مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

أي مكانة يحتلها الجسد في الفضاء الروائي العربي المعاصر؟ اشرف الحساني

 


شكّل الجسد علامة فارقة داخل المتن الروائي العربي المعاصر، في وقتٍ بدأت فيه الرواية تتخلى تدريجاً عن النفس الإيديولوجي الذي وسم رواية السبعينات في العالم العربي. حيث نقرأ الكثير من الروايات المُدجّجة بسلاح الإيديولوجيا وكأنّ الكتابة في ذلك الإبان وجدت داخل جنس الرواية مختبراً لتجريب هذه الأفكار بسبب سهولة الانتقال من الشكل الروائي إلى نظيره الفكري، حيث يمنح السرد بالنسبة إلى الكاتب فضاءً رحباً للتعبير عن تصدعات السياسة ومآزق الأحزاب وخيباتها.

وعلى الرغم من أنّ أقلاماً روائية قليلة استطاعت الانفلات من قبضة الإيديولوجيا، فإنّ البعض الآخر حوّل هذه الإيديولوجيا إلى التزام حقيقي بقضايا الناس وجُرحهم. غير أنّ مرحلة الثمانينيات ستعرف مُنعطفاً في الرواية العربيّة، فقد استطاع الكثير من الروائيين العرب التخلّي عن هذا الشكل في الكتابة لصالح كتابة تعود إلى الذات وترسم خيباتها، أمام مرآة واقع قلقٍ ومنكوبٍ. بهذه الطريقة عملت الأقلام الجديدة على ممارسة "نقد" أدبيّ مبطّن للإيديولوجيا من خلال عدم محاكاة نموذج السبعينيات، وذلك عبر الرهان على الذات (الجسد)، وعلى الأبعاد المعرفية والجماليّة في كتابة النص الروائي وجعله مختبراً للتجريب والتخييل والتوثيق.

لم تعمل رواية الثمانينيات على تخييل الجسد فقط، أو حتى جعله مدخلاً للشهرة، بقدر ما اشتغلت بشكلٍ كلّي على "كتابة الجسد"، وجعله مسرحاً للتجريب الأدبي بدرجاتٍ مُختلفةٍ من التخييل والتوثيق، لكنّها كانت كافية لإرساء معالم مشروع روائي جديد، ينصت إلى خلجات الذات وخيباتها المُتكرّرة على درب الفجيعة والنسيان.

بهذه الطريقة تتحرّر سرديّة الصُوَر الواقعيّة من رتابتها وجمودها، إذ تغدو أكثر تعلقاً بذاكرة المرء وتاريخه الشخصي. لكنّ عملية التماهي مع الواقع، لا تتأتى إلا من خلال عنصر الجسد، بوصفه أول عنصرٍ يدخل في اشتباكٍ مع الواقع ويَقوى على تفكيكه وتشذيره إلى صُوَرٍ وتمثّلات، ذلك أنّنا أصبحنا نُعاين أجساداً مُتخيّلة وكل جسد يُساهم في إنتاج عشرات من التمثلات والتخيّلات خلال مشهد سرديّ واحد.

عن أنطولوجيا الجسد وصُوره الفنّية وتمثلاته الفكريّة والجماليّة، كان لـ "الميادين الثقافيّة" هذه الوقفة الخاصّة مع عدد من النقاد والروائيين العرب.

أمير تاج السر: ثمّة كتابات كثيرة في الرواية العربية احتفت بالمعنى الأسطوري لجسد المرأة


بالطبع يمثل الجسد محوراً هاماً في الكتابة السردية باعتبار أن الإنسان، الذي هو بالضرورة البطل أو أية شخصية في الرواية، تعرف على جسده، أول ما تعرف على الحياة، ثم تأتي متعة اكتشاف تفاصيل الجسد يوماً بعد يوم، لتصل مرحلة التعرف على جسد الآخر، أي ثنائية الذكر - الأنثى المعروفة.

في الكتابة هناك علاقات وطيدة وحميمة مؤكدة بين الشخوص، وتقود هذه العلاقات التي يرسمها الكاتب إلى محور الجسد في أحيان كثيرة، هناك من يكتفي بالإشارة إلى تلك العلاقات الحميمة بين جسد وجسد، وبالطبع كمتوحدي المشاعر، إشارات يفهم منها ما أراد الكاتب تصويره، وهناك من يسرف في وصف تلك العلاقات، ولدرجة الابتذال، ويصبح النص الروائي الاجتماعي المفروض أن يحتفي بالجسد من ضمن مفردات حياتية أخرى، نصاً إيروتيكياً.

هناك علاقات وطيدة وحميمة مؤكدة بين الشخوص، وتقود هذه العلاقات التي يرسمها الكاتب إلى محور الجسد في أحيان كثيرة، هناك من يكتفي بالإشارة إلى تلك العلاقات الحميمة بين جسد وجسد، وهناك من يسرف في وصف تلك العلاقات إلى درجة الابتذال.

أنا لست ضد الكتابة عن الجسد، وتمديده في النص الروائي وحتى جعله محوراً رئيساً، لكني لا أحب استغلال ذلك بسوقية أو بلا وعي، ما يؤدي إلى خروج النص عن المسار الإبداعي، وسيره في طريق غير إبداعية أبداً.

وأمامنا كتابات كثيرة في الرواية العربية احتفت بالمعنى الجمالي والأسطوري لجسد المرأة تحديداً، من دون خدشه بأي ابتذال أو استخدام أجوف، والقارئ الجيد، أو الباحث عن المتعة الفنية، يحتفي بهذه الكتابات، بعكس القارئ الآخر الذي يبحث عن متعة أخرى، هو يستطيع تخيلها أو ابتكارها وحده، ولكن يحب أن يكتبها له أحد آخر.

أعرّج على كتابات العرب قديماً، تلك التي تسمى بالكتب التراثية، وفيها انتهاك كبير لجسد المرأة بالتحديد، وكثير من الأوصاف والمسميات التي في رأيي وضعت لاستجلاب اللذة الوقتية أكثر من استجلاب لذة القراءة المثمرة، ومرة قرأت رواية للطاهر بن جلون تحدث فيها بلا احتشام عن جسد المرأة، وقال إنه استوحى تلك المسميات من كتاب ألفه أحد شيوخ التراث.

إن كنا نودّ توظيف الجسد إذن، علينا الاعتراف بالمعنى الجمالي له، وليس المعنى الشبقي المتداول، حتى في كتابات المرأة، فعدد من الكاتبات يستخدمن جسد المرأة في ذلك السرد المباشر الإيروتيكي.


                 مصطفى لغتيري: التعامل مع الجسد يشكل استثناء وصدمة للقارىء المحافظ


من دون الخوض في مفهوم الجسد، الذي يبدو أوسع وأعمق من بعض النظرات والتصورات السطحية، التي تختزله في جسد المرأة وتحديداً في ما يتعلق بالإثارة الجنسية، إذ أظهرت مجموعة من الدراسات أن الجسد مفهوم شاسع، يضم كثيراً من الظواهر والأشكال والمفاهيم والتمثلات، التي قد تبرز من خلال الكتابة، أو تبرز الكتابة من خلالها في بعدها الإبداعي التخييلي أو في تأثيرها على المتلقي، أو في التمثلات المرسخة في الأذهان، والتي يزخر بها المجتمع حول مفهوم الجسد أفراداً وجماعات، والتي قد يشط بها الخيال إلى حدود غير معقولة.

ومع كل ذلك، يبقى الفهم المتداول للجسد في الكتابة الإبداعية وخاصة الروائية، والذي يفرض نفسه على المرء، هو تعامل الكاتب مع الجسد كمعطى فيزيقي مادي ذي بعد نفسي، له متطلبات غريزية، تحركه أو يسعى إلى تلبيتها بشكل من الأشكال أو يكون هو نفسه موضوع تلك الرغبات. الأمر الذي يحيل إلى مفهوم الليبيدو الفرويدي، الذي جعل من الطاقة الجنسية محركاً أساسياً في حياة البشر من أجل تحقيق أهدافهم، وإن تعرضت هذه الرغبات للكبت بسبب سلطة الأنا الأعلى يصاب الإنسان المعني بالأمر بأمراض نفسية، قد تكون هي الأخرى دافعاً قوياً للتعويض عن طريق أعمال أخرى، غالباً ما تكون أعمالاً فنية كما ذهب إلى ذلك فرويد، وجسّده في تحليله لبعض الأعمال الفنية كما فعل مع أعمال ليوناردو دا فينشي وخاصة لوحته "الموناليزا".

يبقى الفهم المتداول للجسد في الكتابة الإبداعية وخاصة الروائية، والذي يفرض نفسه على المرء، هو تعامل الكاتب مع الجسد كمعطى فيزيقي مادي ذي بعد نفسي، له متطلبات غريزية، تحركه أو يسعى إلى تلبيتها بشكل من الأشكال.

ولا يخفى على أحد أن الرواية العربية عموماً، كانت وما تزال تتعامل بتحفظ كبير مع هذا المعطى. أقصد التعاطي مع الجسد، الذي يفرض نفسه في الكتابة حتى وإن تجاهله الكاتب لأسباب متعددة غالبها ينبع من الرقابة المجتمعية أو الرقابة الذاتية، وإذا ما قاربه كاتب لضرورة فنية ما أحدث ضجة في المجتمع. في الغالب لا تكون بسبب قراءة نقدية للرواية، بل يكون الحكم "الأخلاقي" هو محركها، والمعيار الذي يلتجئ إليه من يطلق مثل هذه الأحكام، في مجتمع ما زال لم يحسم مع نظرته وتصوره للجسد، الذي يسجنه في نظرة نمطية محافظة مرتبطة بتصور ما للأخلاق، من دون أن يراعوا الجوانب الأخرى، ما يسقط الجميع في نوع من الإنفصام، إذ يصبح الجسد مشتهى ومكروهاً في نفس الوقت، فلا أحد يجهل هوس المجتمعات المقموعة بالجسد.

في غياب حرية الإبداع ما زال التعامل مع الجسد في الرواية يشكل استثناء وصدمة للمتلقي المحافظ، الذي مازال يطابق في ذهنه ما بين الواقع والخيال، وما زال لم يستوعب بعد أن العمل الفني يرتكز على البعد التخييلي ويحتكم إلى الضرورة الفنية، فلا يتعين الحكم عليه إلا من خلال أدوات النقد الفني وليس الحكم الأخلاقي. فالرواية والفن عموماً يسعيان إلى إيهام المتلقي بحقيقة ما يسرده عليه، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الصدق الفني، ويدخل في ذلك الجسد، الذي يجب أن يظهر في الرواية محاكياً ومشابهاً إلى حد ما  للجسد الواقعي، وهذا ما نلاحظه في ثقافات أخرى، تجاوزت النظرة الضيقة للجسد، وأضحت تنظر إليه كمعطى حضاري، لذا نجده متجسداً في جميع الفنون بما فيها النحت والأدب والسينما، ولعل ذلك ما أثر على نظرتهم الشخصية للجسد، فحفزهم على أن يهتموا به من خلال الرياضة والرقص والغذاء، فتطورت لديهم ثقافة راقية للجسد، يلاحظها المتلقي في اللوحات الفنية والفنون الاستعراضية عموماً، فيعجبنا كجسد، لكننا نظل متحصنين بنظرتنا الدونية له في وعينا ولاوعينا الفردي والجماعي.

عموماً، عرفت الرواية العربية تطوراً مهماً بخصوص تعامل المبدعين مع الجسد، فظهرت روايات تتميز بكثير من الجرأة في مقاربتها للجسد، سواء كان جسد الرجل أو المرأة، بل خاضوا حتى في ما تمَّ اعتباره محظوراً، وزاد هذا الأمر توهجاً حين فرضت المرأة الكاتبة نفسها في المشهد الروائي بنصوص مختلفة ظهرت في اللمسة الفنية للمرأة بشكل واضح، فمدت الرواية العربية بتصور أكثر جرأة للجسد، جعلت منه ذاتاً راغبة ومشتهية وليس مجرد موضوع لرغبة جنسية.

محمود الغيطاني: كتابة الجسد في الرواية العربية مجرد فخ مبهر


تعد كتابة الجسد في الرواية العربية خاصة مجرد فخ مبهر وجاذب للكثيرين من معدومي ومتوسطي الموهبة؛ لاعتقادهم سهولة الكتابة فيه. هم يعتقدون أن الكتابة عن الجسد هي مجرد الكتابة الجنسية، رغم أن البون بينهما شاسع. كتابة الجسد، كتابة صعبة، لها معاييرها، تدلل في النهاية على تمكّن الكاتب إذا ما استطاع إتقانها؛ لأنه يدرك جيداً مواضعها التي يستطيع الانطلاق فيها، ومتى يستطيع الإمساك عنها، وعلاقة ذلك كله بالنص، ومدى استفادة نصه منها .لكن معدومي الموهبة يعمدون إليها بشكل مجاني؛ فتتحول معهم إلى كتابة جنسية مبتذلة لا معنى ولا ضرورة لها.

قرأت ذات مرة لناقد إنكليزي لم أعد أذكر اسمه الآن قوله إن: "الروائي الذي يلجأ إلى الكتابة عن الجسد، لا بد من أن يلتزم الكثير من الحذر، وإلا تحول نصه إلى بيت للدعارة"، وهي مقولة فيها الكثير من الحكمة والإدراك لماهية الكتابة، لا سيما الكتابة الجسدية التي أراها كحبل مشدود يسير عليه الروائي، فإما نجح في عبوره، أو سقط في هوة الابتذال، وهذا الأخير هو ما نراه بوفرة في كتابنا. الأمر الذي يغرق مكتباتنا بالكثير من الابتذال البعيد تماماً عن فنية الكتابة باسم الإيروتيكية التي لا يجيدونها، ولا يستوعبون مفهومها.

أرى الكتابة عن الجسد كحبل مشدود يسير عليه الروائي، فإما نجح في عبوره، أو سقط في هوة الابتذال، وهذا الأخير هو ما نراه بوفرة في كتابنا.

أنا مع الكتابة الجسدية، فهي فن صعب، يحتاج إلى الكثير من الدربة، والتيقظ، والحساسية، وليس الموهبة، لأنه يكاد أن يكون فناً هندسياً يمارس فيه كاتبه الكثير من الدقة، لكنه بالفعل مجرد فخ أشبه بالثقب الأسود القادر على اجتذاب وابتلاع كل الكتاب الموصوفين بالغثاثة، وانعدام الموهبة، ما يجعلهم يحولونه إلى ابتذال، وإلى تشويه سمعة الكتابة الجسدية، نتيجة قصور فهمهم وثقافتهم.

صفاء سالم إسكندر: عربياً لا يهمنا حضور الجسد سوى في عالميه الجنسي والسياسي

بالتأكيد، ليس عندنا من يستطيع أن يجعل من الجسد ثيمة عمل كما في رواية (جوستين) للماركيز دو ساد، وكيف يجعل من قهره وفوزه، شيئاً من إدراك الظروف التي يمر بها الإنسان المقهور.

ربما يعود ذلك إلى حساسية موضوعة الجسد في العالم العربي وما تعنية تلك الإشارات، وارتباطاتها الجنسية،كقارئ بسيط للروايات، ربما في الوقت الحاضر، هنالك من كسر هذا القيد، من كلا الجنسين، لكن ينقصهم الشيء الكثير من الحرفة، بمعنى الاستناد إلى ثيمة الجسد فقط، وهذا بحد ذاته لا يمنح العمل أية قيمة أدبية ما لم يكن مرتبطاً بفكرة العمل السردي ولغته.

لا أرى أن ثمة روايات كثيرة تناولت هذا الجسد السياسي المقهور كنوع من المفارقة التي يجب الاشتغال عليها سوى في روايات قليلة، ولأسماء معدودة، منها فاضل العزاوي.

أريد الحديث عن موضوع الجسد في الرواية العراقية، وتناوله من باب "السجين السياسي"، فلا أرى أن ثمة روايات كثيرة تناولت هذا الجسد السياسي المقهور كنوع من المفارقة التي يجب الاشتغال عليها سوى في روايات قليلة، ولأسماء معدودة، منها فاضل العزاوي. ثم عربياً لا يهمنا حضور الجسد سوى في عالميه، الجنسي والسياسي. فهل اشتُغل على هذا الموضوع بحضوره الروحي إذا صح التعبير؟

 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.