مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

من ذكريات حسين مردان.. هكذا دخلت مدينة بغداد وهكذا عرفتها - حسين مردان

 



فجأة قررت هجر المدرسة والمجيء الى بغداد.. كنت حينذاك في العشرين من عمري، كتلة نار وسيوف.
وتلقفني شارع الرشيد.. الفساتين الملونة والزجاج.. وقلت لنفسي من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو قمة الجبل. وكانت الدهشة تشدني من كل جانب حتى وصلت الى (مقهى الزهاوي) حيث يجلس محمد هادي الدفتري وخضر الطائي وعبدالرحمن البناء.
وكانت حماستي الجهنمية وولعي الشديد بالمناقشة والجدل، وافكاري المتطرفة في الشعر والادب قد وضعتني تدريجيا في المكان اللائق بين اصدقائي الجدد.
وفي تلك الايام الرهيبة التقيت بوجه الجوع الاصفر،، فكنت لا اتناول في اليوم اكثر من وجبة واحدة،صمونة نصف سمراء مع كأس من الشربت.اما النوم فهو المشكلة الرئيسية التي كانت تشغل اكبر مساحة من ذهني،، وقد وجدت الحل اخيرا في عدم النوم، فكنت اذرع المدينة عرضا وطولا الى ان يبزغ الفجر، وعندما كان يهيمن النعاس على عيني كنت الجأ الى اقرب بستان للحصول على غفوة صغيرة. وكان عدوي الوحيد في تلك الفنادق الهوائية هو البعوض.. ولم ازل امقت هذه المخلوقات اللئيمة حتى هذه اللحظة.
وكانت الزيارات بين ادباء وشعراء المقاهي عادة طريفة تشكل نواة متفجرة للحوار والمصادمات الادبية.. وكانت جماعة مقهى (حسن العجمي) تضم البراك والجواهري وجلال الحنفي وكمال الجبوري وغيرهم.. وكنا نحن ادباء الشباب نعامل كل هؤلاء بتقدير فائق، وكانوا بدورهم يشيدون بنتاجاتنا فيساهمون بدفعنا للتجديد والابتكار، وشيئا فشيئا بدأت اصبح نقطة لتجمع ادبي جديد، فانتقلنا ومعي كل من رشيد ياسين وبلند الحيدري وزهير احمد القيسي الى (مقهى البلدية) وكان شعراء وادباء الكليات يهرعون الينا بمجرد الانتهاء من دروسهم، ومن هؤلاء بدر شاكر السياب عبدالرزاق عبدالواحد واكرم الوتري..
كانت تلك المقاهي جامعات حقيقية للادب والشعر، وكنا نعيش في جو من الصداقة الصميمية.. ومع اننا لم نكن نمارس التفكير السياسي بصورة جدية فقد كانت حياتنا سلسلة من العذابات والحرمان.. الا اننا كنا نمثل اسلوبا فريدا من ناحية تطبيق الاشتراكية.. فعلبة الدخان التي كان يملكها احدنا تطرح على الطاولة لتكون مشاعة للجميع.. وكان اكثرنا مالا هو الذي يدفع ثمن اكواب الشاي.. واحيانا كنا نفرض على ادباء دار المعلمين العالية دعوتنا الى تناول الطعام في مطعم الكلية.. وفي الواقع كنا نحسدهم كثيرا، ولطالما طلبنا منهم ان يصفوا لنا الاكلات الشهية والفواكه ليأتى بها الينا.. كذلك كنا نشترك في نظم القصائد وكتابة المقالات النقدية. ولعل الاخ زهير احمد القيسي هو الوحيد الذي لم يزل يحتفظ بتلك المنظومات التاريخية.. وكان رشيد ياسين من عناصر الازعاج بيننا فقد كان يستغل معرفته بالنحو لاثارة بعضنا، فكنا نتهمه بالجمود وقد نذهب الى ابعد من ذلك فنسخر من سيبويه وكل فلاسفة اللغة.. وهكذا نضطره الى السكوت ثم الضحك. وبعدها تحولنا الى (مقهى الدفاع) وهنا التحق بمجموعتنا عدد من المثقفين والكتاب وعلى رأسهم المسرحي صفاء مصطفى وكمال القيسي والممثل يحيى فائق وغائب طعمة فرمان، ومصطفى الفكيكي – صاحب مجلة الراصد الان- وفي هذا المقهى بدأت محبتنا للشطرنج، حيث كان يلتقي اباطرة هذه اللعبة كالسيد عبدالرزاق المدرس والشيخ عبدالكريم الطحان الذي يعتبر مؤسس المدرسة العراقية في هذا الفن، ومن هذه الاجواء بالذات ولدت الشخصيات الحقيقية لرواية (خمسة اصوات).
وفي تلك الفترة وصل جبرا ابراهيم جبرا الى العراق وانضم الى جماعة (كافيه سويس) والتي كانت ترتبط بنا ايضا ولكننا لم نكن لنهتم بهم كثيرا لما يبدو عليهم من مظاهر الترف البرجوازي ومن هؤلاء الرسام جواد سليم ونجيب المانع وعبدالملك نوري ونزار سليم،، وكان ساطع عبدالرزاق هو حلقة الوصل بين الجماعتين، وقد استطاع بمساعدة بلند الحيدري سحبي الى ذلك المقهى الانيق، ولكن وفائي الطبقي كان يدفعني الى العودة الى اصدقائي القدماء، واخيرا قررت الانتقال الى المقر الجديد في (مقهى الصباح) في باب المعظم. فقد كان السأم من وجوه الزبائن المدمنة وتكرار المنظر الواحد من الاسباب التي تدفعنا الى الانتقال من مكان الى آخر، ولكننا قد نتحمل كل شيء اذا كانت علاقتنا بصاحب المقهى مرنة وودية، ولكل كلمة من هاتين الكلمتين اكثر من معنى واحد.. فالمرونة تعني الاستجابة لطلباتنا الكثيرة وعدم الالحاح باسترجاع الديون المتراكمة! اما بالنسبة للمودة، فنحن نريد من صاحب المقهى ان يستقبلنا ويودعنا بالترحيب والابتسام.
كانت جلساتنا الطويلة تبدأ من شروق الشمس ولا تنتهي قبل الساعة الثامنة مساء حيث نتسرب الى الحانات المجاورة لمنطقة الميدان، والذي كان قلب بغداد النابض حينذاك، والحقيقة ان المقهى كان يعتبر البيت الدائم لكل منا، وحتى الاعضاء الذين كانوا يقيمون في بغداد كانوا يتناولون الغداء معنا في اكثر الاحيان وكنا نقدر مثل هذه التضحية العظيمة، لانهم يحرمون انفسهم من اطايب الطعام من اجل البقاء بقربنا، واذا حدث وذهب احدهم لرؤية اهله فانه سرعان ما يعود لكي لاتفوته زيارة بعض الادباء لنا، فقد كان عدد الزوار يزداد يوما بعد آخر، ومن هؤلاء الدكتور محمد جواد رضا الملقب بـ(دعبل) والشاعر كاظم التميمي والناصري وصفاء الحيدري والكاتب عبدالرزاق الشيخ علي وعبدالصاحب الملائكة والناقد طالب السامرائي، ولم يكن هذا الزائر او ذاك ليأتي لمجرد رؤيتنا فقط، بل ليقرأ علينا قصيدته او قصته الجديدة، وكانت مثل هذه الاعمال الادبية تطرح من قبل صاحبها للنقد والمناقشة بكل تواضع للحصول على تزكيتها او الحكم باعدامها وقد يستمر الجدل حول قصيدة واحدة ساعات طويلة، وغالبا ما كنا نحن الذين نقرر صلاحها للنشر،، فقد كنا نسيطر عن طريق غير مباشر على الصفحات الادبية التي كانت تخصص في بعض الجرائد، حيث كان معظم المشرفين على تحرير تلك الزوايا الادبية من حاشيتنا، وكان باستطاعتنا ان نثلم شهرة اي شاعر او اديب يحاول الخروج او التمرد على مفاهيمنا الادبية والفنية، اما المجلات الادبية العالية فقد كانت هي الحلم الاوحد الذي يقوم ويقعد معنا، فعندما كان يحصل انسان ما على امتياز مجلة ادبية، كنا نركض اليه من المقاهي كافة لكي نضع مجلته ضمن نفوذنا الادبي، واذكر بهذه المناسبة ان واحدا من هؤلاء قد طلب من عبدالملك نوري قصة لاتحمل اي طابع سياسي وطلب مني قصيدة خالية من الصور الجنسية وقصيدة من عبدالوهاب البياتي بعيدة عن الاشارات الثورية، وعندما قلنا لماذا؟ اجاب وهو يتلفت حوله: لانني اخاف من الحكومة! وعندئذ صحنا بصوت واحد.. ولذا نقترح عليك ان تطبع الغلاف وحده وتكتب عليه.. بما انني اخشى السجن فقد قررت اصدار مجلتي بهذا الشكل الفريد.. وهنا كان لابد لنا من ان نمنح هذا المتأدب المسكين احد الالقاب البهلوانية التي كنا نطلقها على امثاله، وقد فاز بقلب (الطائر الخرافي)..
مجلة الف باء في اذار 1969

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.