مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

قصيدة النثر والتجييل العقدي ـــ د. نادية هناوي

 



الأجيال الشعرية موضوع من موضوعات التاريخ الأدبي وشكل من أشكال الكتابة التاريخية/ الهستوغرافية. وتتفاوت أهمية التوثيق لها تبعا لطبيعة المعايير المعتمدة والمفاهيم الموظفة في دراسة الأجيال ورصدها. ولكل أدب أجياله التي تحددها معايير زمنية وفنية، ولا يكاد يختلف مؤرخو الأجيال حول تلك المعايير كما لا إشكالية كبيرة في دراستها بحسب نظريات المجايلة التاريخية، بيد أن تاريخ الأدب في العراق انفرد بخصوصية في مسألة رصد الأجيال الأدبية ومقايستها تتمثل في الأخذ بالمقايسة العقدية( عشر سنوات) معيارا زمنيا واحداً أو وحيداً. ولقد قفزت هذه الظاهرة إلى سطح مشهدنا الأدبي في ستينيات القرن العشرين ثم استشرت بين الشعراء والأدباء العراقيين حتى صارت مع مرور الزمن ظاهرة متداولة وموضوعا يحتل الصدارة بمقولات (الجيل الستيني وجيل ما بعد الستيني وجيل الحداثة وجيل ما بعد التغيير). من دون فرز أو تنقية القوي من الأسماء الشعرية. ولقد بدأ الانبهار واضحا على نقاد الثلث الأخير من القرن العشرين ثم صار الهوس بالتجييل العقدي متجليا عند كثير من دارسي الشعر العراقي المعاصر في العقدين المنصرمين من القرن الحادي والعشرين.
وإذا خصصنا حديثنا في قصيدة النثر، فإن المراهنة عليها لم تكن خالصة لوجه الفن إنما كانت أيضا وسيلة لترسيخ الجيلية العقدية. ولا يخفى أن ولادة قصيدة النثر كانت قد بانت طلائعها عراقيا في نصوص حسين مردان وعربيا في نصوص الشعراء الشوام وفي مقدمتهم أنسي الحاج بمجموعته( لن ) عام 1960 ثم محمد الماغوط وكذلك التجريب في قصيدة التفعيلة على يد ادونيس في ديوانه( أغاني مهيار الدمشقي) 1961.
 ومع بداية العقد السابع/ الستيني في العراق ظهر جيل شعري ثان غذّته روافد أنتجت الحداثة الشعرية الثانية؛ ومنها الرافد الفكري المتمثل في المضامين المستجدة عند شعراء تأثروا بالحداثة الشعرية الشامية، وبعضهم كان متصعلكاً وبعضهم الآخر كان محبطاً وثائراً فكانت قصيدة النثر هي الهاجس الممثل لتطلعاته. ومن الطبيعي جدا أن تكون من تبعات هذا التوجه في التجريب الشعري، التحفيز نحو كتابة قصيدة النثر.
وقد قسّم الأستاذ فاضل ثامر الحداثة الشعرية إلى مرحلتين: الأولى تمثلها حداثة قصيدة التفعيلة التي وضع الشعراء الرواد تقاليدها في الخمسينيات وما بعدها، والثانية تمثلها حداثة قصيدة النثر التي وضعت أسسها في نهاية القرن العشرين. وعدَّ مجلة (شعر) اللبنانية رافدا من روافد هذه الحداثة لكنه تحفّظ على (حداثانية) هذه المجلة وعدّ حداثة يوسف الخال تنظيرية، مثلت المرحلة الأولى في الحداثة بينما حداثة ادونيس تطبيقية، مثلت المرحلة الثانية وعنيت بالتجديد الشكلي .
واستمر هذا الجيل يطوّر قصيدة النثر حتى صارت جنسا قائما بذاته وكثر الذين يداومون على كتابة قصيدة النثر وما زال شعراء اليوم يداومون عليها في سبيل ترسيخ بعض التقاليد الفنية التي يحتاج اكتمالها إلى مزيد من النضج الفني. وعندها يكون التحول الشعري ممكناً نحو جيل جديد قد يعود القهقرى إلى قصيدة العمود وقد يجمع معها قصيدتي التفعيلة والنثر وقد يبتكر قصيدته الخاصة. وهذا كله يظل مرهوناً بالمستقبل وما سيكون فيه من تجريب وفاعلية في الحركة الشعرية.
بيد أن القائلين بالتجييل العقدي وجهوا قصيدة النثر وقصدية كتابتها، وجهة جيلية. وكأن عدوى سامي مهدي وفاضل العزاوي قد أصابت من جاء بعدهم من الذين كتبوا خليطا هجينا يجمع النقد الأدبي بالتوثيق التاريخي وهمهم التعداد للأسماء والمواقف.
وليس من المنطقي تعميم التجارب المميزة والخاصة على عقد واحد، فيظهر شعراء العقد الستيني مثلا وكأنهم كلهم ذوو تجارب مميزة. هذا إذا علمنا أن التغاير الموصوف بأنه تجديد وتحديث مشروط فيه أن يكون ناجما عن توجس ثقافي واع وميلان خاص ومتحمس نحو التجريب كأداة بها يتحقق التنقيح والتعديل رفضا للإعادة والتدوير وبعيدا عن القطع والجزم وبتوال سريع يفضي إلى التغيير الذي نصيبه دوما الاقتناع كما هو الحال مع تجربة فاضل العزاوي أو تجربة سركون في تطوير أساسات قصيدة النثر التي أرساها حسين مردان أو تجربة عبد الرحمن طهمازي في وضع قواعد قصيدة النثر المطولة وتجريب فكرنة الشعر بطريقة استغوارية.
وكان سركون بولص قد ذهب إلى أن قصيدته (صديق الستينات) التي كتبها في بداية الثمانينات، تمثل جانبا مما كانت جماعة كركوك تعمل عليه وتجرب فيه شعريا. وأن التطرف إلى أقصى حد كان سمة ملازمة لكتابات بعضهم منذ البداية. ومما أكده أيضا أن (مجلة الكلمة هي المهمة بصفتها المنبر الحاضن للجديد ـ أي قصيدة النثرـ منذ عددها الأول واذكر أن صاحبها حميد المطبعي ... قد تخلى عن الشعر العمودي ليكتب قصيدة النثر) . وسنناقش في ما سيأتي ثلاثة أوصاف لقصيدة النثر اعتمدت المقايسة الزمنية العشرية معيارا في تصنيف شعرائها:
ـ قصيدة النثر( الستينية)
لا يوصف كتاب( ثياب الإمبراطور) بأنه تنظير في التجييل العقدي لكن مؤلفه الشاعر فوزي كريم وهو يمركز موضوعة الحداثة الشعرية في شكلها الأول/ الشعر الحر وفي شكلها الثاني التطويري/ قصيدة النثر، مال إلى تأكيد أهمية الحداثة، موجها القارئ في الفصل المعنون( مرايا حداثة الستيني: حوار حول الحداثة وقصيدة الشعر الحر ) إلى وجود جيل تشكل خلال عقد الستينيات، ولكنه ناقش ولادته بالضد من فاضل العزاوي وسامي مهدي من خلال:
أولا/ أنه تقصد مساءلة فاضل العزاوي حول القارة الفائرة التي طرحها الأخير في كتابه( الروح الحية) موجها إليه تساؤلات كثيرة هي بمثابة تمهيدات بنى عليها قاعدة التشكيل الجيلي لقصيدة النثر، قائلا:( أتساءل عن العناية بهذه القارة الفائرة تحت أقدامنا ؟ على الرغم من التباسها؟ لمَ لم تشغل فاضل يوما؟ ولم لم تنصب مقالته الطويلة هذه أو أي من مقالاته السابقة منذ البيان الشعري على تحليل لهذه اللوعات البشرية التي تطلع من هذه القارة الفائرة؟لم لم تشغله المعاني التي فجرها ظهور العقل العلمي؟...اما كان الأجدى للشاعر فاضل ان يكشف لنا عن الإنسان المستقبلي فيه وكيف يرى المستقبلي هذا التيار الدموي من القتلى والخراب المنحدر أبدا إلى حافة المغيب والنهايات ..لمَ لم يصرف وقتا أجدى لتأمل مصادر هذا الوهم وتلمس بشرته ؟ لمَ لم يشغل كتابته كما يشغلها زميله الحضاري في الغرب بمشكلة الأنا المرضية أنا  النرجسي والانا التي تشف عن روح الكائن الإنساني وروح الجماعة مثلا؟ )
ومراد الشاعر فوزي كريم من هذه التساؤلات هو تفنيد ما أدعاه العزاوي في الشاعر الستيني من طليعية وحيرة وتفكر وارتياب في كتابة القصيدة، قائلا:( أنني لم اقرأ جملة لفاضل العزاوي على كثرة ما قرأت له تشي بهذا الارتياب وهذه الحيرات ربما يتحدث عن الحيرة والشك والارتياب وملحقاتها من الحزن والقلق والخوف .. قد يقول انظر إلى شعري ولا تنظر إلي فالشعر هو مرآة الكائن وهذا حق على أن لا يكون اتجاه الشعر متنافرا تماما مع اتجاه الشاعر حتى يقفا ضدين) 
ثانيا/ تغليب الفن على الموضوع، ولّد بحسب فوزي كريم مفارقة( ساهمت في تعميق الهوة بين الفن والتجربة، بين المخيلة والذاكرة ، بين الأسطورة والتاريخ، وبين الصنعة والحياة.) . وأساس المراوغة هذا التحليق اليوتوبي بعيدا عن الواقع الحقيقي المشحون بالمآسي. أما الخداع فهو في اكتراث الشاعر الستيني بالحداثة (من دون الرغبة في استعادة الموروث بروح نقدية عالية تتحمل مسؤولية أخلاقية اشد وطأة أمام هذا المنحدر العربي المتسارع) .
وبالمراوغة والخداع يكون فاضل العزاوي من دعاة القطيعة مع جيل الرواد( نازك والسياب) ومع من ألغى من الشعراء في اتجاه القصيدة الحديثة/ قصيدة النثر. وهذه القطيعة تعني ان هناك ريادة بديلة يجدها العزاوي تتجلى في الشعر الجديد الذي هو قصيدة النثر. ويؤاخذه فوزي كريم على ما تقدم بأمرين: الأول أن فاضل لم يذكر اسما واحدا لهذا الشعر الجديد والثاني أن قوة الإلغاء التي يتحدث عنها هي نفسها قمعية الأعلام التي( لا تميل إلى التفصيل والشواهد وهي تنطلق من نقطة ليست وليدة حوار بل وليدة قناعة يقينية لا تتطلب عناء المحاججة وعناء الإقناع ..وليس غريبا في هذا المناخ ان ترد مفردات تنتسب عادة لأدبيات الإعلام القمعي وأولها مفردة الخيانة فلقد تكررت أكثر من مرة في مقالات فاضل.)  وبمجيء هذا الوصف بالخيانة في خضم التوصيف بالمراوغة والخداع يكون فوزي كريم قد دسَّ بغضه وأعلن عن نقمته بشكل غير مباشر وهو يستشهد بقول لأحد شعراء التجييل هو عبد القادر الجنابي ينقله من كتابه( انفرادات) مفاده( إذ ثمة من خانوا جيلهم أيضا بهذه الطريقة أم تلك في فترة تالية..وما من جيل تعرض إلى الخيانة كما تعرض له هذا الجيل..الشعر الخائن الذي يعرض نفسه في سوق النخاسة ) 
وخارج إطار هاتين الطريقتين فان هناك مواضع أخرى نلمس فيها مثالب جديدة، حتى كأن كتاب( ثياب الإمبراطور) مكتوب من أجل النيل من فاضل العزاوي بوصفه هو المخصوص بوهم الحداثة في دفاعه عن قصيدة النثر (فاضل يريد ان يجعل الشعر نثرا أو النثر شعرا بأي ثمن)  ولان من يقرأ (فاضل العزاوي يخلص إلى ان الجيل التالي بعد جيل الرواد ممن واصل الحركة والتغيير داخل نظام التفعيلة في العراق وفي العالم العربي لم ينتج لنا سوى جثث قصائد)  فليس في قصيدة النثر ـ بحسب فوزي كريم ـ أية حداثة شعرية لأنها ليست من الشعر أصلا، وكي يثبت ذلك قدم قراءة في عينة من نصوص فاضل العزاوي  فوجده لوحده ـ وخلافا لشعراء الستينيات ـ من شعراء المتدارك( كل الشعراء العراقيين من جيلنا الستيني..كتبوا قصيدة التفعيلة بأنواعها المعروفة كل وفق صوته الخاص ومن ضمنهم فاضل العزاوي في أواسط الستينيات . أما شعراء المتدارك فلم يكونوا إلا فاضل العزاوي وحده دون غيره)  وقال في موضع آخر:( إن فاضل عرف شعر التفعيلة بنفس مواصفات الشعر الحر الانكليزي في اللحظة التي كان يعني بها شعره هو المعتمد على المتدارك) 
أما دفاع فاضل العزاوي عما سماه (قصيدة الستينات) بأنها اختارت أن تضع نفسها قريبة من إيقاع النثر، فرد فوزي كريم بالقول:( إن فاضل يبني عمارة من افتراضات لا دليل عليها فالشعر الستيني لم يضع نفسه قريبا من إيقاع النثر هذا إذا ما رأينا الشعر الستيني في العراق متمثلا بشعرائه: حسب الشيخ جعفر ياسين طه حافظ ..ولعل الوحيد الذي كتب قصيدة النثر آنذاك وانصرف إليها هو مؤيد الراوي ..فاضل إذن يعني بشعر الستينيات شعراء كركوك وحدهم هو وسركون ومؤيد وجان دمو وصلاح فائق لأنهم انصرفوا في آخر المطاف إلى النثر) .
وفي الوقت الذي لا يتنازل فيه فوزي كريم عن كرسي التجييل العقدي والتربع على عرش الشعرية الستينية( ان جيلنا قد تلقف حداثة الرواد واعتمادها التفعيلة بإذن غير مهزوزة بالدربة الموسيقية خارج حدود اللغة)  فانه أيضا لا يتوانى من تسفيه تنظيرات فاضل العزاوي لقصيدة النثر، وتفنيد ادعاءاته بوصفه مرة منتحلا( لحداثة المستقبل لم يأت بسبب تطور داخلي طبيعي في البنية العربية وإنما جاءها من الخارج)  وبوصفه مرة ثانية غير موفق في( نصه النقدي المستحيل)  وبوصفه مرة ثالثة متحمسا حماسا( شبه ديني وطقسي لجيل الستينات يشف عن حماس أكثر خطورة للذات.. والاحتفاء بالنفس) .
ـ قصيدة النثر ( السبعينية)
القول بالقطيعة شعار رفعه بعض شعراء قصيدة النثر، وتفاوتت درجة التركيز عليه من شاعر إلى آخر، فكان زاهر الجيزاني في كتابه( الموجة الجديدة) أن افترض قصيدة النثر صانعة لجيل جديد( سبعيني) نهض من الرماد لا سابق له، ولا لاحق هو( الجيل الشعري الجديد الذي أصبح له عمر وتاريخ من النصوص الشعرية الغزيرة والمتنوعة الرديئة والجيدة المتجاوزة والمراوحة وبعد هذا العقد من السنين تقدمت أصوات وتراجعت أخرى وأضيفت أصوات جديدة ) 
وإذ ليس منطقيا ان ينهض جيل بلا سابق إنذار لوحده كالمارد فان الجيزاني يهيئ الأذهان للطريقة التي تم بها هذا النهوض الفنتازي لقصيدة النثر قائلا:( هذه البانوراما العريضة لشعر اليوم تكشف عن المدى الذي قطعته حركة الشعر الحديث في العراق لجيل محدد وفترة زمنية محدودة فالجيل هو جيل السبعينات والفترة الممتدة من أواسط السبعينيات إلى أواسط الثمانينات مع الانتباه إلى بعض الأصوات الشابة التي ظهرت مؤخرا وهي تحمل بذرة التفاؤل والمواكبة من اجل حضور شعري مستقبلا.) .
 وليس من دافع وراء هذه الحماسة في نهوض قصيدة النثر في العقد الثامن/ السبعيني سوى أن الشاعر/ المؤلف لا يعد نفسه واحداً منهم حسب بل هو المدافع عنهم والذائد عن حاضرهم ومستقبلهم وله اليد الطولى في إثبات حقهم بين الأجيال التي لا شأن لها يقارن بشأن الشباب لأن مدة نفاذها انتهت وصلاحيتها للبقاء ذوت واضمحلت. ومفردة الشباب تتكرر عنده وكأنها وصفة سحرية لنهوض الموهبة أي أن من لم يشهد نهوضا للموهبة في شبابه فلا نهوض إبداعيا له في كهولة أو طفولة. وهذا التصور البايولوجي لقول الشعر على فكاهيته فانه غير منطقي لان الإبداع ليس له عمر محدد ولو كان صحيحا لما بدا تولستوي تجربته الروائية في سن الخمسين ولما ظل ادونيس يقول الشعر وهو في التسعين ولما كتب السياب هذا المنجز الكبير وعمره لم يتجاوز الاربعين.
ويبدو أن تأثر الشعراء بالتجييل العقدي دفعهم إلى سلوك هذا المنحى غير الطبيعي في مقاطعة شعراء قبلهم كتبوا قصيدة النثر. وهذا ما أدركه الجيزاني نفسه لكنه برر الأمر بالقطيعة متحدثا بضمير الجماعة عن( جيله!!) قائلا:( ما دمنا غير متعمدين هذا النمط من الكتابة فلا نجد تفسيرا غيره فهناك استبدال واضح للمكان بالحلم واستبدال المراقبة وعمل الحواس بالمخيلة) .أما كيف اثبت أنهم جيل لوحدهم فأولا بالقول (نحن شعراء قصيدة النثر ) وثانيا بجمع مختارات لشعرهم (السبعيني) ( الكتاب مختارات شعرية لأصوات شابة جديدة ظهرت منذ سنوات قليلة) ووضع الجيزاني نصه أول النصوص بوصفه المتحدث عن الجيل والناطق باسمهم. وتعود النصوص التي بعده إلى مجموعة شعراء هم (سلام كاظم وخزعل الماجدي ورعد عبد القادر وكمال سبتي وفاروق يوسف) ولا وجود لشاعرة بينهم. ونتساءل إذا كان هو وأقرأنه( الشباب) يشكلون (جيلا) عمره عشر سنوات فهل ظلوا شبابا من بعد انتهاء العقد يقولون الشعر أم صاروا كهولا أو شيوخا فتركوا الشعر لأن قطار العمر مر وأخذهم معه؟!!
إن وبال هذه القطيعة وخيم، لا على الشعرية وحدها بل النقد الادبي ايضا، لبطلان فنية معيار الزمان العقدي ولان الاستمرار في الخطأ ومحاولة مناكدة السابق والتميز على اللاحق أفضت إلى شيوع مقولة( الشعراء الشباب ) وفتحت المجال لقيام منتديات ومهرجانات باسم الشعراء الشباب وهذا ما يتعارض مع قانون الإبداع الذي لا عمر له ولا سن ولا زمان ولا مكان ولكن له آثار تتضح في النصوص وليس في قائليها .. وما شأننا بشاعر مخضرم أو مخمور أو صعلوك أو صريع أو مخبول لكن شأننا بشعره وجماليات شاعريته!!.
وما عرف تاريخ الأدب الاجيال إلا لأنه يريد للإبداع أن يتطور والزمان الذي حدوده القرن أو نصفه وربما ربعه معيار من معايير هذا التطور.
ـ قصيدة النثر ( الثمانينية)
يعد كتاب(حطب إبراهيم)   للشاعر محمد مظلوم امتدادا للروح الحية وتقليدا واضحا للموجة الصاخبة، وفيه اتخذ المؤلف من قصيدة النثر وسيلة لإثبات الفرادة جريا وراء فاضل العزاوي الذي يعد من أوائل المراهنين نقديا على جعل قصيدة النثر ظاهرة جيلية أدبية.
وهنا نتساءل: إذا كانت قصيدة النثر هي الجاذبة لشعراء الثمانينيات فلماذا إذن نفى المؤلف عن نفسه كتابتها وادعى انه امتداد لجيل الرواد؟!
بدأ محمد مظلوم كتابه بتتبع بدايات كتابة قصيدة النثر في الغرب، مبينا ان الألماني سالمون غيسز سبق بودلير بقرن في كتابة قصيدة النثر بديوانه "قصائد ريفية" المنشور عام 1756 وان الأدب الانجليزي عرف قصيدة النثر مبكرا على يد توماس ديكوينسي في ديوانه( اعترافات انكليزي مدمن على الحشيش ) وعد رواية(يوليسس) لجيمس جويس قصيدة نثر كبرى . وحين انتقل الى أرخنة قصيدة النثر في العراق، لم يستقر على رؤية واضحة في ما سماه بدوية القصيدة واحتطاب الشعر.
وكما تكلم الشاعر سامي مهدي عن سبقه في كتابة الشهادة الشعرية، كذلك تكلم محمد مظلوم عمن سبقه في تجييل شعراء الثمانينيات في عقد التسعينيات. وبغض النظر عن عقدة تضخيم الذات، فان وقوع محمد مظلوم تحت تأثير سامي مهدي كان واضحا أكثر من فاضل العزاوي. ولان قصدية محمد مظلوم من وراء التجييل تصب في باب البحث عن الفرادة، لذا قرر أن للشعر أطوارا كأطوار الدولة( بطولي/ نبوي/ فني/ بدوي) مفترضا ان شعره من الجيل البدوي المتصف بالحرية المطلقة والروح الوثنية وعدم الاندماج بالمكان وقراءة الطالع والاحتيال والتعصب. وهي عنده صفات بطولية اتصف بها( عدد كبير من شعراء هذا الجيل عبروا الحدود أو غامروا بعبورها وهم لا يملكون جوازات سفر. إنهم بدو لان تخوم حياتهم تقع بين الحرب والمنفى بين جوقة الحطابين الذين يعدون نارا لإحراق المستقبل وبين المدن التي يصلونها ولا يجدون حياتهم)  وانحاز المؤلف إلى الشعراء المهاجرين والمغتربين ( لا أحد من الثمانيين كان مشدودا إلى أرض أو تراب بالمعنى البدائي طالما كل أرض هي أرضه) ، وزعم أنهم( كانوا كثيري الكتابة والمغامرة حياة وشعرا كثيري التحاور والقراءة قليلي النشر والتنظير) . في مقابل انتقاص قدر شعراء الداخل العراقي الذين عدهم محمد مظلوم متخاذلين وجبناء وغير فاعلين، بل هو خون مجايليه الذين لم يهاجروا ملصقا بهم صفات التعبئة والتدجين والتسويق، متناسيا أن الخوف من التسويق إلى الحرب كان سببا في هروب الكثيرين خارج العراق.
وانطلاقا من القصدية في تنزيه الذات وامتداح النفس، عدد محمد مظلوم شعراء قصيدة النثر المدجنة مثل رعد بندر ولؤي حقي وعبد الرزاق الربيعي. ومثلما تكتل الشاعر سامي مهدي لشعراء معينين منهم حميد سعيد وخالد علي مصطفى، فكذلك تكتل مظلوم، وحلل قصائد عبد الحميد الصائح وصلاح حسن وناصر مؤنس ونصيف الناصري وعبد الزهرة زكي وضياء الدين العلاق وسعدون حاتم.
ختاما.. يستمر شعراء قصيدة النثر ونقادها من القائلين بالعقدية في تغليب هؤلاء وترك أولئك بلا تصنيف موضوعي ولا اهتمام بشرائط المجايلة وما تقتضيه من توثيق وإحصاء. وكان حريا بهم ترك الامر للتاريخ الأدبي يكتبه أهله المؤرخون، بدل أن يسعوا هم إلى تقطيع الحركة الجيل الشعري، وتبرير القطيعة بالتقسيم المفتعل لخطوات الفاعلين فيها كآباء وأبناء مع أن الزمن بينهم بضع سنوات لا يكفي لجعل السابق أباً، ولا يشرعن للاحق أن يكون ابناً.

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.