مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

ما العلاقة بين اقتضاب المعنى والوحدة العضوية في النص الشعري الحداثي ؟ ثناء حاج صالح

 


الوحدة العضوية من أهم خصائص النص الشعري الحداثي . وفيها تتجلى قدرة الشاعر على بناء نص ذي نسيج فني متكامل متناسق ذي سياق واضح مفيد يعالج موضوع النص الأساسي ولا يخرج عنه بالأفكار الشعرية التي يطرحها لصالحه ..
 أما اقتضاب المعنى فيحصل عندما يقتصر الشاعر على فكرة واحدة فقط لبسط المعنى المراد في كل بيت شعري واحد، أو حتى شطر واحد، دون محاولة رفده وتغذيته بأفكار شعرية متعددة ومتشعبة تجلوه من جوانب مختلفة . وهذا لا يؤدي فقط إلى ضحالة المعنى أو سطحيته (في كثير من الأحيان) وإنما يضع الشاعرَ في موقف البحث عن معنى جديد وفكرة جديدة أخرى لكل بيت جديد، فتكون الأفكار الشعرية متضاربة ومشتتة الأغراض ، وهو ما يتطلب جهدا أكبر للربط فيما بينها ربطا عضويا منطقيا ضروريا لتحقيق الوحدة العضوية ، وفي كثير من الأحيان يتعذر ذلك الربط على الشاعر، ونلمس النتيجة في البنية الفنية المترهلة أو غير المتماسكة والتي تفتقد إلى سياق واضح متنام ذي نسيج متين يقع فيه كل بيت في موضعه الصحيح والوحيد الذي يناسبه تماما ضمن السياق، والذي لا يمكننا  محاولة تغييره دون إحداث خلل في البنية الفنية تؤثر على مواضع الأبيات الأخرى أيضا ..
 لنأخذ نصين مثالين للشاعر نفسه أحمد نناوي.
 النص الأول تتجلى فيه المعاني المقتضبة التي يستقل كل منها ببيت واحد فقط ؛ فتبدو فكرة المعنى -على جمالها- غير مشبعة وأقرب إلى السطحية منها إلى العمق ؛ كونها لم تنل حظا وافيا من التعميق عبر رفدها وتغذيتها بالمزيد من الأفكار الشعرية التي تتناول المعنى نفسه من جوانب مختلفة تتكامل مع ما سبقها.
 وفي هذا النص سنلاحظ أن النتيجة الواضحة لاقتضاب المعاني هي فقدان الوحدة العضوية للنص، إذ لا نكاد نمسك بطرفي النص (بدايته ونهايته) وفقا لضرورة فنية محددة موجبة يحددها بالضرورة تنامي السياق الفني المعتمد على انبثاق الأفكار الشعرية وتوالدها بعضها من بعض.
.
النص الأول
.
حديثُ الصامتينَ
أشدُّ وقعًا
على الأذنِ التي وعتِ الكلاما
لنا يا صاحبي
زمنٌ سيأتي
ويُعطي كلَّ ذي قدرٍ مقاما
إذا ما كنتَ
كنْ معنًى فريدًا
إذا وقفوا بهِ وقفوا احتراما
وكنْ يا صاحبي
معنًى بسيطًا
بساطةَ عابرٍ يُلقي السَّلاما
.
 كل بيت من الأبيات السابقة استقلَّ بمعناه عما يليه ؛ ففي البيت الأول يدور المعنى حول تأثير حديث الصامتين وهو عديم الصلة بالمعنى الذي جاء في البيت الثاني مع فكرة (الأمل بمجيء زمانٍ يعطى فيه كل ذي قدر مقامه الذي يستحقه)  وهذا المعنى منفصل عن المعنى الذي قدمته فكرة البيت الثالث وهي (الدعوة لترك الأثر الفريد الذي يدعو للاحترام من خلال تجسيد المعنى الفريد في الحياة) وهي الفكرة التي تتناقض إلى حد ما مع فكرة البيت الأخير، والتي تدعو إلى تجسيد المعنى البسيط  الذي يشبه ببساطته الإنسان العابر البسيط الذي إذا ألقى السلام يكاد لا يثير انتباه أحد ، كونه بسيطا وكونه مجرد شخص عابر لا يقف له أحد احتراما..
وبغض النظر عن ذلك التناقض في مضمون الفكرتين الأخيرتين ، نلاحظ أن  المعاني جميعها في الأبيات  جاءت مقتضبة سريعة، على الرغم من أنها تبدو قابلة للتعميق والتوسعة وقابلة للمزيد من البسط في مساحتها التي تحتلها في النص. فضلا عن كونها غير مترابطة لخدمة موضوع محدد..
 من مساوئ الاقتضاب في عرض المعاني أنه يضطر الشاعر إلى البحث عن معنى جديد وفكرة جديدة لكل بيت في النص أو حتى لكل شطر . وهذا يترك أثره بالغ الوضوح في مسألة عدم ترابط أفكار النص ترابطا عضويا ضروريا يوفر للنص بنية فنية متنامية متينة لا تقبل التغيير تمثل (الوحدة العضوية)..
ولو حاولنا تغيير مواضع  الأبيات في النص السابق لما أحدثنا كبير فرق في نسيج النص. وهو ما يدل على ضعف بنية النسيج الفني وعدم تمتع النص بالوحدة العضوية..
وهذه محاولة:.
إذا ما كنتَ
كنْ معنًى فريدًا
إذا وقفوا بهِ وقفوا احتراما
لنا يا صاحبي
زمنٌ سيأتي
ويُعطي كلَّ ذي قدرٍ مقاما
وكنْ يا صاحبي
معنًى بسيطًا
بساطةَ عابرٍ يُلقي السَّلاما
حديثُ الصامتينَ
أشدُّ وقعًا
على الأذنِ التي وعتِ الكلاما
.
النص الثاني للشاعر نفسه . وهو المثال الآخر الذي يتجلى فيه المعنى العميق الذي رفده الشاعر بعدد كبير من الأفكار الجزئية المتكاملة التي أغنته ورسّخته، ووفّرت للنص مادة  النسيج الفني وشروط حبكته التي ظهرت متينة متنامية السياق وجعلت النص متمتعا بالوحدة العضوية المنشودة .
.
النص الثاني
.
أوحى لهُ الليلُ
بالأسحارِ ما أوحى
فباتَ ينسجُ من إيحائهِ صُبحا
عيونُهُ
في مقامِ الحُبِّ دارجةٌ
وقلبُهُ قائمٌ في حضرةِ الفُصحى
يكادُ من فرطِ
ما يهوى يفيضُ هوًى
ويستفيضُ على قدْرِ الهوى شَرحا
مُحلِّقًا
في فضاءِ اللهِ مُمْتلئًا
كنخلةٍ أثمرَتْ واثَّاقلَتْ طَرحا
ومُبحرًا
كلَّما امتدَّتْ شواطئُهُ
بنى على شاطئِ المعنى لهُ صَرحا
كأنَّهُ المتنبي
في قصيدتهِ
إنْ شاءَ إنشاءَها؛ قالتْ لهُ: مرحى
كأنَّها امرأةٌ
تُوحي لشاعرِها
سرَّ الهُيامِ وهذا السِّرُّ لا يُمحى
ما لاحَ طيفُ خيالٍ
من ضفائرِها
إلا تجسَّدَ في أوراقهِ بوحا
يخطُّ من دمهِ
أبياتَ حكمتِهِ
وربَّما بيتُ شعرٍ ضمَّدَ الجُرحا
حتَّى تمكَّنَ
منهُ الشِّعرُ ذاتَ ندًى
كأنَّما الشِّعرُ ماءٌ يُنبِتُ القمحا
يبيتُ ليلتَهُ
يتلُو قصيدتَهُ
ويمنحُ الأرضَ وردًا كلَّما أضحى
.
. فهذا النص يأتي شاهدا على علاقة الوحدة العضوية مع محاولة تعميق المعاني في النص، وذلك من خلال تفريع الأفكار الشعرية ومجانستها ومكاملتها بعضها بعضا، لتصبُّ في صالح المعنى الرئيس نفسه ( موضوع النص ) .وهو في مثالنا (وصف الحالة الشعرية عند الشاعر ) ولا نستطيع فهم هذا المعنى  مباشرة ومن أول بيت ، بل نحتاج إلى الاستمرار في القراءة لكي يتكشف لنا المعنى شيئا فشيئا ، عبر النسيج الفني المتواصل؛ لأن كل فكرة شعرية جزئية تضاف إلى السياق تساهم في بناء جزء معنوي مترتب على ما سبقه، ويترتب عليها ما يليها من الأفكار  الشعرية التي تغني الموضوع وتعمّق معانيه حتى الوصول إلى الخاتمة الضرورية في فكرتها وموضعها والتي تكتمل معها وبهاالوحدة العضوية للنص .
.
ونلاحظ في مثالنا كيف بدأ الشاعر النص بأول إرهاصات الكتابة عند الشاعر ، وهي الإيحاء. وهذا هو المنظق الصحيح للبداية.
.
أوحى لهُ الليلُ
بالأسحارِ ما أوحى
فباتَ ينسجُ من إيحائهِ صُبحا
.
وكيف أنهى النص بالشاعر الذي يتلو قصيدته بعد الانتهاء من كتابتها، وهي المرحلة الأخيرة في الحالة الشعرية التي تتلبسه، وهذه هي النهاية المتوقعة والمطلوبة منطقيا لإنهاء النص. وكيف استعرض الشاعر ما بين البداية والنهاية  كل الانفعالات التي يعانيها الشاعر وجدانيا وهو يبدع نصه تحت تأثير الحالة الشعرية التي تتلبسه
.
كأنَّما الشِّعرُ ماءٌ يُنبِتُ القمحا
يبيتُ ليلتَهُ
يتلُو قصيدتَهُ
ويمنحُ الأرضَ وردًا كلَّما أضحى
.
الخلاصة
 تعميق المعنى ورفده بالأفكار الشعرية المتجانسة والمتكاملة أساس للوحدة العضوية في النص الشعري. واقتضاب المعاني سبب لتشتت الأفكار الشعرية وبالتالي فقدان الوحدة العضوية في النص.
.

هناك تعليق واحد:

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.