مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

لا تلمسي القطة - بقلم أمين الساطي

 



  أخذت نفساً عميقًاً من أرجيلة معسل التفاح، وسحبته إلى رئتي، ثم نفثته بقوة، فخرج متصاعداً من فمي بشكل دوائر رمادية متداخلة مبتعدة عني، باتجاه القطة الشيرازية البيضاء الجالسة أمامي على الكنبة نفسها التي اعتادت زوجتي المرحومة الجلوس عليها. بينما القطة تحملق باستغراب بعينيها الزرقاوين بدوائر الدخان، وهي تتلاشى في الهواء. شعرت بأن هذه القطة ترى ما لا أراه، وكأنها قادمة من عالم آخر، فنقلتني الجلسة بعيداً عن أجواء البيت، وعن مشاعر الكآبة التي سيطرت عليَّ في الفترة الأخيرة نتيجة وفاة زوجتي، ورحيل ابنتي الوحيدة إلى بيت زوجها، فأصبحت أعيش وحدي مع التلفزيون والأرجيلة وبعض التخيّلات المزعجة، التي لم تكن في سياقها الزمني. 
  انتابتني النشوة خلال هذه الجلسة، من مجرد تفكيري باقتراح جارتنا أم محمود، بأن تزوجني أختها المطلقة، لقد جمعتني معها في منزلها، كانت سمراء طويلة جذابة في الثلاثينيات، بينما أنا في السابعة والستين من عمري، إن الرجل عندما يكبر بالسن يتصور أن الزمن قد سرق عمره، ويفكر بأن يجدد شبابه بالزواج من امرأة صغيرة، تعيد إليه بهجة الحياة، وتعطيه الشعور بأنه مازال مرغوباً. لقد أعطتني الإحساس خلال حديثنا بأنني مازلت شاباً، وأنني أبدو أصغر بكثير من عمري الحقيقي، فزاد تعلقي بها، قد تكون هذه فرصتي الأخيرة، لأبدأ حياتي من جديد، بدأت أتخيلها وهي جالسة أمامي في قميص النوم، ما أثار في نفسي دوافع جنسية تركتها خلفي منذ زمن طويل.
  كنت بالماضي دائماً أعيش أحلام اليقظة، وأتصور أنني متزوج من امرأة شابة وجميلة، والآن أصبحت الفرصة سانحة أمامي، لقد اختلط الخيال بالواقع، وجدت نفسي في هذه اللحظة أعيشه فعلاً، على الرغم من أنني لم أفعل شيئاً مشابهاً له من قبل. لم أستطع أن أتعامل مع خيالي الجامح، ولربما يعود ذلك إلى أنني بعد أن تقاعدت من وظيفتي، انقطعت علاقاتي مع أصدقائي الحقيقيين، وأخذت أعيش حياتي الاجتماعية من خلال الفيسبوك، وأمضي أكثر أوقاتي على شاشة التلفزيون لمشاهدة أفلام الإثارة والجنس والرعب.
  دون الإطالة فقد اكتملت هذه الجيزة، على الرغم من معارضة ابنتي الشديدة لها، وجرى عقد القران في حفلة بسيطة في بيتي، لم تحضرها ابنتي لزعمها بأنها لا تريد أن تحلّ امرأة ثانية محل أمها، أو لعلها كانت لا تريد أن يشاركها أحدٌ في ميراثها.
  لم تجرِ الأمور كما تصورتها، ولم أحصل على الإثارة التي كنت أخطط لها، لأنني تجاهلت طبيعة النفس البشرية، بأنه لا زواج ناجحاً من دون حياة جنسية ناجحة، فندمت على تسرعي في اتخاذ ذلك القرار، ولم تكن لدي الجرأة لأدخل في متاهات الطلاق، كثيراً ما جلست أحدق في عيني هذه القطة الشيرازية، محاولاً أن أعرف فيما إذا كانت تدرك المعاناة التي أمرُّ بها، إني أفهم بأن القطة ترى ما يدور في خاطري, لكنها لا ترى ما أتخيل بأنها تراه.
  كانت علاقة زوجتي الجديدة بالقطة سيئة للغاية, وكانت زوجتي تلحُّ عليَّ في كل يوم بأنه يجب علينا التخلص منها. وادعت بأنها منذ يومين بالت أمام خزانتها الجديدة، فقامت بركلها على وجهها، فتوقعت بأن القطة بدأت تشعر بعدم الأمان في هذا البيت، وازداد نفورها من زوجتي وحقدها عليها, وتخيلت بأن زوجتي كانت في عقلها الباطن تربط بين القطة وزوجتي المرحومة، لكن الشكاوى من القطة أخذت تزداد في كل يوم.
  أخبرتني زوجتي أنني عندما أذهب إلى القهوة، وأتركها وحدها مع القطة، فإنها تسمع مواء خافتاً ومتقطعاً, وكأن القطة تتحدث بلغة خاصة مع بعض المخلوقات، وأحياناً تسمع أصوات خطوات في غرفة الجلوس، ولما تذهب إليها لا تجد أحداً، وأنها تضع مفاتيحها على الطاولة، ثم لا تجدها رغم تأكدها بأنها تركتها في هذا المكان.
  في إحدى المرات عدت من القهوة فوجدت زوجتي تبكي، قائلة إنني بعد أن غادرت البيت، شعرت بأن هناك من يراقبها أو أنه موجود معها بالغرفة، وأحست بأن أحداً يلمس شعرها، وهي تراقب التلفزيون في غرفة الجلوس، ومن شدة خوفها ذهبت إلى غرفة النوم، وأغلقت عليها الباب بالمفتاح، وبينما هي ممددة شاهدت مقبض الباب يتحرك، ونزل إلى الأسفل مرتين أو ثلاثاً، لكن الباب لم يفتح، وأن الأمر أكبر من أن يكون مجرد هلاوس وأحلام، وهي جازمة بأن هذه القطة قد تلبسها الشيطان، ولا بدّ فوراً من التخلص منها. شرحت لها أن بعض القطط تقفز على يد مقبض باب الغرفة لمحاولة فتح الباب، وهذا أمر طبيعي تفعله بعض القطط، لكنها لم تقتنع بهذا التفسير، واتهمتني بأني أنحاز إلى القطة ضدها.
  حاولت ان أسوّف الموضوع، وعدتها بأني سأجد صديقاً يقبل بأن يأخذ القطة ويربيها في منزله، كررت لها بأن القطط بغريزتها لا تطيع ملاكها لمجرد إطعامهم لها، بل يجب عليهم اكتساب ثقتها وحبها وتدليلها والتقرب منها واحترامها، لكن كل هذا الكلام لم يجدِ نفعاً، وأصبحت ملزماً بالتخلص من القطة بأي شكل من الأشكال.
 مرة شاهدت زوجتي في قميص النوم، فشعرت برغبة، لم أستطع السيطرة عليها، من دون أن أعطيها أي أشارة، اندفعت إليها، وحاولت بلطف أن أمددها على الكنبة، وأنا أتمتم في أذنها بأنها أجمل امرأة في العالم، كانت حركتي مباغتة لها، في بادئ الأمر لم تقاوم، وكأنها لم تستوعب ماذا يحدث لها، ولما حركت يدي لأنزع قميصها، بدأت تدفعني بقوة عنها. فاضطررت لأن أحملها من على الكنبة وأمددها على السجادة الأرضية، فازدادت مقاتلتها ضراوةً، وأدخلت أظفر سبابتها في عيني اليسرى، محاولة إيذائي. جنَّ جنوني، فأرجعت رأسي إلى الوراء، وأصبت بنوع من الهستيريا، فهي لا تتجاوب معي ولا تريدني، على الرغم من أنني أكثر وسامةً من زوجها السابق بألف مرة.. أقنعت نفسي، بأن عليّ أن أتخلص من هذه الزوجة قبل التخلص من القطة الشيرازية، فهذه المرأة قد تزوجتني من أجل أن ترثني، رغم أنها كانت تتظاهر بعكس ذلك، في أثناء فترة تعارفنا.
 غادرت المنزل وأنا في حالة اضطراب، وقد تركت خلفي خيبات الأمل وشعوري بالفشل، وذهبت إلى القهوة لكي أتخدّر بالأرجيلة والثرثرة مع أصدقائي، لكنني سرعان ما اكتشفت الحقيقة، بأنني رجل مريض نفسياً وغير قادر على القيام بعلاقات طبيعية مستمرة، ولا أقوى في السيطرة على زوجتي، بدأت أتخيل ماذا سيحدث بعد طلاقي من زوجتي الجديدة؟ وماذا سيقول عنا الناس؟
 عندما عدت إلى البيت في المساء، أخبرتني زوجتي بأنها حاولت إصلاح علاقتها مع هذه القطة الشريرة، فلمستها وأخذت تسايرها، وتمسح على رأسها بلطف، فباغتتها القطة وعضت سبابتها. في البداية لم تبالِ كثيراً بهذه العضة، لقد غسلت أصبعها بالماء لتزيل عنه آثار الدم، ثم وضعت عليه قطعة قطن مبللة بالكحول. أدركتُ في هذه اللحظة أنه طفح الكيل من القطة، في اليوم التالي وضعت القطة في كيس من الخيش، واستأجرت تاكسي، وانطلقت إلى قرية عين الفيجة التي تبعد قرابة عشرين كيلومتراً عن دمشق، ما كدت أصل القرية حتى فتحت كيس الخيش، فانطلقت القطة المتمردة راكضةً إلى المجهول.
عدت أدراجي إلى البيت، وقد نفذت تعليمات زوجتي حرفياً، بعد عدة أيام بدأ أصبع زوجتي بالانتفاخ، وأخذ لونه يميل إلى الاحمرار، أهملنا الموضوع في بادئ الأمر، ثم أجرينا عدداً من الاستشارات، وانتهى بنا المطاف في مستشفى المجتهد. بقيت زوجتي في المستشفى لمدة يومين، خضعت لعملية جراحية بسيطة في أصبعها لتنظيف الجرح، لكن بعد شهر عاد الانتفاخ إلى أصبعها، وأصبحت عاجزة عن تحريكه لذلك قرر الأطباء بتره.
  بعد الانتهاء من عملية بتر أصبعها، بدأت صحتها تتدهور، وكانت أحوالها مؤخراً متقلبة للغاية، وعلى قول الأطباء، إنها تعاني ضعفاً في جهاز المناعة والتهاباً رئوياً. لقد اكتشف الأطباء أنه عندما عضت القطة أصبعها ونتيجة لإهمالنا في معالجة الجرح، انغلق الجرح، ودخلت البكتيريا لمجرى الدم، وبقيت في الجسم، وتكاثرت، ثم بدأت تنتشر، وبأقل من أسبوعين، رحلت زوجتي إلى العالم الثاني.
  لكن لم تكن هذه هي النهاية، بعد وفاتها بفترة قصيرة، وبينما أنا عائد في المساء من القهوة إلى البيت، وجدت القطة البيضاء الشيرازية بانتظاري أمام باب العمارة.

هناك 3 تعليقات:

  1. بدوام التوفيق والتألق

    ردحذف
  2. قصة رائعة تنقلك من القراءة إلى معايشة الأحداث بالصوت والصورة

    ردحذف
  3. قصة جميلة فعلا تجعلنا نعيش الحدث خطوة بخطوة يسلم نبض قلمك

    ردحذف

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.