أجلهما، وهما: وفاء لا يشوبه تلوُّن قد استوت فيه الحضرة والمغيب، والباطن والظاهر، تولده الألفة التي لم تَعزف بها نفسي عمَّا دريتُه، ولا تتطلع إلى عدم من صحبته، وعزة نفس لا تَقرُّ على الضيم، مهتمَّة لأقل ما يرد عليها من تغير المعارف، مؤثرة للموت عليه. فكل واحدة من هاتين السجيتين تدعو إلى نفسها، وإني لأجفى فأحتمل، وأستعمل الأناة الطويلة، والتلوُّم الذي لا يكاد يُطيقه أحد، فإذا أفرط الأمر وحَمِيت نفسي تصبَّرت وفي القلب ما فيه. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

لِي خُلَّتَانِ أَذَاقَانِي الأَسَى جُرَعًا وَنَغَّصَا عِيشَتِي وَاسْتَهْلَكَا جَلَدِي

كِلْتَاهُمَا تَطَّبيني نَحْوَ جِبلتِهَا كَالصَّيْدِ يَنْشبُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالأَسَدِ

وَفَاءُ صِدْقٍ فَمَا فَارَقْتُ ذَا مِقَةٍ فَزَالَ حُزْنِي عَلَيْهِ آخِرَ الأَبَدِ

وَعِزَّةٌ لَا يَحُلُّ الضَّيمُ سَاحَتَهَا صَرَامَةً فِيهِ بِالأَمْوَالِ وَالوَلَدِ

ومما يُشبه ما نحن فيه، وإن كان ليس منه، أن رجلًا من إخواني كنتُ أحللتُه من نفسي محلَّها، وأسقطت المئونة بيني وبينه، وأعددته ذخرًا وكنزًا، وكان كثير السمع من كل قائل، فدبَّ ذو النميمة بيني وبينه، فحاكوا له وأنجح سعيُهم عنده، فانقبض عما كنتُ أعهده، فتربَّصت عليه مدة في مثلها أوب الغائب، ورضى العاتب، فلم يزدد إلا انقباضًا؛ فتركته وحاله.

باب الموت

وربما تزايد الأمر ورقَّ الطبع وعظم الإشفاق فكان سببًا للموت ومفارقة الدنيا، وقد جاء في الآثار: من عشق فعفَّ فمات فهو شَهيد. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

فَإِنْ أَهْلِكْ هَوًى أَهْلِكْ شَهِيدًا وَإِنْ تَمْنُنْ بَقِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ

رَوَى هَذَا لَنَا قَوْمٌ ثِقَاتٌ ثَوَوا بِالصِّدْقِ عَنْ جرحٍ وَمَيْن

ولقد حدَّثني أبو السريِّ عمار بن زياد صاحبُنا عمن يثق به، أن الكاتب ابن قزمان امتُحن بمحبة أسلم بن عبد العزيز، أخي الحاجب هاشم بن عبد العزيز، وكان أسلم غايةً في الجمال، حتى أضجره لما به، وأوقعه في أسباب المنية. وكان أسلم كثيرَ الإلمام به، والزيارة له، ولا علم له بأنه أصل دائه، إلى أن تُوفِّي أسفًا ودنفًا.

قال المُخبر: فأخبرتُ أسلم بعد وفاته بسبب علَّته وموته فتأسَّف وقال: هلَّا أعلمتني؟ فقلت: ولم؟ قال: كنتُ والله أزيد في صلته وما أكاد أفارقه، فما عليَّ في ذلك ضرر. وكان أسلم هذا من أهل الأدب البارع والتفنُّن، مع حظٍّ من الفقه وافر، وذا بصارة في الشعر، وله شعر جيد، وله معرفة بالأغاني وتصرفها، وهو صاحب تآليف في طرائق غناء زِرياب وأخباره؛ وهو ديوان عجيب جدًّا. وكان أحسن الناس خَلقًا وخُلقًا، وهو والد أبي الجعد الذي كان ساكنًا بالجانب الغربي من قرطبة.

وأنا أعلم جاريةً كانت لبعض الرؤساء فعزف عنها لشيء بلغه في جِهتها لم يكن يوجب السخط، فباعها، فجزعت لذلك جزعًا شديدًا وما فارقها النُّحول والأسف، ولا بان عن عينها الدمع إلى أن سلت — وكان ذلك سبب موتها — ولم تَعِش بعد خروجها عنه إلا أشهرًا ليست بالكثيرة. ولقد أخبرتني عنها امرأة أثق بها أنها لقيتها وهي قد صارت كالخيال نُحولًا ورقَّةً، فقالت لها: أحسب هذا الذي بك من محبَّتك لفلان؟ فتنفَّست الصُّعَداء، وقالت: والله لا نسيتُه أبدًا وإن كان جفاني بلا سبب. وما عاشت بعد هذا القول إلا يسيرًا.

وأنا أخبرك عن أبي بكر أخي — رحمه الله — وكان متزوجًا بعاتكة بنت قند، صاحب الثغر الأعلى أيام المنصور أبي عامر محمد بن عامر، وكانت التي لا مرمَى وراءها في جمالها وكريم خلالها، ولا تأتي الدنيا بمثلها في فضائلها، وكانا في حدِّ الصبا وتمكُّن سلطانه تُغضب كلَّ واحد منهما الكلمةُ التي لا قَدْرَ لها، فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاتب مدة ثمانية أعوام، وكانت قد شفَّها حُبُّه وأضناها الوَجد فيه وأنحلها شدةُ كلَفِها به حتى صارت كالخيال المتوسم دنفًا، لا يُلهيها من الدنيا شيء، ولا تُسَرُّ من أموالها على عَرْضها وتكاثرها بقليل ولا كثير إذا فاتها اتفاقُه معها وسلامتُه لها، إلى أن تُوفِّي أخي — رحمه الله — في الطاعون الواقع بقُرطبة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعمائة، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، فما انفكت منذ بانَ عنها من السقم الدَّخيل والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام في اليوم الذي أكمل هو فيه تحت الأرض عامًا. ولقد أخبرتني عنها أمها وجميع جواريها أنها كانت تقول بعده: ما يُقوِّي صبري ويُمسِك رمقي في الدنيا ساعة واحدة بعد وفاته إلا سُروري وتيقُّني أنه لا يَضُمُّه وامرأةً مضجعٌ أبدًا، فقد أمنتُ هذا الذي ما كنت أتخوَّف غيره، وأعظم آمالي اليومَ اللحاق به.

ولم يكن له قَبلَها ولا معها امرأة غيرها، وهي كذلك لم يكن لها غيره، فكان كما قدَّرت — غفر الله لها ورضي عنها.

وأما خبر صاحبنا أبي عبد الله محمد بن يحيى بن محمد بن الحسين التميمي، المعروف بابن الطنبي، فإنه كان — رحمه الله — كأنه قد خُلق الحُسن على مثاله، أو خلق من نفس كل من رآه، لم أشاهد له مثلًا حُسنًا وجَمالًا وخُلقًا، وعِفَّةً وتصاوُنًا وأدبًا، وفَهمًا وحِلمًا ووفاءً، وسؤددًا وطهارةً وكرمًا، ودماثةً وحلاوةً ولَباقةً، وإغضاءً وعقلًا ومروءةً، ودينًا ودرايةً وحِفْظًا للقرآن والحديث والنحو واللغة، وشاعرًا مُفلقًا، حسن الخط، وبليغًا مُفَنِّنًا، مع حظ صالح من الكلام والجدل، وكان من غلمان أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي أستاذي في هذا الشأن. وكان بينه وبين أبيه اثنا عشر عامًا في السن، وكنت أنا وهو متقاربين في الأسنان، وكنا أليفين لا نفترق، وخِدنين لا يجري الماء بيننا إلا صفاءً، إلى أن ألقت الفتنة جِرانَها، وأرخت عَزاليها، ووقع انتهاب جُند البربر منازلَنا في الجانب الغربي بقرطبة ونزولهم فيها — وكان مسكن أبي عبد الله في الجانب الشرقي ببلاط مُغيث — وتقلبت بي الأمور إلى الخروج عن قُرطبة وسُكنى مدينة المريَّة، فكنا نتهادى النظم والنثر كثيرًا، وآخرُ ما خاطبني به رسالةٌ في دَرْجها هذه الأبيات:

لَيْتَ شِعْرِي عَنْ حَبْلِ وُدِّكَ هَلْ يُمْـ ـسِي جَدِيدًا لَدَيَّ غَيْرَ رَثِيثِ

وَأرَانِي أَرَى مُحَيَّاكَ يَوْمًا وَأُنَاجِيكَ فِي بَلَاط مُغِيثِ

فَلَوَ انَّ الدِّيَارَ يُنْهِضُهَا الشَّوْ قُ أَتَاكَ البَلَاطُ كَالمُسْتَغِيثِ

وَلَوَ انَّ القُلُوبَ تَسْطِيعُ سَيْرًا سَارَ قَلْبِي إِلَيْكَ سَيْرَ الحَثِيثِ

كُنْ كَمَا شِئْتَ لِي فَإِنِّي مُحِبٌّ لَيْسَ لِي غَيْرُ ذِكْرِكُم مِنْ حَدِيث

لَكَ عِنْدِي وَإِنْ تَنَاسَيْتَ عَهْدٌ فِي صَمِيمِ الفُؤَادِ غَيْرُ نَكِيث

فكُنَّا على ذلك إلى أن انقطعت دولةُ بني مروان وقُتل سليمان الظافر أمير المؤمنين، وظهرت دولة الطالبية، وبُويع علي بن حمود الحسني، المسمى بالناصر، بالخلافة، وتغلَّب على قرطبة وتملَّكها، واستمر في قتاله إياها بجيوش المتغلبين والثوار في أقطار الأندلس. وفي إثر ذلك نكبني خيرانُ صاحبُ المريَّة؛ إذ نقل إليه من لم يتقِّ الله عز وجل من الباغين — وقد انتقم الله منهم — عني وعن محمد بن إسحاق صاحبي أنَّا نسعَى في القيام بدعوة الدولة الأموية، فاعتقلنا عند نفسه أشهرًا ثم أخرجنا على جهة التَّغريب، فصِرْنا إلى حصن القصر، ولَقِيَنا صاحبه أبو القاسم عبد الله بن هُذيل التجيبي، المعروف بان المقفل، فأقمنا عنده شهورًا في خير دار إقامة، وبين خير أهلٍ وجيران، وعند أجلِّ الناس همة، وأكملهم معروفًا، وأتمِّهم سيادةً.

ثم ركبنا البحر قاصدين بَلنْسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضي عبد الرحمن بن محمد، وساكنَّاه بها، فوجدت ببلنسية أبا شاكر عبد الرحمن بن محمد بن موهب العَنبري صديقنا، فنعى إليَّ أبا عبد الله بن الطنبي وأخبرني بموته — رحمه الله — ثم أخبرني بعد ذلك بمديدة القاضي أبو الوليد يونس بن محمد المُرادي وأبو عمرو أحمد بن محرز، أن أبا بكر المُصعب بن عبد الله الأزدي، المعروف بابن الفَرضي، حدَّثهما، وكان والد المصعب هذا قاضيَ بلنسية أيام أمير المؤمنين المهدي، وكان المُصعب لنا صديقًا وأخًا وأليفًا أيام طلبنا الحديث على والده وسائر شيوخ المحدِّثين بقرطبة، قالا: قال لنا المصعب: سألت أبا عبد الله بن الطنبي عن سبب علَّته وهو قد نَحل وخفيت محاسن وجهه بالضنى، فلم يبقَ إلا عينٌ جوهرها المخبر عن صفاتها السالفة، وصار يكاد أن يُطيره النفس، وقَرُب من الانحناء، والشَّجَا بادٍ على وجهه، ونحن مُنفردان، فقال لي: نعم، أخبرك أني كنت في باب داري بقديد الشماس في حين دخول عليِّ بن حمود قرطبة، والجيوش واردة عليها من الجهات تتسارب، فرأيتُ في جملتهم فتًى لم أقدر أن للحُسن صورة قائمة حتى رأيته، فغلب عليَّ عقلي، وهام به لُبي، فسألتُ عنه فقيل لي هذا فلان بن فلان، من سكان جهة كذا، ناحية قاصية عن قُرطبة بعيدة المأخذ، فيئست من رؤيته بعد ذلك. ولعمري، يا أبا بكر، لا فارقَني حُبُّه أو يُوردَني رَمْسي.

فكان كذلك، وأنا أعرف ذلك الفتى وأدريه، وقد رأيته لكني أضربت عن اسمه لأنه قد مات والتقى كلاهما عند الله عز وجل — عفا الله عن الجميع.

هذا على أن أبا عبد الله — أكرم الله نُزلَه — ممن لم يكُن له ولهٌ قط، ولا فارق الطريقة المثلى، ولا وطئ حَرامًا قط، ولا قارف مُنكرًا، ولا أتى منهيًّا عنه يحل بدينه ومُرُوءته، ولا قارض من جفا عليه، وما كان في طبقتنا مثله. ثم دخلت أنا قُرطبة في خلافة القاسم بن حَمُّود المأمون، فلم أقدِّم شيئًا على قَصد أبي عمرو القاسم بن يحيى التميمي أخي عبد الله — رحمه الله — فسألته عن حاله وعزَّيتُه عن أخيه، وما كان أولى بالتعزية عنه مني، ثم سألتُه عن أشعاره ورسائله؛ إذ كان الذي عندي منه قد ذهب بالنَّهب في السبب الذي ذكرتُه في صدر هذه الحكاية، فأخبرني عنه أنه لما قَرُبت وفاته وأيقن بحضور المنيَّة ولم يشك في الموت، دعا بجميع شعره وبكُتبي التي كنتُ خاطبتُه أنا بها، فقطَّعها كلها ثم أمر بدفنها. قال أبو عمرو: فقلت له: يا أخي، دعها تبقى. فقال: إني أقطعها وأنا أدري أني أقطع فيها أدبًا كثيرًا، ولكن لو كان أبو محمد بعيني حاضرًا لدفعتُها إليه تكون عنده تذكرة لمودتي، ولكني لا أعلم أي البلاد أضمرته، ولا أحيٌّ هو أم ميت. وكانت نكبتي اتَّصلتْ به ولم يعلم مستقري ولا إلى ما آلَ إليه أمري. فمن مَراثيَّ له قصيدة، منها:

لَئِنْ سَتَرَتْكَ بُطُونُ اللُّحُودِ فَوَجْدِيَ بَعْدَكَ لَا يَسْتَتِر

قَصَدْتُ دِيَارَكَ قَصْدَ المَشُوقِ وَلِلدَّهْرِ فِينَا كرُورُ وَمر

فَأَلْفَيْتُهَا مِنْكَ قَفَرًا خَلَاءً فَأَسْكَبْتُ عَيْنِي عَلَيْكَ العِبَر

وحدثني أبو القاسم الهمذاني — رحمه الله — قال: كان معنا ببغداد أخ لعبد الله بن يحيى بن أحمد بن دحون الفقيه، الذي عليه مدارُ الفُتيا بقرطبة، وكان أعلمَ من أخيه وأجلَّ مقدارًا، ما كان في أصحابنا ببغداد مثله، وأنه اجتاز يومًا بدرب قُطنة في زقاق لا ينفذ، فدخل فيه فرأى في أقصاه جاريةً واقفةً مكشوفة الوجه، فقالت له: يا هذا، إنَّ الدرب لا ينفذ. قال: فنظر إليها فهام بها. قال: وانصرف إلينا فتزايد عليه أمرها، وخشي الفتنة فخرج إلى البصرة فمات بها عشقًا — رحمه الله. وكان فيما ذكر من الصالحين.

حكاية

لم أزل أسمعها عن بعض ملوك البرابر، أن رجلًا أندلسيًّا باع جاريةً، كان يَجِد بها وَجْدًا شديدًا، لفاقةٍ أصابته، من رجل من أهل ذلك البلد، ولم يظن بائعُها أن نفسه تتبعها ذلك التتبُّعَ، فلما حصلت عند المُشتري كادت نفس الأندلسي تخرج، فأتى إلى الذي ابتاعها منه وحكَّمه في ماله أجمع وفي نفسه، فأبى عليه، فتحمَّل عليه بأهل البلد فلم يُسعف منهم أحد، فكاد عقله أن يذهب، ورأى أن يتصدَّى إلى الملك، فتعرض له وصاح، فسمعه، فأمر بإدخاله، والملك قاعد في علِّيَّة له مُشرِفة عالية فوصل إليه، فلما مَثُل بين يديه أخبره بقصته واسترحمه وتضرَّع إليه، فرقَّ له الملكُ فأمر بإحضار الرجل المبتاع فحضَر، فقال له: هذا رجل غريب، وهو كما تراه، وأنا شفيعُه إليك. فأبى المُبتاع وقال: أنا أشد حُبًّا لها منه، وأخشى إن صرفتها إليه أن أستغيث بك غدًا وأنا في أسوأ من حالته. فعرض له الملك وَمَن حواليه من أموالهم، فأبى ولجَّ واعتذر بمحبته لها، فلما طال المجلس ولم يَرَوْا منه البتة جُنوحًا إلى الإسعاف قال للأندلسي: يا هذا، ما لك بيدي أكثر مما ترى، وقد جهدتُ لك بأبلغ سَعي، وهو تراه يعتذر بأنه فيها أحب منك، وأنه يخشى على نفسه شرًّا مما أنت فيه، فاصبر لما قضى الله عليك. فقال الأندلسي: فما لي بيدك حيلة؟ قال له: وهل ها هنا غير الرغبة والبذل، ما أستطيع لك أكثر.

فلما يَئِس الأندلسي منها جمع يديه ورجليه وانصب من أعلى العلية إلى الأرض، فارتاع الملك وصرخ، فابتدر الغلمان من أسفل، فقُضي أنه لم يتأذَّ في ذلك الوقوع كبيرَ أذًى، فصُعد به إلى الملك، فقال: ماذا أردت بهذا؟ فقال: أيها الملك، لا سبيل لي إلى الحياة بعدها. ثم همَّ أن يرميَ نفسه ثانيةً، فمُنِع، فقال الملك: الله أكبر، قد ظهر وجه الحُكم في هذه المسألة. ثم التفت إلى المشتري فقال: يا هذا، إنك ذكرتَ أنك أودُّ لها منه، وتخاف أن تصير في مثل حاله. فقال: نعم. قال: فإن صاحبك هذا أبدى عنوان محبته وقذف بنفسه يريد الموت لولا أن الله عز وجل وقاه، فأنت قُم فصحِّح حبك وترامَ من أعلى هذه القصبة كما فعل صاحبك، فإن متَّ فبأجلك، وإن عشتَ كنت أولى بالجارية إذ هي في يدك، ويمضي صاحبك عنك، وإن أبَيْتَ نَزعتُ الجارية منك رغمًا ودفعتُها إليه.

فتمنَّع ثم قال: أترامى. فلما قرب من الباب ونظر إلى الهويِّ تحته رجع القَهقَرى، فقال له الملك: هو والله ما قلت. فهمَّ ثم نَكل، فلما لم يقدم قال له الملك: لا تتلاعب بنا، يا غلمان، خذوا بيديه وارموا به إلى الأرض. فلما رأى العزيمة قال: أيها الملك، قد طابت نفسي بالجارية. فقال له: جزاك الله خيرًا. فاشتراها منه ودفعها إلى بائعها، وانصرفا.

باب قبح المعصية

قال المصنف — رحمه الله تعالى: وكثير من الناس يُطيعون أنفسهم ويعصون عقولهم، ويَتبعون أهواءهم، ويرفضون أديانهم، ويتجنَّبون ما حضَّ الله تعالى عليه ورتَّبه في الألباب السليمة من العِفَّة وترك المعاصي ومُقارعة الهوى، ويخالفون الله ربَّهم، ويوافقون إبليس فيما يُحبه من الشهوة المُعْطِبَة، فيواقعون المعصية في حبهم. وقد علمنا أن الله عز وجل ركَّب في الإنسان طبيعتين متضادتين؛ إحداهما لا تُشير إلا بخير، ولا تحُضُّ إلا على حسن، ولا يُتَصوَّر فيها إلا كل أمر مَرْضيٍّ، وهي العقل، وقائده العدل.

والثانية ضدٌّ لها، لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الردى، وهي النفس، وقائدها الشهوة، والله تعالى يقول: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وكنَّى بالقلب عن العقل فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وقال تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ. وخاطب أولي الألباب.

فهاتان الطبيعتان قُطبان في الإنسان، وهما قُوتان من قُوى الجسد الفعَّال بهما، ومطرحان من مَطارح شُعاعات هذين الجوهرين العجيبين الرفيعين العُلويين؛ ففي كل جسد منهما حظُّه على قدر مُقابلته لهما في تقدير الواحد الصمد، تقدَّست أسماؤه، حين خَلَقه وهيَّأه، فهما يتقابلان أبدًا ويتنازعان دأبًا، فإذا غلب العقلُ النفسَ ارتدع الإنسان، وقمَع عوارضه المَدخولة واستضاء بنور الله واتبع العدل، وإذا غلبت النفسُ العقلَ عميت البصيرة، ولم يصحَّ الفرقُ بين الحسن والقبيح، وعَظُم الالتباس، وتردَّى في هُوَّة الرَّدى ومَهواة الهَلكة، وبهذا حَسُن الأمر والنهي، ووجب الاكتمال، وصحَّ الثواب والعقاب، واستُحق الجزاء. والروح واصل بين هاتين الطبيعتين، ومُوصِّل ما بينهما، وحامل الالتقاء بهما. وإن الوقوف عند حدِّ الطاعة لمعدوم إلا بطُول الرياضة، وصحة المعرفة، ونفاذ التمييز، ومع ذلك اجتناب التعرض للفِتَن ومُداخلة الناس جملة، والجلوس في البيوت، وبالحريِّ أن تقع السلامة المضمونة، أو يكون الرجل حَصورًا لا أرب له في النساء، ولا جارحة له تُعينه عليهن قديمًا. ووَرَد: من وُقي شرَّ لَقْلقه وقَبْقبه وَذبْذبه، فقد وُقي شَرَّ الدنيا بحذافيرها. واللقلق: اللسان، والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج.

ولقد أخبرني أبو حفص الكاتب — هو من ولد رَوح بن زِنباع الجذامي — أنه سمع بعض المُتَّسمين باسم الفقه من أهل الرواية المشاهير وقد سُئل عن هذا الحديث فقال: القبقب: البطيخ.

وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد، حدثنا وهب بن مَسرة ومحمد بن أبي دليم، عن محمد بن وضَّاح، عن يحيى بن يحيى، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله ﷺ قال في حديث طويل: مَن وقاه الله شرَّ اثنتين دخل الجنة. فسُئل عن ذلك فقال: ما بين لِحْيَيه وما بين رِجْلَيه.

وإني لأسمع كثيرًا ممن يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرِّجال دون النساء. فأُطيلُ العجب من ذلك، وإنَّ لي قولًا لا أحول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء، وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحُبِّ وطال ذلك ولم يكن ثَمَّ من مانعٍ إلا وقع في شَرَك الشيطان، واستهوتْه المعاصي، واستفزَّه الحرص، وتَغوَّله الطمع، وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنتْه، حتمًا مَقضيًّا، وحكمًا نافذًا لا محيد عنه البتة.

ولقد أخبرني ثقةٌ صدق من إخواني من أهل التَّمام في الفقه والكلام والمعرفة، وذو صلابة في دينه، أنه أحب جاريةً نبيلةً أديبةً ذات جمال بارع، قال: فعرضتُ لها فنفرتْ، ثم عرضتُ فأبتْ، فلم يزل الأمر يطول وحبُّها يزيد وهي لا تُطيع البتة، إلى أن حملني فرط حبي لها مع عَمَى الصِّبَى على أن نذرتُ أني متى نلتُ منها مرادي أن أتوب إلى الله توبةً صادقةً. قال: فما مَرَّت الأيام والليالي حتى أذعنت بعد شماس ونفار. فقلت له: أبا فلان، وفيتَ بعهدك؟ فقال: إي والله. فضحكتُ.

وذكرتُ بهذه الفَعلة ما لم يزل يُتداول في أسماعنا من أن في بلاد البربر التي تجاوز أندلسنا يتعهد الفاسق على أنه إذا قضى وطره ممن أراد أنْ يتوب إلى الله، فلا يُمنع من ذلك، ويُنكرون على من تعرَّض له بكلمة ويقولون له: أتحرم رجلًا مسلمًا التوبة؟

قال: ولعهدي بها تبكي وتقول: والله لقد بلَّغتني مبلغًا ما خَطَر قطُّ لي ببالٍ، ولا قدرتُ أن أجيب إليه أحدًا.

ولست أُبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجودًا، وأعوذ بالله أن أظن غير هذا، وإني رأيت الناس يَغلطون في معنى هذه الكلمة — أعني الصلاح — غلطًا بعيدًا. والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضُبطت انضبطت، وإذا قُطعت عنها الذرائع أمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضُبطت لم تَنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تُسَهِّل الفواحش تحيَّلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل، والصالح من الرجال من لا يُداخل أهل الفسوق، ولا يتعرَّض إلى المناظر الجالبة للأهواء، ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة التركيب، والفاسق من يعاشر أهل النقص، وينشُر بصره إلى الوجوه البديعة الصنعة، ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات، والصالحانِ من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تُحَرَّك، والفاسقانِ كالنار المشتعلة تحرق كل شيء.

وأما امرأة مهملة ورجل متعرض فقد هلكا وتلفا؛ ولهذا حُرِّم على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية، وقد جُعلت النظرة الأولى لك والأخرى عليك. وقد قال رسول الله ﷺ: من تأمل امرأة وهو صائم حتى يرى حَجم عظامها فقد أفطر. وإن فيما ورد من النهي عن الهوى بنصِّ التنزيل لشيئًا مقنعًا، وفي إيقاع هذه الكلمة — أعني الهوى — اسمًا على معانٍ، واشتقاقها عند العرب، وذلك دليل على ميل النفوس وهويِّها إلى هذه المقامات، وإن المتمسك عنها مُقارع لنفسه، مُحارب لها.

وشيء أصفه لك تراه عِيانًا، وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكانٍ تُحسُّ أن رجلًا يراها أو يسمع حسَّها إلا وأحدثت حركةً فاضلةً كانت عنها بمعزل، وأتت بكلام زائد كانت عنه في غُنية، مخالفَينِ لكلامها وحركتها قبل ذلك، ورأيت التهمُّم لمخارج لفظها وهيئة تقلُّبها لائحًا فيها ظاهرًا عليها لا خفاء به، والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء. وأما إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزح عند خُطور المرأة بالرجل، واجتياز الرجل بالمرأة؛ فهذا أشهر من الشمس في كل مكان، والله عز وجل يقول: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وقال تقدَّست أسماؤه: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ. فلولا علم الله عز وجل برقة إغماضهن في السعي لإيصال حُبهن إلى القلوب، ولُطف كيدهن في التحيُّل لاستجلاب الهوى، لما كشف الله عن هذا المعنى البعيد الغامض الذي ليس وراءه مرمًى، وهذا حد التعرُّض فكيف بما دونه!

ولقد اطلعت من سرِّ معتقد الرجال والنساء في هذا على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم أحسن قط بأحد ظنًّا في هذا الشأن، مع غَيرة شديدة رُكِّبت فيَّ.

وحدَّثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن أحمد، حدَّثنا أحمد، حدَّثنا محمد بن علي بن رفاعة، حدَّثنا علي بن عبد العزيز، حدَّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن شيوخه، أن رسول الله ﷺ قال: الغَيْرة من الإيمان. فلم أزل باحثًا عن أخبارهن، كاشفًا عن أسرارهن، وكن قد أنسنَ منِّي بكتمان، فكنَّ يُطْلِعنني على غوامض أمورهن. ولولا أن أكون مُنبِّهًا على عوراتٍ يُستعاذ بالله منها لأوردتُ من تنبههن في السرِّ ومكرهن فيه عجائب تُذهل الألباب.

وإني لأعرف هذا وأتقنه، ومع هذا يعلم الله — وكفى به عليمًا — أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة، نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجلَّ الأقسام أني ما حللت مِئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلتُ إلى يومي هذا، والله المحمود على ذلك، والمشكور فيما مضى، والمستعصَم فيما بقي.

حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري — وإنه لأفضل قاضٍ رأيتُه — عن محمد ابن إبراهيم الطليطلي، عن القاضي بمصر بكر بن العلاء في قول الله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أن لبعض المتقدمين فيه قولًا؛ وهو أن المسلم يكون مخبرًا عن نفسه بما أنعم الله تعالى به عليه من طاعة ربه التي هي من أعظم النعم، ولا سيما في المفترض على المسلمين اجتنابه واتباعه. وكان السبب فيما ذكرته أني كنت وقتَ تأجُّج نار الصبا وشِرَّة الحداثة وتمكُّنِ غَرارة الفُتوة مَقصورًا محظَّرًا عليَّ بين رُقباء ورقائب، فلما ملكتُ نفسي وعقلت صَحبتُ أبا علي الحسين بن علي الفاسي في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي شيخنا وأستاذي — رضي الله عنه — وكان أبو علي المذكور عاقلًا عاملًا عالمًا ممن تقدَّم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة، وأحسبه كان حصورًا لأنه لم تكن له امرأة قط، وما رأيت مثله جُملة عِلمًا وعملًا ودينًا وورعًا، فنفعني الله به كثيرًا، وعلمتُ موقع الإساءة وقبح المعاصي. ومات أبو علي — رحمه الله — في طريق الحج.

ولقد ضمني المبيت ليلةً في بعض الأزمان عند امرأة من بعض معارفي مشهورة بالصلاح والخير والحزم، ومعها جارية من بعض قراباتها من اللاتي قد ضمتها معي النشأة في الصبا، ثم غبت عنها أعوامًا كثيرةً، وكنت تركتها حين أعصرت، ووجدتُها قد جرى على وجهها ماءُ الشباب ففاض وانساب، وتفجَّرت عليها ينابيع الملاحة فترددت وتحيرت، وطلعتْ في سماء وجهها نجوم الحُسن فأشرقت وتوقَّدت، وانبعث في خدَّيها أزاهير الجمال فتمَّت واعتمت، فأتت كما أقول:

خَرِيدَةٌ صَاغَهَا الرَّحْمَنُ مِنْ نُورِ جَلَّتْ مَلَاحَتُهَا عَنْ كُلِّ تَقْدِيرِ

لَوْ جَاءَنِي عَمَلِي فِي حُسْنِ صُورَتِهَا يَوْمَ الحِسَابِ وَيَوْمَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ

لَكُنْتُ أَحْظَى عِبَادِ الله كُلِّهِمُ بِالجَنَّتَيْنِ وَقُرْبِ الخُرَّدِ الحُورِ

وكانت من أهل بيت صباحة، وقد ظهرت منها صورة تُعجز الوُصَّاف، وقد طَبَّق وصفُ شبابها قرطبة، فبتُّ عندها ثلاث ليالٍ متوالية، ولم تُحجب عنِّي على جاري العادة في التربية. فلعمري لقد كاد قلبي أن يصبوَ ويثوب إليه مَرفوض الهوى، ويعاوده منسيُّ الغزل. ولقد امتنعتُ بعد ذلك من دخول تلك الدار خوفًا على لُبي أن يزدهيه الاستحسان. ولقد كانت هي وجميع أهلها ممن لا تتعدَّى الأطماعُ إليهن، ولكن الشيطان غير مأمون الغوائل، وفي ذلك أقول:

لَا تُتْبِعِ النَّفْسَ الهَوَى وَدَعِ التَّعَرُّضَ لِلْمِحَنْ

إِبْلِيسُ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وَالعَيْنُ بَابٌ لِلْفِتَنْ

وأقول:

وَقَائِلٌ لِيَ هَذَا ظَنٌّ يَزِيدُكَ غَيًّا

فَقُلْتُ دَعْ عَنْكَ لَوْمِي أَلَيْسَ إِبْلِيسُ حَيًّا

وما أورد الله تعالى علينا من قصة يوسف بن يعقوب وداود بن إيشي — رُسُل الله عليهم السلام — إلا ليُعلِّمنا نُقصاننا وفاقتَنا إلى عِصمته، وأن بِنْيتنا مدخولة ضعيفة، فإذا كانا — صلى الله عليهما — وهما نبيَّان رسولان أبناء أنبياءَ رُسُلٍ ومن أهل بيت نبوة ورسالة، متكررَين في الحفظ، مغموسَين في الولاية، محفوفَين بالكلاءة، مؤيدَين بالعصمةِ، لا يُجعل للشيطان عليهما سبيل، ولا فُتح لوسواسه نحوهما طريق، وبلغا حيث نَصَّ الله عزَّ وجلَّ علينا في قرآنه المنزَّل بالجبلة الموكلة، والطبع البشريِّ، والخِلقة الأصيلة، لا بتعمد الخطيئة ولا القصد إليها؛ إذ النبيُّون مُبرَّءون من كل ما خالف طاعة الله عزَّ وجلَّ، لكنه استحسان طبيعي في النفس للصور، فمن ذا الذي يَصف نفسه بِملْكها ويتعاطى ضَبطَها إلا بحول الله وقُوته! وأول دم سُفك في الأرض فدمُ أحد ابنَي آدم على سبب المنافسة في النساء، ورسول الله ﷺ يقول: باعِدُوا بين أنفاس الرجال والنساء. وهذه امرأة من العرب تقول، وقد حبلت من ذي قرابة لها، حين سُئلت: ما ببطنك يا هند؟ فقالت: قُرب الوساد وطُول السواد. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:

لَا تَلُمْ مَنْ عَرَّضَ النَّفْسَ لِمَا لَيْسَ يُرْضِي غَيْرَهُ عِنْدَ المِحَنْ

لَا تُقرِّبْ عَرْفَجًا مِنْ لَهَبٍ وَمَتَى قَرَّبْتَهُ قَامَتْ دَخَنْ

لَا تُصَرِّفْ ثِقَةً فِي أَحَدٍ فَسَدَ النَّاسُ جَمِيعًا وَالزَّمَن

خُلِقَ النِّسْوَانُ لِلْفَحْلِ كَمَا خُلِقَ الفَحْلُ بِلَا شَكٍّ لَهُن

كُلُّ شَكْلٍ يَتَشَهَّى شَكْلَهُ لَا تَكُنْ عَنْ أَحَدٍ تَنْفِي الظِّنَن

صِفَةُ الصَّالِحِ مَنْ إِنْ صُنْتَهُ عَنْ قَبِيحٍ أَظْهَرَ الطَّوْعَ الحَسَنْ

وَسِوَاهُ مَنْ إذَا ثَقَّفْتَهُ أَعْمَلَ الحِيلَةَ فِي خَلْعِ الرَّسَنْ

وإني لأعلم فتًى من أهل الصيانة قد أُولع بهوًى له، فاجتاز بعضُ إخوانه فوجده قاعدًا مع مَن كان يُحب، فاستجلبه إلى منزله، فأجابه إلى منزله بامتثال المسير بعده، فمضى داعيه إلى منزله وانتظره حتى طال عليه التربُّص فلم يأتِه، فلما كان بعد ذلك اجتمع به داعيه فعدَّد عليه وأطال لَومه على إخلافه موعده، فاعتذر وورَّى. فقلت أنا للذي دعاه: أنا أكشف عُذره صحيحًا من كتاب الله عز وجل إذ يقول: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ، فضحِك مَن حضَر. وكُلِّفت أن أقول في ذلك شيئًا، فقلت:

وَجَرْحُكَ لِي جَرْحٌ جُبَارٌ فَلَا تَلُمْ وَلَكِنَّ جَرْحَ الحُبِّ غَيْرُ جُبَارِ

وَقَدْ صَارَت الخِيلَانُ وَسْطَ بَيَاضِهِ كَنَيْلُوفَرٍ حَفَّتْهُ رَوْضُ بَهَارِ

وَكَمْ قَالَ لِي مَنْ مِتُّ وَجْدًا بِحُبِّهِ مَقَالَةَ مَحْلُولِ المَقَالَةِ زَارِي

وَقَدْ كَثُرَتْ مِنِّي إِلَيْهِ مَطَالِبٌ أُلِحُّ عَلَيْهِ تَارَةً وَأُدَارِي

أَمَا فِي التَّدَانِي مَا يُبرِّدُ غُلَّةً وَيُذْهِبُ شَوْقًا فِي ضُلُوعِكَ سَارِي

فَقُلْتُ لَهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ عَدَاوَةُ جَارٍ فِي الأَنَامِ لِجَارِ

وَقَدْ يَتَرَاءَى العَسْكَرَانِ لَدَى الوَغَى وَبَيْنَهُمَا لِلْمَوْتِ سَيْلُ بَوَار

ولي كلمتان قلتُهما مُعرِّضًا بل مُصرِّحًا برجل من أصحابنا كنَّا نعرفه كلنا، من أهل الطلب والعناية والورع وقيام الليل واقتفاء آثار النُّسَّاك وسلوك مذاهب المتصوفين القدماء باحثًا مجتهدًا، وقد كنَّا نتجنَّب المزاح بحضرته، فلم يمضِ الزمنُ حتى مكَّن الشيطانَ من نفسه، وفتك بعد لباس النساك، وملك إبليس من خِطامه فسوَّل له الغرور، وزيَّن له الويل والثبور، وأجرَّه رَسَنه بعد إباء، وأعطاه ناصيته بعد شماس، فخَبَّ في طاعته وأوضع، واشتُهر بعد ما ذكرته في بعض المعاصي القبيحة الوضرة. ولقد أطلتُ ملامه، وتشدَّدت في عَذله؛ إذ أعلن بالمعصية بعد استتار، إلى أن أفسد ذلك ضميره عليَّ، وخبثتْ نيَّتُه لي، وتربص بي دوائر السوء. وكان بعض أصحابنا يساعده بالكلام استجرارًا إليه، فيأنس به ويُظهر له عداوتي، إلى أن أظهر الله سريرته، فعلمها البادي والحاضر، وسقط من عيون الناس كلِّهم بعد أن كان مقصدًا للعلماء، ومُنتابًا للفضلاء، ورَذَل عند إخوانه جملةً. أعاذنا الله من البلاء، وسترنا في كفايته، ولا سلبنا ما بنا من نعمته. فيا سَوأتاه لمن بدأ بالاستقامة ولم يعلم أن الخذلانَ يَحل به، وأن العصمة ستفارقه. لا إله إلا الله، ما أشنع هذا وأفظعه! لقد دهمته إحدى بنات الحرس، وألقت عصاها به أم طَبق؛ مَن كان لله أولًا ثم صار للشيطان آخرًا، ومن إحدى الكلمتين:

أَمَّا الغُلَامُ فَقَدْ حَانَتْ فَضِيحَتُهُ وَأَنَّهُ كَانَ مَسْتُورًا فَقَدْ هُتِكَا

مَا زَالَ يَضْحَكُ مِنْ أَهْلِ الهَوَى عَجَبًا فَالآنَ كُلُّ جَهُولٍ مِنْهُ قَدْ ضَحِكَا

إِلَيْكَ لَا تَلْحُ صَبًّا هَائِمًا كَلِفًا يَرَى التَّهَتُّكَ فِي دِينِ الهَوَى نُسُكا

ذُو مَخْبَرٍ وَكِتَابٍ لَا يُفَارِقُهُ نَحْوَ المُحَدِّثِ يَسْعَى حَيْثُمَا سَلَكَا

فَاعْتَاضَ مِنْ سُمْرِ أَقْلَامٍ بَنَانَ فَتًى كَأَنَّهُ مِنْ لُجَيْنٍ صِيْغ أَوْ سُبِكَا

يَا لَائِمِي سَفَهًا فِي ذَاكَ قِلَّ فَلَمْ تَشْهَدْ جَبِينَيْنِ يَوْمَ المُلْتَقَى اشْتَبَكَا

دَعْنِي وَوِرْدِيَ فِي الآبَارِ أَطْلُبُهُ إِلَيْكَ عَنِّي كَذَا لَا أَبْتَغِي البِرَكَا

إِذَا تَعَفَّفْتَ عَفَّ الحُبُّ عَنْكَ وَإِنْ تَرَكْتَ يَوْمًا فَإِنَّ الحُبَّ قَدْ تَرَكَا

وَلَا تَحُلَّ مِنَ الهجْرَانِ مُنْعَقِدًا إِلَّا إِذَا مَا حَلَلْتَ الأُزْرَ وَالتِّكَكَا

وَلَا تُصَحِّح لِلسُّلْطَانِ مَمْلَكَةً أَوْ تُدْخِل البَردَ عَنْ إِنْفَاذِهِ السِّكَكَا

وَلَا بِغَيْرِ كَثِيرِ المَسْحِ يَذْهَبُ مَا يَعْلُو الحَدِيدَ مِنَ الأَصْدَاءِ إِنْ سُبِكَا

وكان هذا المذكور من أصحابنا قد أحكم القراءات إحكامًا جيدًا، واختصر كتاب الأنباري في الوقف والابتداء اختصارًا حسنًا أُعجب به من رآه من المقرئين، وكان دائبًا على طلب الحديث وتقييده، والمتولي لقراءة ما يسمعه على الشيوخ المحدِّثين، مثابرًا على النسخ مجتهدًا به، فلما امتُحن بهذه البليَّة مع بعض الغِلمان رَفَض ما كان مُعتنيًا وباع أكثر كُتبه، واستحال استحالةً كليةً. نعوذ بالله من الخذلان. وقُلتُ فيه كلمةً، وهي التالية للكلمة التي ذكرت منها في أول خَبره ثم تركتها.

وقد ذكر أبو الحُسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الرويدي في كتاب اللفظ والإصلاح: أن إبراهيم بن سيَّار النظَّام رأس المعتزلة، مع علوِّ طبقته في الكلام وتمكُّنه وتحكُّمه في المعرفة، تسبَّب إلى ما حرم الله عليه من فتًى نصراني عشقه؛ بأن وضع له كتابًا في تفضيل التثليث على التوحيد. فيا غوثاه! عياذك يا رب من تولُّج الشيطان ووقوع الخذلان! وقد يعظم البلاء وتَكلب الشهوة ويهون القبيح ويرقُّ الدين حتى يرضى الإنسان في جنب وصوله إلى مراده بالقبائح والفضائح، كمثل ما دهم عُبيد الله بن يحيى الأزدي المعروف بابن الحريري؛ فإنه رضي بإهمال داره وإباحة حريمه والتعريض بأهله طمعًا في الحصول على بغيته من فتًى كان عَلِقه — نعوذ بالله من الضلال، ونسأله الحياطة وتحسين آثارنا وإطابة أخبارنا — حتى لقد صار المسكين حديثًا تَعمرُ به المحافل، وتصاغ فيه الأشعار، وهو الذي تسميه العرب الدَّيوث، وهو مشتق من التدييث، وهو التسهيل، وما بعد تسهيل من تَسمح نفسه بهذا الشأن تسهيل، ومنه بعير مديَّث؛ أي مذلل. ولعمري إن الغيرة لتُوجَد في الحيوان بالخِلْقة، فكيف وقد أكَّدتها عندنا الشريعة، وما بعد هذا مصاب. ولقد كنت أعرف هذا المذكور مَستورًا إلى أن استهواه الشيطان. ونعوذ بالله من الخِذلان. وفيه يقول عيسى بن محمد بن محمل الحولاني:

يَا جَاعِلًا إِخْرَاجَ حُرِّ نِسَائِهِ شَرَكًا لِصَيْدِ جَآذِرِ الغزْلَانِ

إِنِّي أَرَى شَرَكًا يُمَزَّقُ ثُمَّ لَا تَحْظَى بِغَيْرِ مَذَلَّةِ الحِرْمَانِ

وأقول أنا أيضًا:

أَبَاحَ أَبُو مَرْوَانَ حُرَّ نِسَائِهِ لِيَبْلُغَ مَا يَهْوَى مِنَ الرَّشَأ الفَرْدِ

فَعَاتَبْتُهُ الدَّيُّوثَ فِي قُبْحِ فِعْلِهِ فَأَنْشَدَنِي إِنْشَادَ مُسْتَبْصِرٍ جَلْدِ

لَقَدْ كُنْتُ أَدْرَكْتُ المُنَى غَيْرَ أَنَّنِي يُعَيِّرُنِي قَوْمِي بِإِدْرَاكِهَا وَحْدِي

وأقول أيضًا:

رَأَيْتُ الحزيرى فِيمَا يُعَانِي قَلِيلَ الرَّشَادِ كَثِيرَ السِّفَاهِ

يَبِيعُ وَيَبْتَاعُ عِرْضًا بِعِرْضٍ أُمُورٌ وَجَدِّكَ ذَاتُ اشْتِبَاهِ

وَيَأْخُذُ مِيمًا بِإِعْطَاءِ هَاءٍ أَلَا هَكَذَا فَلْيَكُنْ ذُو النَّوَاهِي

وَيُبْدِلُ أَرْضًا تُغَذِّي النَّبَاتَ بِأَرْضٍ تُحَفُّ بِشَوْكِ العِضَاهِ

لَقَدْ خَابَ فِي تَجْرِهِ ذُو ابتِيَاعٍ مَهَبَّ الرِّيَاحِ بِمَجْرَى المِيَاهِ

ولقد سمعته في المسجد الجامع يستعيذ بالله من العصمة كما يُستعاذ به من الخذلان.

ومما يُشبه هذا أني أذكر أني كنت في مجلس فيه إخوان لنا عند بعض مياسير أهل بلدنا، فرأيت بين بعض مَن حَضر وبين مَن كان بالحضرة أيضًا من أهل صاحب المجلس أمرًا أنكرتُه، وغَمزًا استبشعتُه، وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبَّهتُه بالتعريض فلم ينتبه، وحركته بالتصريح فلم يتحرك، فجعلت أكرر عليه بيتين قديمين لعله يَفطن، وهما هذان:

إِنَّ إِخْوَانَهُ المُقِيمِينَ بِالأَمـ ـسِ أَتَوْا لِلزِّنَاءِ لَا لِلْغِنَاءِ

قَطَعُوا أَمْرَهُمْ وَأَنْتَ حِمَارٌ مُوقَرٌ مِنْ بَلَادَةٍ وَغَبَاءِ

وأكثرت من إنشادهن حتى قال لي صاحبُ المجلس: قد أمللتنا من سماعهما، فتفضل بتركهما أو إنشاد غيرهما. فأمسكت وأنا لا أدري أغافل هو أم متغافل. وما أذكر أني عدت إلى ذلك المجلس بعدها، فقلت فيه قطعةً، منها:

أَنْتَ لَا شَكَّ أَحْسَنُ النَّاسِ ظَنًّا وَيَقِينًا وَنِيَّةً وَضَمِيرًا

فَانْتَبِهْ إِنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ بِالأَمْـ ـسِ جَلِيسًا لَنَا يُعَانِي كَبِيرًا

لَيْسِ كُلُّ الرُّكُوعِ — فَاعْلَمْ — صَلَاةً لَا وَلَا كُلُّ ذِي لِحَاظٍ بَصِيرًا

وحدَّثني ثعلب بن موسى الكلاذاني قال: حدثني سليمان بن أحمد الشاعر قال: حدثتني امرأة اسمها هند، كنت رأيتها في المشرق، وكانت قد حجَّت خمس حجات، وهي من المتعبِّدات المجتهدات. قال سليمان: فقالت لي: يا ابن أخي، لا تُحسن الظن بامرأةٍ قط؛ فإني أخبرك عن نفسي بما يعلمه الله عز وجل: ركبتُ البحر مُنصرفةً من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة خمس نِسوة، كلهن قد حَجَجْنَ، وصِرنا في مركب في بحر القلزم، وفي بعض مَلَّاحي السفينة رجل مضمر الخلق، مديد القامة، واسع الأكتاف، حسن التركيب، فرأيته أولَ ليلة قد أتى إلى إحدى صواحبي فوضع إحليله في يدها، وكان ضخمًا جدًّا، فأمكنتْه في الوقت من نفسها، ثم مرَّ عليهن كلهن في ليالٍ متواليات، فلم يبقَ له غيرها — تعني نفسها — قالت: فقلت في نفسي: لأنتقمن منك. فأخذتُ موسى وأمسكتها بيدي، فأتى في الليل على جاري عادته، فلما فعَل كفعله في سائر الليالي سقطت الموسى عليه، فارتاع وقام لينهض. قالت: فأشفقتُ عليه وقلتُ له وقد أمسكتُه: لا زُلتَ أو آخذ نصيبي منك. قالت العجوز: فقضى وطره وأستغفرُ الله.

وإن للشعراء من لطف التعريض عن الكناية لعجبًا، ومن بعض ذلك قولي حيث أقول:

أَتَانِي وَماءُ المُزْنِ فِي الجَوِّ يُسْفَكُ كَمَحْضِ لُجَينٍ إِذْ يُمَدُّ وَيُسْبكُ

هِلَال الدَّيَاجِي انْحَطَّ مِنْ جَوِّ أُفقِهِ فَقُلْ فِي مُحِبٍّ نَالَ مَا لَيْسَ يُدْرَكُ

وَكَانَ الَّذِي إِنْ كُنْتَ لِي عَنْهُ سَائِلًا فَمَا لِي جَوَابٌ غَيْرَ أَنِّيَ أَضْحَكُ

لِفَرْطِ سُرُورِي خِلْتُنِي عَنْهُ نَائِمًا فَيَا عَجَبًا مِنْ مُوقِنٍ يَتَشَكَّكُ

وأقول أيضًا قطعةً، منها:

أَتَيْتَنِي وَهِلَالُ الجَوِّ مُطَّلِعٌ قُبَيْلَ قَرْعِ النَّصَارَى لِلنَّوَاقِيسِ

كَحَاجِبِ الشَّيْخِ عَمَّ الشَّيْبُ أَكْثَرَهُ وَأَخْمَص الرِّجْلِ فِي لُطْفٍ وَتَقْوِيسِ

وَلَاحَ فِي الأُفْقِ قَوْسُ الله مُكْتَسِيًا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ كَأَذْنَابِ الطَّوَاوِيسِ

وإن فيما يبدو إلينا من تعادي المُتواصلين في غير ذات الله تعالى بعد الألفة، وتدابرهم بعد الوصال، وتقاطعهم بعد المودة، وتباغضهم بعد المحبة، واستحكام الضغائن، وتأكد السخائم في صدورهم؛ لكاشفًا ناهيًا لو صادف عُقولًا سليمة، وآراءً نافذة، وعزائمَ صحيحة. فكيف بما أعد الله لمن عصاه من النَّكال الشديد يوم الحساب وفي دار الجزاء، ومن الكشف على رءوس الخلائق يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ. جعلنا الله ممَّن يفوز برضاه، ويستحقُّ رحمته.

ولقد رأيتُ امرأة كانت مودتها في غير ذات الله عزَّ وجلَّ، فعهِدتُها أصفى من الماء، وألطف من الهواء، وأثبت من الجبال، وأقوى من الحديد، وأشد امتزاجًا من اللون في الملون، وأنفذ استحكامًا من الأعراض في الأجسام، وأضوأ من الشمس، وأصح من العيان، وأثقب من النجم، وأصدق من كدر القطا، وأعجب من الدهر، وأحسن من البر، وأجمل من وجه أبي عامر، وألذ من العافية، وأحلى من المُنى، وأدنى من النفس، وأقرب من النسب، وأرسخ من النقش في الحجر، ثم لم ألبث أن رأيت تلك المودة قد استحالت عداوة أفظع من الموت، وأنفذ من السهم، وأمر من السقم، وأوحش من زوال النعم، وأقبح من حلول النقم، وأمضى من عقم الرياح، وأضر من الحمق، وأدهى من غلبة العدو، وأشد من الأسر، وأقسى من الصخر، وأبغض من كشف الأستار، وأنأى من الجوزاء، وأصعب من معاناة السماء، وأكبر من رؤية المصاب، وأشنع من خرق العادات، وأقطع من فجأة البلاء، وأبشع من السم الزعاف، وما لا يتولد مثله عن الذحول والترات، وقتل الآباء وسبي الأمهات. وتلك عادة الله في أهل الفسق القاصدين سواه، الآمِّين غيره، وذلك قوله عز وجل: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي.

فيجب على اللبيب الاستجارة بالله مما يُورط فيه الهوى؛ فهذا خلفٌ مولى يوسف بن قمقام القائد المشهور، كان أحد القائمين مع هشام بن سليمان بن الناصر، فلما أُسر هشام وقُتل وهرب الذين وازروه، فَرَّ خلفٌ في جُملتهم ونجا، فلما أتى القسطلات لم يُطق الصبر عن جارية كانت له بقرطبة فكرَّ راجعًا، فظفر به أمير المؤمنين المهدي، فأمر بصلبه. فلعهدي به مصلوبًا في المرج على النهر الأعظم وكأنه القُنفذ من النبل.

ولقد أخبرني أبو بكر محمد بن الوزير عبد الرحمن بن اللَّيث — رحمه الله — أن سبب هروبه إلى محلة البرابر أيام تحوُّلهم مع سليمان الظافر إنما كان لجارية يكلَف بها تصيَّرت عند بعض من كان في تلك الناحية، ولقد كاد أن يتلف في تلك السفرة.

وهذان الفصلان وإن لم يكونا من جنس الباب فإنهما شاهدان على ما يقود إليه الهوى من الهلاك الحاضر الظاهر، الذي يستوي في فهمه العالم والجاهل، فكيف من العِصمة التي لا يفهمها من ضَعُفت بصيرته! ولا يقولن امرؤ: خلوت؛ فهو وإن انفرد فبمرأًى ومسمعٍ من علَّام الغيوب؛ الذي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، ويَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، ومَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وهو عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ويَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ، وقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.

وليعلم المُستخفُّ بالمعاصي، المُتَّكلُ على التسويف، المُعرِض عن طاعة ربه، أن إبليس كان في الجنة مع الملائكة المقرَّبين، فلمعصيةٍ واحدةٍ وقعتْ منه استحقَّ لعنة الأبد وعذاب الخلد، وصُيِّر شيطانًا رجيمًا، وأُبعد عن رفيع المكان. وهذا آدم ﷺ بذنبٍ واحدٍ أُخرج من الجنة إلى شقاء الدنيا ونَكدها، ولولا أنه تلقى من ربه كلماتٍ وتاب عليه لكان من الهالكين. أفترى هذا المُغتر بالله رَبِّه وبإملائه ليزداد إثمًا يظُنُّ أنه أكرم على خالقه من أبيه آدم الذي خلقه بيده، ونَفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته الذين هم أفضل خلقه عنده؟ أو عقابه أعز عليه من عقوبته إياه؟ كلا، ولكن استعذاب التمني، واستيطاء مركب العجز، وسخف الرأي قائدةٌ أصحابَها إلى الوبال والخزي، ولو لم يكن عند ركوب المعصية زاجر من نهي الله تعالى، ولا حامٍ من غليظ عقابه؛ لكان في قَبيح الأحدوثة عن صاحبه، وعظيم الظلم الواقع في نفس فاعله، أعظم مانع، وأشد رادع لمن نظر بعين الحقيقة، واتَّبع سبيل الرشد، فكيف والله عز وجل يقول: وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا.

حدثنا الهمداني في مسجد القمري بالجانب الغربي من قرطبة سنة إحدى وأربعمائة، حدثنا ابن سبويه وأبو إسحاق البلخي بخراسان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، قالا: ثنا محمد بن يوسف: ثنا محمد بن إسماعيل: ثنا قتيبة بن سعيد: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله — وهو ابن مسعود: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تَدْعُوَ لله ندًّا وهو خَلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تَقتل ولدك أن يُطعَم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزانيَ حليلة جارك. فأنزل الله تصديقها: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ، وقال عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ.

حدثنا الهمداني، عن أبي إسحاق البلخي وابن سبويه، عن محمد بن يوسف، عن محمد بن إسماعيل، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن المسيب المخزوميين، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أن رسول الله ﷺ قال: «لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن.» وبالسند المذكور إلى محمد بن إسماعيل، عن يحيى بن بُكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد بن المُسيب، عن أبي هريرة قال: أتى رجل إلى رسول الله ﷺ وهو في المسجد فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه، ثم رد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي ﷺ فقال: أَبِكَ جنون؟ قال: لا. قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال النبي ﷺ: اذهبوا به فارجموه.

قال ابنُ شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة هرَب، فأدركناه بالحرَّة فرجمناه.

 

حدثنا أبو سعيد مولى الحاجب جعفر في المسجد الجامع بقرطبة، عن أبي بكر المقرئ، عن أبي جعفر النحاس، عن سعيد بن بشر، عن عمرو بن رافع، عن منصور، عن الحسن، عن حطَّان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «خُذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.» فيا لشُنعة ذنبٍ أنزل الله وحيه مُبينًا بالتشهير بصاحبه، والعنف بفاعله، والتشديد لمقترفه! وتشدَّد في ألَّا يُرجم إلا بحضرة أوليائه عقوبةَ رجمه. وقد أجمع المسلمون إجماعًا لا يَنقضه إلا مُلحد أن الزانيَ المُحصن عليه الرجم حتى يموت.

فيا لها قتلة ما أهولَها! وعقوبة ما أفظعها، وأشد عذابها وأبعدها من الإراحة وسرعة الموت!

وطوائف من أهل العلم منهم الحسن بن أبي الحسن، وابن راهويه، وداود وأصحابه يرَوْن عليه مع الرجم جلد مائة، ويحتجُّون عليه بنص القرآن وثبات السنة عن رسول الله ﷺ، وبفعل عليٍّ — رضي الله عنه — بأنه رَجم امرأة محصنة في الزنا بعد أن جلدها مائة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتُها بسنة رسول الله. والقول بذلك لازم لأصحاب الشافعي؛ لأن زيادة العدل في الحديث مَقبولة، وقد صح في إجماع الأمة المنقول بالكافة الذي يَصحبه العمل عند كل فرقة، وفي أهل كل نحلة من نحل أهل القبلة، حاشا طائفة يسيرة من الخوارج لا يُعتدُّ بهم، أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بكفرٍ بعد إيمان، أو نفسٍ بنفس، أو بمحاربةٍ لله ورسوله يُشهر فيها سيفه، ويسعى في الأرض فسادًا مقبِلًا غير مدبِر، وبالزنا بعد الإحصان.

فإن حد ما جعل الله مع الكفر بالله عز وجل ومحاربته، وقَطع حُجته في الأرض ومُنابذته دينه لجُرم كبير ومَعصية شنعاء، والله تعالى يقول: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، والَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ. وإن كان أهلُ العلم اختلفوا في تسميتها، فكلهم مُجمعٌ — مهما اختلفوا فيه منها — أن الزنا يقدم فيها، لا اختلاف بينهم في ذلك، ولم يُوعد الله عز وجل في كتابه بالنار بعد الشرك إلا في سبع ذُنوب؛ وهي الكبائر: الزنا أحدها، وقذف المحصنات أيضًا منها، منصوصًا ذلك كله في كتاب الله عز وجل.

وقد ذكرنا أنه لا يجب القتل على أحدٍ من ولد آدم إلا في الذنوب الأربعة التي تقدم ذكرها. فأما الكفر منها، فإنْ عاد صاحبه إلى الإسلام، أو بالذمَّة إن لم يكن مرتدًّا قُبل منه، ودُرئ عنه الموت. وأما القتل، فإن قَبل الوليُّ الديةَ في قول بعض الفقهاء، أو عفا في قول جميعهم، سَقط عن القاتل القتل بالقصاص. وأما الفساد في الأرض، فإن تاب صاحبه قبل أن يُقدر عليه هُدر عنه القتل، ولا سبيل في قول أحدٍ مُؤَالِف أو مُخالِف في ترك رَجم المُحصن، ولا وجه لرفع الموت عنه البتة.

ومما يدل على شُنعة الزنا ما حدَّثنا القاضي أبو عبد الرحمن: ثنا القاضي أبو عيسى، عن عبيد الله بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، عن الليث، عن الزهري، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عبيد بن عمير: أن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — أصاب في زمانه ناسًا من هُذيل، فخرجت جارية منهم فأتبعها رجل يُريدها عن نفسها، فرمتْه بحجر فقضت كبده، فقال عمر: هذا قتيل الله، والله لا يودى أبدًا.

وما جعل الله عز وجل فيه أربعةَ شهود، وفي كل حكم شاهدين إلا حياطةً منه ألَّا تَشيع الفاحشة في عباده، لعظمها وشُنعتها وقبحها، وكيف لا تكون شنيعةً ومن قذف بها أخاه المُسلم أو أخته المسلمة دون صحة عِلم أو تيقُّن معرفة، فقد أتى كبيرة من الكبائر استحق عليها النار غدًا، ووجب عليه بنص التنزيل أن تُضرب بشرته ثمانين سوطًا!

ومالِك — رضي الله عنه — يرى ألَّا يُؤخذ في شيء من الأشياء حد بالتعريض دون التصريح إلا في قذف.

وبالسند المذكور عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أمه عَمرة بنت عبد الرحمن، عن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — أنه أمر أن يُجلد الرجلُ قال لآخر: ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية.

في حديث طويل، وبإجماعٍ من الأمة كلها دون خلاف من أحد نعلمه، أنه إذا قال رجل لآخر: يا كافر، أو يا قاتل النفس التي حرم الله، لما وجب عليه حد؛ احتياطًا من الله عز وجل إلا بثبت هذه العظيمة في مسلم ولا مسلمة.

ومن قول مالك — رحمه الله — أيضًا أنه لا حد في الإسلام إلا والقتل يغني عنه وينسخه إلا حد القذف؛ فإنه إن وجب على مَن قد وجب عليه القتل حُدَّ ثم قتل، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، ورُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الغَضب واللعنة المذكوران في اللِّعان، إنهما مُوجبتان.»

حدثنا الهمداني، عن أبي إسحاق، عن محمد بن يوسف، عن محمد بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن عبد الله، قال: ثنا سليمان، عن ثور بن يزيد، عن أبي الغيث، عن أبي هُريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: «اجتنبوا السَّبع المُوبقات.» قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.»

وإن في الزنا من إباحة الحريم، وإفساد النسل، والتفريق بين الأزواج الذي عظَّم الله أمره، ما لا يهون على ذي عقل، أو من له أقل خَلاق، ولولا مكان هذا العُنصر من الإنسان، وأنه غير مأمون الغلبة لما خفَّف الله عن البِكْرين وشدد على المحصنين. وهذا عندنا وفي جميع الشرائع القديمة النازلة من عند الله عز وجل حُكمًا باقيًا لم يُنسخ ولا أُزيل، فيترك الناظر لعباده الذي لم يَشغله عظيم ما في خَلقه، ولا يحيف قدرته كبير ما في عوالمه عن النظر لحقير ما فيها، فهو كما قال عز وجل: الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وقال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وقال: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ.

وإن أعظم ما يأتي به العبد هَتْك ستر الله عز وجل في عباده، وقد جاء في حكم أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — في ضربه الرجلَ الذي ضَمَّ صبيًّا حتى أمنَى ضربًا كان سببًا للمنيَّة، ومن إعجاب مالك — رحمه الله — باجتهاد الأمير الذي ضرب صبيًّا مكَّن رجلًا من تَقبيله حتى أمنَى الرجل، ضربه إلى أن مات، ما يُنسي شدة دواعي هذا الشأن وأسبابه. والتزيُّد في الاجتهاد، وإن كنا لا نراه، فهو قول كثيرٍ من العلماء يتبعه على ذلك عالَم من الناس. وأما الذي نذهب إليه فالذي حدَّثناه الهمداني، عن البلخي، عن البخاري، عن الفربري، عن البخاري قال: ثنا يحيى بن سليمان: ثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو أن بكيرًا حدثه عن سليمان بن يسار، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، عن أبي بردة الأنصاري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حَدٍّ من حدود الله عز وجل.»

وبه يقول أبو جعفر محمد بن علي النسائي الشافعي — رحمه الله.

وأما فعل قوم لوطٍ فشنيعٌ بشيع، قال الله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ وقد قذَف الله فاعليه بحجارة من طين مسوَّمة، ومالك — رحمه الله — يَرى على الفاعل والمَفعول به الرَّجم، أحصنا أم لم يُحصنا، واحتج بعض المالكيين في ذلك بأن الله عز وجل يقول في رجمه فاعليه بالحجارة: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ، فوجب بهذا أنه من ظَلم الآن بمثل فعلهم قربت منه.

والخلاف في هذه المسألة ليس هذا موضعه. وقد ذكر أبو إسحاق إبراهيم بن السري، أن أبا بكر — رضي الله عنه — أحرق فيه بالنار، وذكر أبو عبيدة مَعْمَر بن المُثنَّى اسم المحرَق فقال: هو شجاع بن ورقاء الأسدي، أحرقه بالنار أبو بكر الصديق لأنه يُؤتَى في دُبره كما تؤتى المرأة.

وإن عن المعاصي لمذاهب للعقل واسعة، فما حرَّم الله شيئًا إلا وقد عوض عباده من الحلال ما هو أحسن من المحرَّم وأفضل. لا إله إلا هو.

وأقول في النهي عن اتباع الهوى على سبيل الوعظ:

أَقُولُ لِنَفْسِي مَا مُبِينٌ كَحَالِكٍ وَمَا النَّاسُ إِلَّا هَالِكٌ وَابْنُ هَالِكِ

صُنِ النَّفْسَ عَمَّا عَابَهَا وَارْفُضِ الهَوَى فَإِنَّ الهَوَى مِفْتَاحُ بَابِ المَهَالِكِ

رَأَيْتُ الهَوَى سَهْلَ المَبَادِي لَذِيذَهَا وَعُقْبَاهُ مُر الطَّعْمِ، ضَنْك المَسَالِكِ

فَمَا لَذَّةُ الإِنْسَانِ وَالمَوْتُ بَعْدَهَا وَلَوْ عَاشَ ضِعْفَي عُمْر نُوح بنِ لَامَك

فَلَا تَتَّبِعْ دَارًا قَلِيلًا لِبَاثُهَا فَقَدْ أَنْذَرَتْنَا بِالفَنَاءِ المُوَاشِكِ

وَمَا تَرْكُهَا إِلَّا إِذَا هِيَ أَمْكَنَتْ وَكَمْ تَارِكٍ إِضْمَاره غَيْر تَارِكِ

فَمَا تَارِكُ الآمَالِ عُجْبًا جُؤَاذِرًا كَتَارِكِهَا ذَات الضُّرُوعِ الحَوَاشِكِ

وَمَا قَابَلَ الأَمْرَ الَّذِي كَانَ رَاغِبًا بِشَهْوَةِ مُشْتَاقٍ وَعَقْلٍ مُبَارَكِ

لَأَجْدَى عِبَادِ اللهِ بِالفَوْزِ عِنْدَهُ لَدَى جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ فَوْقَ الأَرَائِكِ

وَمَنْ عَرَفَ الأَمْرَ الَّذِي هُوَ طَالِبٌ رَأَى سَبَبًا مَا فِي يَدَيْ كُلِّ مَالِكِ

وَمَنْ عَرَفَ الرَّحْمَنَ لَمْ يَعْصِ أَمْرَهُ وَلَوْ أَنَّهُ يُعْطَى جَمِيعَ المَمَالِكِ

سَبِيلُ التُّقَى وَالنُّسكِ خَيْرُ المَسَالِكِ وَسَالِكُهَا مُسْتَبْصِرٌ خَيْرُ سَالِكِ

فَمَا فَقَدَ التَّنْغِيص منْ عَاج دُونَهَا وَلَا طَابَ عَيْشٌ لِامْرِئٍ غَيْرِ سَالِكِ

وَطُوبَى لَأَقْوَامٍ يَؤُمُّونَ نَحْوَهَا بِخِفَّةِ أَرْوَاحٍ وَلِينِ عَرَائِكِ

لَقَدْ فَقَدُوا غِلَّ النُّفُوسِ وفُضِّلُوا بِعِزِّ سَلَاطِين وَأَمْنِ صَعَالِكِ

فَعَاشُوا كَمَا شَاءُوا وَمَاتُوا كَمَا اشْتَهَوْا وَفَازُوا بِدَارِ الخُلْدِ رَحب المَبارِكِ

عَصوا طَاعَةَ الأَجْسَادِ فِي كُلِّ لَذَّةٍ بِنُورٍ محلٍّ ظُلْمَةَ الغَيِّ هَاتِكِ

فَلَوْلَا اعْتِدَادُ الجِسْمِ أَيْقَنْتَ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ عَيْشًا مِثْلَ عَيْشِ المَلَائِكِ

فَيَا رَبُّ قَدِّمْهُمْ وَزِدْ فِي صَلَاحِهِمْ وَصَلِّ عَلَيْهِم حَيْثُ حَلُّوا وَبَارِكِ

وَيَا نَفْسُ جِدِّي لَا تَمَلِّي وَشَمِّرِي لِنَيْلِ سُرُورِ الدَّهْرِ فِيمَا هُنَالِكِ

وَأَنْتِ مَتَى دَمَّرْتِ سَعْيَكِ فِي الهَوَى عَلِمْتِ بِأَنَّ الحَقَّ لَيْسَ كَذَلِكِ

فَقَدْ بَيَّنَ الله الشَّرِيعَةَ لِلْوَرَى بِأَبْيَنَ مِنْ زُهْرِ النُّجُومِ الشَّوَابِكِ

فَيَا نَفْسُ جِدِّي فِي خَلَاصِكِ وَانْفُذِي نَفَاذَ السُّيُوفِ المُرْهَفَاتِ البَوَاتِكِ

فَلَوْ أَعْمَلَ النَّاسُ التَّفَكُّرَ فِي الَّذِي لَهُ خُلِقُوا مَا كَانَ حَيٌّ بِضَاحِكِ

باب فضل التعفف

ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حُبِّه التعفُّفُ وتركُ ركوب المعصية والفاحشة، وألَّا يرغب عن مُجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألَّا يعصيَ مولاه المتفضل عليه الذي جعله مكانًا وأهلًا لأمره ونهيه، وأرسل إليه رسله، وجعل كلامه ثابتًا لديه، عنايةً منه بنا وإحسانًا إلينا. وإن من هام قلبُه وشُغل باله واشتد شوقه وعظُم وَجْده، ثم ظفر فرام هواه أن يغلب عقله وشهوته، وأن يقهر دينه.

ثم أقام العدل لنفسه حصنًا، وعلم أنها النفس الأمارة بالسوء، وذكَّرها بعقاب الله تعالى، وفكَّر في اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذَّرها من يوم المعاد والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذي لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مُدافع بحضرة علَّام الغيوب يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، يوم وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، يوم وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، يوم الطامة الكبرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى، واليوم الذي قال الله تعالى فيه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. عندها يقول العاصي: يا ويلَتى! مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فكيف بمن طُوي قلبه على أحرَّ مِن جَمر الغضى، وطُوي كشْحُه على أحدَّ مِن السيف، وتجرَّع غصصًا أمَرَّ من الحنظل، وصرف نفسه كرهًا عما طمعت فيه، وتيقَّنت ببلوغه وتهيَّأت له ولم يَحُلْ دونها حائل، لحريٌّ أن يُسرَّ غدًا يوم البعث، ويكون من المقربين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأنْ يأمنَ رَوعات القيامة وهَول المَطلع، وأن يُعوِّضه الله من هذه القَرحة الأمنَ يوم الحشر.

حدَّثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب قال: رأيت شابًّا حَسن الوجه من أهل قُرطبة قد تعبَّد ورَفض الدنيا، وكان له أخ في الله قد سقطت بينهما مَئونة التحفُّظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده، فعرضت لصاحب المنزل حاجة إلى بعض معارفه بالبُعد عن منزله، فنهض لها على أن ينصرف مُسرعًا، ونزل الشاب في داره مع امرأته، وكانت غايةً في الحسن وتِربًا للضيف في الصِّبا، فأطال رب المنزل المقام إلى أن مشى العَسس ولم يُمكنه الانصراف إلى منزله، فلما علمت المرأة بَفوات الوقت، وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة، تاقت نفسها إلى ذلك الفتى، فبرزت إليه ودَعتْهُ إلى نفسها، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل، فهمَّ بها ثم ثاب إليه عقلُه وفكَّر في الله عز وجل، فوضع إصبعه على السراج فتفقَّع، ثم قال: يا نفس، ذوقي هذا، وأين هذا من نار جهنم؟ فهال المرأة ما رأت، ثم عاودَتْه فعاودَتْه الشهوة المركَّبة في الإنسان، فعاد إلى الفعلة الأولى، فانبلج الصباح وسبَّابته قد اصطلمتها النار.

أفتظن بلغ هذا من نفسه هذا المبلغ إلا لفَرط شهوةٍ قد كلبت عليه؟ أو ترى أن الله تعالى يُضيِّع له المقام؟ كلا، إنه لأكرم من ذلك وأعلم.

ولقد حدَّثتني امرأة أثق بها أنها عَلِقها فتًى مثلها في الحُسن وعَلِقته، وشاع القولُ عليهما، فاجتمعا يومًا خاليَين، فقال: هلمي نحقق ما يقال فينا. فقالت: لا والله، لا كان هذا أبدًا. وأنا أقرأ قول الله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. قالت: فما مَضى قليل حتى اجتمعا في حلال.

ولقد حدَّثني ثقة من إخواني أنه خلا يومًا بجاريةٍ كانت له مفارِكة في الصِّبا، فتعرضت لبعض تلك المعاني، فقال لها: كلا، إن من شُكر نعمة الله فيما مَنحني من وصالك الذي كان أقصى آمالي أن أجتنب هواي لأمره. ولعَمْري، إن هذا لغريب فيما خلا من الأزمان، فكيف في مثل هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره!

وما أقدر في هذه الأخبار — وهي صحيحة — إلا أحد وجهين لا شك فيهما: إما طبع قد مال إلى غير هذا الشأن، واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه؛ فهو لا يُجيب دواعيَ الغزل في كلمةٍ ولا كلمتين، ولا في يومٍ ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لجادت طباعُهم، وأجابوا هاتف الفِتنة، ولكن الله عصمهم بانقطاع السبب المُحرك؛ نظرًا لهم وعلمًا بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد. لا إله إلا هو.

وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد انقمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخيرٍ أراد الله عز وجل لصاحبه. جعلنا الله ممن يخافه ويرجوه. آمين.

وحدَّثني أبو عبد الله محمد بن عمرو بن مضاء، عن رجالٍ من بني مروان ثقات يَسندون الحديث إلى أبي العباس الوليد بن غانم، أنه ذكر أن الإمام عبد الرحمن بن الحكم غاب في بعض غزواته شهورًا، وثقَّف القصر بابنه محمد الذي ولي الخلافة بعده، ورتَّبه في السطح، وجعل مَبيته ليلًا وقعوده نهارًا فيه، ولم يأذن له في الخروج البتة، ورتَّب معه في كل ليلةٍ وزيرًا من الوزراء وفتًى من أكابر الفتيان يبيتان معه في السطح. قال أبو العباس: فأقام على ذلك مدةً طويلة، وبعُد عهده بأهله وهو في سن العشرين أو نحوها، إلى أن وافق مَبيتي في ليلتي نوبةَ فتًى من أكابر الفتيان، وكان صغيرًا في سنه وغايةً في حسن وجهه. قال أبو العباس: فقلت في نفسي: إني أخشى الليلة على محمد بن عبد الرحمن الهلاك بمُواقعة المعصية، وتَزيين إبليس وأتباعه له. قال: ثم أخذت مضجعي في السطح الخارج ومحمد في السطح الداخل المُطل على حرم أمير المؤمنين، والفتى في الطرف الثاني القريب من المطلع، فظلِلْتُ أرقبه ولا أغفل، وهو يظن أني قد نِمْتُ ولا يشعر باطلاعي عليه. قال: فلما مضى هزيع من الليل رأيتُه قد قام واستوى قاعدًا ساعةً لطيفة، ثم تعوَّذ من الشيطان ورجع إلى منامه، ثم قام بعد حين ولَبِس قميصه واستوفز، ثم نَزعه عن نفسه وعاد إلى منامه، ثم قام الثالثة ولبس قميصه ودلَّى رجليه من السرير، وبقي كذلك ساعة، ثم نادى الفتى باسمه فأجابه، فقال له: انزل عن السطح وابقَ في الفصيل الذي تحته. فقام الفتى مؤتمرًا له، فلما نزل قام محمد وأغلق الباب من داخله وعاد إلى سريره. قال أبو العباس: فعلمت من ذلك الوقت أن لله فيه مرادَ خير.

حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، عن أحمد بن مطرف، عن عبيد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك، عن حبيب بن عبد الرحمن الأنصاري، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبُه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.»

وإني أذكر أني دُعيت إلى مجلسٍ فيه بعض من تَستحسن الأبصارُ صورتَه، وتألف القلوب أخلاقه للحديث والمجالسة دون منكرٍ ولا مكروه، فسارعت إليه، وكان هذا سَحَرًا، فبعد أن صليت الصبح وأخذت زيِّي طَرقني فكرٌ فسَنَحتْ لي أبياتٌ، ومعي رجل من إخواني فقال لي: ما هذا الإطراق؟ فلم أُجِبْه حتى أكملتها، ثم كتبتها ودفعتها إليه، وأمسكت عن المسير حيث كنتُ نويتُ. ومن الأبيات:

أَرَاقَكَ حُسْنٌ غَيْبُهُ لَكَ تَأْرِيقُ وَتَبْرِيدُ وَصْلٍ سرُّهُ فِيكَ تَحْرِيقُ

وَقُرْب مَزَارٍ يَقْتَضِي لَكَ فُرْقَةً وَشِيكًا وَلَوْلَا القُرْبُ لَمْ يَكُ تَفْرِيقُ

وَلَذَّةُ طَعْمٍ مُعْقِبٍ لَكَ عَلْقَمًا وَصَابًا وَفَسْحٌ فِي تَضَاعِيفِهِ ضِيقُ

ولو لم يكن جزاء ولا عقاب ولا ثواب لوجب علينا إفناء الأعمار، وإتعاب الأبدان، وإجهاد الطاقة، واستنفاد الوسع، واستفراغ القوة في شكر الخالق الذي ابتدأنا بالنعم قبل استئهالها، وامتنَّ علينا بالعقل الذي به عرَفناه، ووهبَنا الحواسَّ والعلم والمعرفة ودقائق الصناعات، وصرف لنا السموات جارية بمنافعها، ودبرنا التدبير الذي لو ملكنا خلقنا لم نَهتدِ إليه، ولا نظرنا لأنفسنا نظره لنا، وفضَّلَنا على أكثر المخلوقات، وجعلَنا مستودع كلامه ومستقر دينه، وخلق لنا الجنة دون أن نستحقها، ثم لم يرضَ لعباده أن يدخلوها إلا بأعمالهم لتكون واجبةً لهم، قال الله تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ورشدَنا إلى سبيلها، وبَصَّرنا وجه ظِلِّها، وجعل غاية إحسانه إلينا وامتنانه علينا حقًّا من حقوقنا قبله، ودينًا لازمًا له، وشكرَنا على ما أعطانا من الطاعة التي رزقنا قواها، وأثابنا بفضله على تفضُّله.

هذا كرم لا تهتدي إليه العقول، ولا يمكن أن تُكيِّفَه الألباب. ومن عرف ربَّه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذات الذاهبة والحطام الفاني، فكيف وقد أتى من وعيده ما تقشعرُّ لسماعه الأجساد، وتذوب له النفوس، وأورد علينا من عذابه ما لم يَنتهِ إليه أمل! فأين المذهب عن طاعة هذا المَلِك الكريم! وما الرغبة في لذة ذاهبة لا تذهب الندامة عنها، ولا تفنى التباعة منها، ولا يزول الخزي عن راكبها! وإلى كم هذا التمادي وقد أسمعنا المنادي، وكأن قد حدَا بنا الحادي إلى دار القرار، فإما إلى جنة وإما إلى نار! ألا إن التثبط في هذا المكان لهو الضلال المُبين. وفي ذلك أقول:

أَقْصَرَ عَنْ لَهْوِهِ وَعَنْ طَرَبِه وَعَفَّ فِي حُبِّهِ وَفِي عُرَبِه

فَلَيْسَ شُرْبُ المُدَامِ هِمَّتَهُ وَلَا اقْتِنَاصُ الظِّبَاءِ مِنْ أَرَبِه

قَدْ آنَ لِلْقَلْبِ أَنْ يُفِيقَ وَأَنْ يُزِيلَ مَا قَدْ عَلَاهُ مِنْ حُجبِه

أَلْهَاهُ عَمَّا عَهِدْتُ يُعْجِبُه خِيفَةُ يَوْم تُبْلَى السَّرَائِرُ بِه

يَا نَفْسُ جِدِّي وَشَمِّرِي وَدَعِي عَنْكِ اتِّبَاعَ الهَوَى عَلَى لَغَبِه

وَسَارِعِي فِي النَّجَاةِ وَاجْتَهِدِي سَاعِيَةً فِي الخَلَاصِ مِنْ كُرَبِه

عَلِّيَ أَحْظَى بِالفَوْزِ فِيهِ وَأَنْ أَنْجُوَ مِنْ ضِيقِهِ وَمِنْ لَهَبِه

يَا أَيُّهَا اللَّاعِبُ المُجد بِهِ الدَّ هْرُ أَمَا تَتَّقِي شَبَا نكبِه

كَفَاكَ مِنْ كُلِّ مَا وُعِظْتَ بِه مَا قَدْ أَرَاكَ الزَّمَانُ مِنْ عَجَبِه

دَعْ عَنْكَ دَارًا تَفْنَى غَضَارَتُهَا وَمَكْسبًا لَاعِبًا بِمُكْتَسبِه

لَمْ يَضْطَرِبْ فِي مَحَلِّهَا أَحَدٌ إِلَّا نَبَا حَدُّهَا بِمُضْطَربِه

مَنْ عَرَفَ الله حَقَّ مَعْرِفَةٍ لَوَى وَحَلَّ الفُؤَاد فِي رَهَبِه

مَا مُنْقضِي المُلْكِ مِثْل خِالِدِهِ وَلَا صَحِيحُ التُّقَى كَمُؤْتَشِبِه

وَلَا تَقِيُّ الوَرَى كَفَاسِقِهِمْ وَلَيْسَ صِدْقُ الكَلَامِ مِنْ كَذِبِه

فَلَوْ أَمِنَّا مِنَ العِقَابِ وَلَمْ نَخْشَ مِنَ الله مُتَّقَى غَضَبِه

وَلَمْ نَخَفْ نَارَهُ الَّتِي خُلِقَتْ لِكُلِّ جَانِي الكَلَامِ مُحْتَقبِه

لَكَانَ فَرْضًا لُزُومُ طَاعَتِهِ وَرَدُّ وَفْدِ الهَوَى عَلَى عَقِبِه

وَصِحَّةُ الزُّهْدِ فِي البَقَاءِ وَأَنْ يَلْحَقَ تَفْنِيدُنَا بِمُرْتَقبِه

فَقَدْ رَأَيْنَا فِعْلَ الزَّمَانِ بِأَهْـ ـلِهِ كَفِعْلِ الشُّوَاظِ فِي حَطَبِه

كَمْ مُتْعِبٍ فِي الإِلَهِ مُهْجَتهُ رَاحَتُهُ فِي الكَرِيهِ مِنْ تَعَبِه

وَطَالِبٍ بِاجْتِهَادِهِ زَهْرَ الدُّ نْيَا عَدَاهُ المَنُونُ عَنْ طَلَبِه

ومُدْرِكٍ مَا ابْتَغَاهُ ذِي جَدَل حَلَّ بِهِ مَا يَخَافُ مِنْ سَبَبِه

وَبَاحِثٍ جَاهِدٍ لِبُغْيَتِهِ فَإِنَّمَا بَحْثُهُ عَلَى عَطَبِه

بَيْنَا تَرَى المَرْءَ سَامِيًا مَلِكًا صَارَ إِلَى السُّفْلِ مِنْ ذُرَى رُتَبِه

كَالزَّرْعِ لِلرجلِ فَوْقَهُ عَمَلٌ أَنْ يَنم حُسْن النُّمُوِّ فِي قَصَبِه

كَمْ قَاطَعٍ نَفْسَهُ أَسًى وَشَجًا فِي إِثْرِ جِدٍّ يَجِدُّ فِي هَرَبِه

أَلَيْسَ فِي ذَاكَ زَاجِرٌ عَجبٌ يَزِيدُ ذَا اللُّبِّ فِي حُلَى أَدَبِه

فَكَيْفَ وَالنَّارُ لِلْمُسِيءِ إِذَا عَاجَ عَنِ المُسْتَقِيمِ مِنْ عَقِبِه

وَيَوْمَ عَرْضِ الحِسَابِ يَفْضَحُهُ الله وَيُبْدِي الخَفِيَّ مِنْ رِيبِه

مَنْ قَدْ حَبَاهُ الإِلَهُ رَحْمَتَه مَوْصُولَةً بِالمَزِيدِ منْ نَشَبِه

فَصَارَ مِنْ جَهْلِهِ يُصَرِّفُهَا فِيمَا نَهَى الله عَنْهُ فِي كُتُبِه

أَلَيْسَ هَذَا أَحْرَى العِبَادِ غَدًا بِالوَقْعِ فِي وَيْلِهِ وَفِي حَرَبِه؟

شُكْرًا لِرَبٍّ لَطِيفُ قُدْرَتِه فِينَا كَحَبْلِ الوَرِيدِ فِي كَثَبِه

رَازِقِ أَهْل الزَّمَانِ أَجْمَعِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ عُجْمِهِ وَمِنْ عَرَبِه

وَالحَمْدُ لله فِي تَفَضُّلِهِ وَقِمْعِهِ لِلزَّمَانِ فِي نُوبِه

أَخْدَمَنَا الأَرْضَ وَالسَّمَاءَ وَمَنْ فِي الجَوِّ مِنْ مَائِهِ وَمِنْ شُهُبِه

فَاسْمَعْ وَدَعْ مَنْ عَصَاهُ نَاحِيَةً لَا يَحْملُ الحِمْلَ غَيْرُ مُحْتَطبِه

وأقول أيضًا:

أَعَارَتْكَ دُنْيَا مُسْتَرَدٌّ مُعَارُهَا غَضَارَةَ عَيْشٍ سَوْفَ يَذْوِي اخْضِرَارُهَا

وَهَلْ يَتَمَنَّى المُحْكمُ الرَّأْي عِيشَةً وَقَدْ حَانَ مِنْ دُهم المَنَايَا مَزَارُهَا

وَكَيْفَ تَلذُّ العَيْنُ هَجْعَة سَاعَةٍ وَقَدْ طَالَ فِيمَا عَايَنَتْهُ اعْتِبَارُهَا

وَكَيْفَ تَقَرُّ النَّفْسُ فِي دَارِ نُقْلَةٍ قَدِ اسْتَيْقَنَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَرَارُهَا

وَأَنَّى لَهَا فِي الأَرْضِ خَاطِرُ فِكْرَةٍ وَلَمْ تَدْرِ بَعْدَ المَوْتِ أَيْنَ مَحَارُهَا

أَلَيْسَ لَهَا فِي السَّعْيِ لِلْفَوْزِ شَاغِلٌ أَمَا فِي تَوَقِّيهَا العَذَابَ ازْدِجَارُهَا

فَخَابَتْ نُفُوسٌ قَادَهَا لَهْوُ سَاعَةٍ إِلَى حَرِّ نَارٍ لَيْسَ يُطْفَى أُوَارُهَا

لَهَا سَائِقٌ حَادٍ حَثِيثٌ مُبَادِرٌ إِلَى غَيْرِ مَا أَضْحَى إِلَيْهِ مَدَارُهَا

تُرَادُ لِأَمْرٍ وَهْيَ تَطْلُبُ غَيْرَهُ وَتَقْصِدُ وَجْهًا فِي سِوَاهُ سِفَارُهَا

أَمُسْرِعَة فِيمَا يَسُوءُ قِيَامُهَا وَقَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ العَذَابَ قُصَارُهَا

تُعَطِّلُ مَفْرُوضًا وَتُعْنَى بِفَضْلَةٍ لَقَدْ شَفَّهَا طُغْيَانُهَا وَاغْتِرَارُهَا

إِلَى مَا لَهَا مِنْهُ البَلَاءُ سُكُونُهَا وَعَمَّا لَهَا مِنْهُ النَّجَاحُ نِفَارُهَا

وَتُعْرِضُ عَنْ رَبٍّ دَعَاهَا لِرُشْدِهَا وَتَتْبَعُ دُنْيَا جَدَّ عَنْهَا فِرَارُهَا

فَيَا أَيُّهَا المَغْرُورُ بَادِرْ بِرَجْعَةٍ فَلله دَارٌ لَيْسَ تَخْمدُ نَارُهَا

وَلَا تَتَخَيَّرْ فَانِيًا دُونَ خَالِدٍ دَلِيلٌ عَلَى مَحْضِ العُقُولِ اخْتِيَارُهَا

أَتَعْلَمُ أَنَّ الحَقَّ فِيمَا تَرَكْتَهُ وَتَسْلكُ سُبلًا لَيْسَ يَخْفَى عَوَارُهَا

وَتَتْرُكُ بَيْضَاءَ المَنَاهِجِ ضلَّةً لِبَهْمَاءَ يُؤْذَي الرِّجْلَ فِيهَا عَثَارُهَا

تُسَرُّ بِلَهْوٍ مُعْقِبٍ بِنَدَامَةٍ إِذَا مَا انْقَضَى لَا يَنْقَضِي مُسْتَثَارُهَا

وَتُفْنَى اللَّيَالِي وَالمَسَرَّاتُ كُلُّهَا وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ الذُّنُوبِ وَعَارُهَا

فَهَلْ أَنْتَ يَا مَغْبُونُ مُسْتَيْقِظٌ فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ سَرِّ الخُطُوبِ اسْتِتَارُهَا

فَعَجِّلْ إِلَى رِضْوَانِ رَبِّكَ وَاجْتَنِبْ نَوَاهِيَهِ إِذْ قَدْ تَجَلَّى مَنَارُهَا

يَجِدُّ مُرُورُ الدَّهْرِ عَنْكِ بِلَاعِبٍ وَتُغْرَى بِدُنْيَا سَاءَ فِيكَ سِرَارُهَا

فَكَمْ أُمَّةٍ قَدْ غَرَّهَا الدَّهْرُ قَبْلَنَا وَهَاتِيكَ مِنْهَا مُقْفِرَات دِيَارُهَا

تَذَكَّرْ عَلَى مَا قَدْ مَضَى وَاعْتَبِرْ بِهِ فَإِنَّ المُذَكِّي لِلْعُقُولِ اعْتِبَارُهَا

تَحَامَى ذرَاهَا كُل بَاغٍ وَطَالِبٍ وَكَانَ ضَمَانًا فِي الأَعَادِي انْتِصَارُهَا

تَوَافَتْ بِبَطْنِ الأَرْضِ وَانْشَتَّ شَمْلُهَا وَعَادَ إِلَى ذِي ملْكِهِ مُسْتَعَارُهَا

وَكَمْ رَاقِدٍ فِي غَفْلَةٍ عَنْ مَنِيَّةٍ مُشَمِّرَةٍ فِي القَصْدِ وَهْوَ شِعَارُهَا

وَمَظْلَمَةٍ قَدْ نَالَهَا مُتَسَلِّطٌ مُدِلٍّ بَأَيْدٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ ثَارُهَا

أَرَاكَ إِذَا حَاوَلْتَ دُنْيَاكَ سَاعِيًا عَلَى أَنَّهَا بَادٍ إِلَيْكَ ازْوِرَارُهَا

وَفِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ يُقْعِدُكَ الوَنَى وَتُبْدِي أَنَاةً لَا يَصِحُّ اعْتِذَارُهَا

تُحَاذِر إِخْوَانًا سَتَفْنَى وَتَنْقَضِي وَتَنْسَى الَّتِي فَرْضٌ عَلَيْكَ حِذَارُهَا

كَأَنِّي أَرَى مِنْكَ التَّبَرُّمَ ظَاهِرًا مُبِينًا إِذَا الأَقْدَارُ حَلَّ اضْطِرَارُهَا

هُنَاكَ يَقُولُ المَرْءُ مَنْ لِي بِأَعْصُرٍ مَضَتْ كَانَ مِلْكًا فِي يَدَيَّ خَيَارُهَا

تَنَبَّهْ لِيَوْمٍ قَدْ أَظَلَّكَ وِرْدُهُ عَصِيبٍ يُوَافِي النَّفْسَ فِيهِ احْتِضَارُهَا

تَبَرَّأَ فِيهِ مِنْكَ كُلُّ مُخَالِطٍ وَإنَّ مِنَ الآمَالِ فِيهِ انْهِيَارهَا

فَأُوْدِعتَ فِي ظَلْمَاءَ ضَنْكٌ مَقَرُّهَا يَلُوحُ عَلَيْهَا لِلْعُيُونِ اغْبِرَارُهَا

تنادي فَلَا تَدْرِي المُنَاديَ مُفْرَدًا وَقَدْ حُطَّ عَنْ وَجْهِ الحَيَاةِ خِمَارُهَا

تُنَادي إِلَى يَوْمٍ شَدِيدٍ مُفَزِّعٍ وَسَاعَة حَشْرٍ لَيْسَ يَخْفَى اشْتِهَارُهَا

إِذَا حُشِرَتْ فِيهِ الوُحُوشُ وَجُمِّعَتْ صَحَائِفُنَا وَانْثَالَ فِينَا انْتِشَارُهَا

وَزُيِّنَتِ الجَنَّاتُ فِيهِ وَأُزْلِفَتْ وَأُذْكِيَ مِنْ نَارِ الجَحِيمِ اسْتِعَارُهَا

وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ المُنِيرَةُ بِالضُّحَى وَأَسْرَعَ مَنْ زُهْرِ النُّجُومِ انْكِدَارُهَا

لَقَدْ جَلَّ أَمْرٌ كَانَ مِنْهُ انْتِظَامُهَا وَقَدْ حَلَّ أَمْرٌ كَانَ مِنْهُ انْتِثَارُهَا

وَسُيِّرَتِ الأَجْبَالُ وَالأَرْضُ بُدِّلَتْ وَقَدْ عُطِّلَتْ مِنْ مَالِكِيهَا عِشَارُهَا

فَإِمَّا لِدَارٍ لَيْسَ يَفْنَى نَعِيمُهَا وَإِمَّا لِدَارٍ لَا يُفَكُّ إِسَارُهَا

بِحَضْرَةِ جَبَّارٍ رَفِيقٍ مُعَاقبٍ فَتُحْصى المَعَاصِي كبْرُهَا وَصِغَارُهَا

وَيَنْدَمُ يَوْمَ البَعْثِ جَانِي صِغَارِهَا وَتُهْلِكُ أَهْلِيهَا هُنَاكَ كِبَارُهَا

سَتُغْبَطُ أَجْسَادٌ وَتُحْيا نُفُوسُهَا إِذَا مَا اسْتَوَى إِسْرَارُهَا وَجِهَارُهَا

إِذَا حَفَّهُمْ عَفْوُ الإِلَهِ وَفَضْلُهُ وَأَسْكَنَهُمْ دَارًا حَلَالًا عُقَارُهَا

سَيَلْحَقُهُمْ أَهْلُ الفُسُوقِ إِذَا اسْتَوَى بِحَلْبَة سَبقٍ طَرْفُهَا وَحمارُهَا

يَفِرُّ بَنُو الدُّنْيَا بِدُنْيَاهُمُ الَّتِي يُظَنُّ عَلَى أَهْلِ الحُظُوظِ اقْتِصَارُهَا

هِيَ الأُمُّ خَيْرُ البِرِّ فِيهَا عُقُوقُهَا وَلَيْسَ بِغَيْرِ البَذْلِ يُحْمَى ذِمَارُهَا

فَمَا نَالَ مِنْهَا الحَظَّ إِلَّا مُهِينُهَا وَمَا الهُلْكُ إِلَّا قُرْبُهَا وَاعْتِمَارُهَا

تَهَافَتَ فِيهَا طَامِعٌ بَعْدَ طَامِعٍ وَقَدْ بَانَ لِلُّبِّ الذَّكِيِّ اخْتِبَارُهَا

تَطَامَنْ لِغَمْرِ الحَادِثَاتِ وَلَا تَكُنْ لَهَا ذَا اعْتِمَارٍ يَجْتَنِبْكَ غِمَارُهَا

وِإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهَا بِمَا تَرَى فَقَدْ صَحَّ فِي العَقْلِ الجَلِيِّ عيَارُهَا

رَأَيْتُ مُلُوكَ الأَرْضِ يَبْغُونَ عُدَّةً وَلَذَّةَ نَفْسٍ يُسْتَطَابُ اجْتِرَارُهَا

وَخَلُّوا طَرِيقَ القَصْدِ فِي مُبْتَغَاهُمُ لِمُتْبِعِهِ الصفار جَمَّ صَغَارُهَا

وَإِنَّ الَّتِي يَبْغُونَ نَهْجَ بَقِيَّةٍ مَكِين لِطُلَّابِ الخَلَاصِ اخْتِصَارُهَا

هَلِ العِزُّ إِلَّا هِمَّةٌ صَحَّ صَوْنُهَا إِذَا صَانَ همَّاتِ الرِّجَالِ انْكِسَارُهَا

وَهَلْ رَابِحٌ إِلَّا امْرُؤٌ مُتَوَكِّلٌ قَنُوعٌ غَنِيُّ النَّفْسِ بَادٍ وَقَارُهَا

وَيَلْقَى ولَاةَ الملكِ خَوْفًا وَفِكْرَة تَضِيقُ بِهَا ذَرْعًا وَيَفْنَى اصْطِبَارُهَا

عِيَانًا نَرَى هَذَا وَلَكِنَّ سَكْرَةً أَحَاطَتْ بِنَا مَا إِنْ يُفِيق خُمَارُهَا

تَدَبَّرْ مَنِ البَانِي عَلَى الأَرْضِ سَقْفَهَا وَفِي عِلْمِهِ مَعْمُورُهَا وَقِفَارُهَا

وَمَنْ يُمْسِكُ الأَجْرَامَ وَالأَرْضَ أَمْرُهُ بِلَا عَمَدٍ يُبْنَى عَلَيْهِ قَرَارُهَا

وَمَنْ قَدَّرَ التَّدْبِيرَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ فَصَحَّ لَدَيْهَا لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا

وَمَنْ فَتَقَ الأَمْوَاهَ فِي صُفْحِ وَجْهِهَا فَمِنْهَا يُغَذَّى حَبُّهَا وَثِمَارُهَا

وَمَنْ صَيَّرَ الأَلْوَانَ فِي نَورِ نَبْتِهَا فَأَشْرَقَ فِيهَا وَرْدُهَا وَبهَارُهَا

فَمِنْهُنَّ مُخْضَرٌّ يَرُوقُ بَصِيصهُ وَمِنْهُنَّ مَا يَغْشَى اللِّحَاظَ احْمِرَارُهَا

وَمَنْ حَفَرَ الأَنْهَارَ دُونَ تَكَلُّفٍ فَثَارَ مِنَ الصُّمِّ الصِّلَابِ انْفِجَارُهَا

وَمَنْ رَتَّبَ الشَّمْسَ المُنِيرَ ابْيِضَاضُهَا غُدُوًّا وَيَبْدُو بِالعشِيِّ اصْفِرَارُهَا

وَمَنْ خَلَقَ الأَفْلَاكَ فَامْتَدَّ جَرْيُهَا وَأَحْكَمَهَا حَتَّى اسْتَقَامَ مَدَارُهَا

وَمَنْ إِنْ أَلَمَّتْ بِالعُقُولِ رَزِيَّةٌ فَلَيْسَ إِلَى حَيٍّ سِوَاهُ افْتِقَارُهَا؟

تَجِدْ كُلَّ هَذَا رَاجِعًا نَحْوَ خَالِقٍ لَهُ مُلْكُهَا مُنْقَادَة وَائْتِمَارُهَا

أَبَانَ لَنَا الآيَاتِ فِي أَنْبِيَائِهِ فَأَمْكَنَ بَعْدَ العَجْزِ فِيهَا اقْتِدَارُهَا

فَأَنْطَقَ أَفْوَاهًا بِأَلْفَاظِ حِكْمَةٍ وَمَا حَلهَا إِثْغَارُهَا وَاتِّغَارُهَا

وَأَبْرَزَ مِنْ صُمِّ الحِجَارَةِ نَاقَةً وَأَسْمَعَهُمْ فِي الحِينِ مِنْهَا حُوَارُهَا

لِيُوقِنَ أَقْوَامٌ وَتَكْفُرَ عُصْبَةٌ أَتَاهَا بِأَسْبَابِ الهَلَاكِ قِدَارُهَا

وَشَقَّ لِمُوسَى البَحْرَ دُونَ تَكَلُّفٍ وَبَانَ مِنَ الأَمْوَاجِ فِيهِ انْحِسَارُهَا

وَسَلَّمَ مِنْ نَارِ الأنوق خَلِيلَهُ فَلَمْ يُؤْذِهِ إِحْرَاقُهَا وَاعْتِرَارُهَا

وَنَجَّى مِنَ الطُّوفَانِ نُوحًا وَقَدْ هَدَتْ بِهِ أُمَّةٌ أَبْدَى الفُسُوقَ شِرَارُهَا

وَمَكَّنَ دَاوُدًا بِأَيْدٍ وَإِبْنَهُ فَتَعْسِيرُهَا مُلْقًى لَهُ وَبدَارُهَا

وَذَلَّلَ جَبَّارَ البِلَادِ لِأَمْرِهِ وَعُلِّمَ مِنْ طَيْرِ السَّمَاءِ حِوَارهَا

وَفَضَّلَ بِالقُرْآنِ أُمَّةَ أَحْمَدٍ وَمَكَّنَ فِي أَقْصَى البِلَادِ مُغَارُهَا

وَشَقَّ لَهُ بَدْرَ السَّمَاءِ وَخَصَّهُ بِآيَاتِ حَقٍّ لَا يُخل مُعَارُهَا

وَأَنْقَذَنَا مِنْ كُفْرِ أَرْبَابِنَا بِهِ وَكَانَ عَلَى قُطْبِ الهَلَاكِ مَنَارُهَا

فَمَا بَالُنَا لَا نَتْرُكُ الجَهْلَ وَيْحَنَا لِنَسْلَمَ مِنْ نَارٍ تَرَامَى شِرَارُهَا

هنا — أعزك الله — انتهى ما تذكَّرته إيجابًا لك، وتقمنًا لمسرَّتك، ووقوفًا عند أمرك، ولم أمتنع أن أورد لك في هذه الرسالة أشياء يذكرها الشعراء ويُكثرون القول فيها، موفيات على وجوهها، ومفردات في أبوابها، ومنعمات التفسير، مثل الإفراط في صفة النحول، وتشبيه الدموع بالأمطار، وأنها تروي السفار، وعدم النوم البتة، وانقطاع الغذاء جملةً، إلا أنها أشياء لا حقيقة لها، وكذب لا وجه له، ولكل شيء حدٌّ، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا. والنحول قد يَعظُم ولو صار حيث يصفونه لكان في قوام الذرة أو دونها، ولخرج عن حد المعقول، والسهر قد يتصل لياليَ، ولكن لو عدم الغذاء أسبوعين لهلك، وإنما قلنا: الصبر عن النوم أقل من الصبر عن الطعام؛ لأن النوم غذاء الروح، والطعام غذاء الجسد، وإن كانا يشتركان في كليهما، ولكنا حكينا على الأغلب. وأما الماء فقد رأيت أن ميسورًا البنَّاء جارَنا بقُرطبة يصبر عن الماء أسبوعين في حمارَّة القيظ، ويكتفي بما في غذائه من رطوبة.

وحدثني القاضي أبو عبد الرحمن بن جحاف أنه كان يعرف من كان لا يشرب الماء شهرًا.

وإنما اقتصرت في رسالتي على الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلًا، وعلى أني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرة يُكتفى بها لئلا أخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم. وسيرى كثير من إخواننا أخبارًا لهم في هذه الرسالة مكنِّيًا فيها من أسمائهم على ما شرطنا في ابتدائها. وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتبه المَلَكان، ويُحصيه الرقيبان من هذا وشبهه، استغفار من يعلم أن كلامه من عمله، ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء، فهو — إن شاء الله — من اللَّمم المَعْفوِّ، وإلا فليس من السيئات والفواحش التي يتوقع عليها العذاب. وعلى كل حال فليس من الكبائر التي ورد النص فيها.

وأنا أعلم أنه سيُنكر عليَّ بعضُ المُتعصبين عليَّ تأليفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته، وما أُحِلُّ لأحد أن يَظنَّ فيَّ غير ما قصدته، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.

وحدثني أحمد بن محمد بن الجسوري: ثنا ابن أبي دليم، ثنا ابن وضاح، عن يحيى بن مالك بن أنس، عن أبي الزبير المكي، عن أبي شريح الكعبي، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إياكم والظن؛ فإنه أكذب الكذب.»

وبه إلى مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المَقبري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمت.

وحدثني صاحبي أبو بكر محمد بن إسحاق، ثنا عبد الله بن يوسف الأزدي، ثنا يحيى بن عائذ، ثنا أبو عدي عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج الإمام بمصر، ثنا أبو علي الحسن بن قاسم بن دحيم المصري، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا أبو العباس، ثنا أبو بكر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: وضع عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — للناس ثماني عشرة كلمة من الحكمة، منها: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك عليه، ولا تَظنَّ بكلمةٍ خرجت من في امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا.»

فهذا — أعزك الله — أدب الله وأدب رسوله ﷺ وأدب أمير المؤمنين. وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة، ولا أنسك نسكًا أعجميًّا، ومن أدَّى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهي عنها، ولم ينسَ الفضل فيما بينه وبين الناس، فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك، وحسبي الله.

والكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجبٌ على ما مضى ودهمني؛ فأنت تعلم أن ذهني متقلب، وبالي مهصر بما نحن فيه من نَبْوِ الديار، والخلاء عن الأوطان، وتغيُّر الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدُّل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار. لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا. وإن الذي أبقى لَأكثرُ مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيَّف، ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تُحد، ولا يُؤدَّى شُكرُها، والكلُّ مِنَحه وعطاياه، ولا حُكمَ لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا. وكل عارية فراجعة إلى مُعيرها. وله الحمد أولًا وآخرًا، وعودًا وبدءًا، وأنا أقول:

جَعَلْتُ اليَأْسَ لِي حِصْنًا وَدِرْعًا فَلَمْ أَلْبَسْ ثِيَابَ المُسْتَضَامِ

وَأَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ عِنْدِي يَسِيرٌ صَانَنِي دُونَ الأَنَامِ

إِذَا مَا صَحَّ لِي دِينِي وَعِرْضِي فَلَسْتُ لِمَا تَوَلَّى ذَا اهْتِمَام

تَوَلَّى الأَمْس، وَالغَدُ لَسْتُ أَدْرِي أَأُدْرِكُهُ فَفِيمَا ذَا اغْتِمَام

جعلنا الله وإياك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين. آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.

 

هناك تعليق واحد:

  1. حتى إسم الله الاعظم فيه صفة الحب

    ردحذف

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.