مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

صلاح الدين الأيّوبي .. ليسَ زعيماً حَقيراً !! مقال ضدّ نهش التاريخ وتشويهه - سيّار الجميل

 


كنت أتمّشى يوما في صيف  1978  أحاور أستاذي المستشرق  ديفيد جاكسون  في  حدائق جامعة سانت اندروس الاسكتلندية، سألته: من هو أعظم الزعماء في نظرك عبرَ التاريخ؟ أجابني مباشرة : صلاح الدين الايوبي الذي  كتبت عنه رفقة الزميل  لايونز كتاباً كبيراً، وهو بطل حقيقي حاربه المسلمون أكثر من أعدائه الصليبيين !! واليوم، تجتاح  ثقافتنا العربية عاصفة هوجاء أبطالها مثقفون عرب يعادون تاريخهم عداءسافراً، ويخالفون الحقائق، إذ أخذوا ينهشون  فيه وفي  رموزه ، ويسيئون الى بعض صفحاته الناصعات، وتتحّكم في أغلبهم نزعاتهم السايكلوجية الموروثة،أو تربيتهم المنحرفة، أو بيع ذممهم كي تصل حماقاتهم الى درجة أسوأ من كلّ الاعداء الألّداء لنا في العالم .أيّ تتفوّق عداءاتهم الطائفية ضدّ تواريخهم ورموزهم على كتابات الخصوم من مستشرقين وصهاينة ومناوئين لتاريخنا ووجودنا. وكم تمنّيت أن تتمّ كتابة التاريخ بموضوعية، وأن يحكم التوازن أصحابها في دراسة الشخصيات المؤشكلة، وفهم الكليّات كاملة من دون إجتزاءات مقصودة ينقسم حولها   الناس  .
لا أحد ينكر ما يمارسه المخالفون العرب، وهم يشوّهون التاريخ، لأسبابٍ طائفيةٍ ومذهبية  وعرقية وأيديولوجية .. والمرء يقف ، بين  حين وآخر ، على نماذج منهم ، وهم يصدّرون أحكامهم  القاطعة ،وتوصيفاتهم الجائرة، وكأنهم يمتلكون الحقائق بتحريفهم المعلومات، وتشويه كلّ الأسانيد، وإختلاقهم شتّى الاتهامات والطعون ، وتضخيمهم الأخطاء .  وهم  بلا مناهج نقدية ، ولا  مصادر  موثوقة لديهم،  ويمهرون في القدح والذم و إطلاق الشتائم  بإسم  التاريخ الحقيقي ، وكلّهم من  المتطفّلين  على كتابة  التاريخ .
صلاح الدين شاغل الدنيا  منذ أكثر من 900 عاماً ، ولم يكن نائماً  أيقظه عبد الناصر
أطلق الروائي الاستاذ يوسف  زيدان من  مصر وصفاً ظالماً على  صلاح الدين الايوبي، إذ  قال  في  حواره مع  الاعلامي عمرو  أديب : ” إن  صلاح الدين  واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ الانساني” !، وإتهمه عدّة  إتهامات جائرة لم يكن لها أيّ أساسٍ من الصحة  أبداً  ..  هنا  أتوقف قليلا للردّ ، فتدليس الحقائق التاريخية  التي يغيبونها لأغراضٍ  سياسية  وأيديولوجية ومأجورة هي  بضاعة هذه الأيام بوجود فوضى فكرية ضالة ،  فالزعيم  صلاح الدين ، وهو من أصل  كردي وثقافته عربية وتربيته أتابكية زنكية، كان  بطلاً  ريادياً تاريخيا لمئات السنين قبل  أن يلمّع  الرئيس جمال عبد الناصر صورته في فيلم أخرجه الفنان يوسف شاهين  عام 1963 بإسم ” الناصر  صلاح الدين”، ولم  يكن  مجهولاّ حتى  يعرّفنا به الرئيس عبد الناصر، بل كتب عنه أبرز  المستشرقين الكبار، وإعتنوا بسيرته ومنجزاته الكبرى ومشاكله مع معارضيه الغلاظ من الباطنية والحشاشين، وقد كتب عنه جرجي زيدان قبل أن يولد عبد الناصر، ناهيكم عن دراسات كبار المستشرقين الذين لم يحرضهّم عبد الناصر ويشتريهم ليكتبوا عن صلاح الدين ، ومنهم : هاملتون كيب ورنسيمان وستانلي بول وبوزوورث وكلود كاهن ودي سلان وبرنارد لويس وسوفاجييه وستيفنسون ولايونز وجاكسون وقد وصف أحدهم  صلاح الدين  أنه أشرف  محارب  عرفه  التاريخ  كونه  أخرج  الأعداء  الاسرى  من  ملوك اوربا  والاباطرة  ورجال الدين المسيحي من القدس  دون أن يمسسهم بأذى ثم إقتحمها  .. وقد إعترفت عندما كتبت سيناريو"النسر الأحمر " ببعض الأخطاء وقع فيها صلاح الدين جراء إحتدام الصراع ضدّه، ولكن في المحصلّة كانت منجزاته التاريخية أكبر بكثير من أخطائه  ولا يستحق ابداً وصفه بـ "الحقير" ، فذلك غير لائق أبداً احتراماً لنا أنفسنا أمام العالم ! اذ لا يمكن قياس زعماء القرن الثاني عشر بزعماء القرن العشرين !
النسر الأحمر : سيناريو فلم دولي لم يتم!
أزعم أنني  خبرت  تاريخ  الرجل  بجزئياته كلّها بعد  كتابتي  سيرته الرائعة في  سيناريو  سينمائي  دخلت به مسابقة دولية فزت بها  بعد أن أسميته ” النسر الاحمر .. صلاح الدين الايوبي”  بأكثر  من مائة وعشرين مشهداً ، وكان سيخرجه فيلماً دولياً المخرج الراحل مصطفى العقاد، لكن  عوامل سياسية وخلافات دول عربية حالت دون تنفيذ " المشروع" وكان  القدر بالمرصاد للصديق العقاد رحمه الله ، وقد نشرت السيناريو في كتاب صدر عن الدار الاهلية منذ 1997. وعليه، فإنني أعترض بشدّة على أوصاف مقذعة وشتائم تطلق على رمز كبير في تاريخنا الوسيط، والذي  يشكّل بإنجازاته علامة تاريخية فارقة، فكيف يمكن أن يكون رمزاً مخفياً أحياه عبد الناصر؟  واذا  كنتم ضد سياسات عبد الناصر في القرن العشرين، فما دخل  صلاح الدين بها  وهو ابن القرن الثاني عشر، حتى  ينعت  باسوأ النعوت ؟ علماّ  بأن أغلب  الدول العربية  قد  إتخذت رمزه " النسر "  شعارا  لها !
إنقسامات تاريخنا لا يتحملها صلاح الدين
لكلّ  عهد سياسي في التاريخ خطاياه ، وكانت كلّ  دول تاريخ الاسلام متصارعة أو متشاحنة في ما بينها، فالشيعة ضدّ الامويين في دمشق، والعباسيون  في بغداد ضدّ الفاطميين في مصر، وكان  صلاح الدين محسوباً على العباسيين،  وللعباسيين والفاطميين أخطاؤهم، فقد  عاشت الدولتان في العصور الوسطى، وإكتنز الخلفاء فيهما الأموال وإتبعوا  سياسات جائرة. وقد وصل  صلاح  الدين الى مصر بطلبٍ من الفاطميين أنفسهم، فكان أن حفظ الرجل مصر وحماها من الصليبيين، ولم يؤسّس دولته الّا بعد موت الخليفة الفاطمي الاخير، وكانت دولته متهرئة وهزيلة وفاسدة ، فأنزل أعلامهم الخضر ورفع  أعلام  العباسيين السود مغتنماً ضعفها وشللها ، فأعلن  دولته، وإلتف الناس حوله .. وإذا  كان قد  عزل من تبقّى  من  الاسرة الفاطمية الحاكمة ، وسجنها كي لا  تستعيد قوتها ثانية، فقد أعتق الاف الجواري والعبيد، كما إحتفظ  بـ  120 الف مجلد ،  وأمر بإحراق  كلّ  ما  يدعو الى  التشيّع الاسماعيلي الذي كان محارباً من الشيعة الاثني عشرية ، ومن جانب آخر، أعاد  الى مصر  هيبتها  في  وجه  الصليبيين بعد  دحره إياهم  في  معركة  دمياط  ومعارك  أخرى ، وقد وقف كل أهل مصر معه حتى الاقباط .
منجزاته التاريخية أكبر من أخطائه السياسية
تعدّ إنجازاته إنتصاراً تاريخياً، ولا  يمكن  إنكار دوره العظيم  في  معركة حطين  الشهيرة، أو دوره البطولي والانساني في فتح بيت المقدس، وفكّ  حصارات عسقلان  والكرك وصور  وعكا  وتحرير  بلاد الشام من الصليبيين ..وبواسطته تساقطت الحصون وتحركت  سراياه  في  كلّ فلسطين ، وتوّحدت  المنطقة حتى  الموصل.. وهذا  ما لم  يفعله  غيره أبدأّ. أيحقّ، بعد  هذا وذاك، ان ينعت  صلاح  الدين بأنه أحقر الشخصيات في التاريخ؟؟  علينا أن ندرك أنه لم يحيَ في عصرنا الحديث،حتى  تطبّق عليه أحكامه وموازينه، فينبغي إعتبار تجربته ضمن معاييرالعصور الوسطى
لا  يمكن أن  نجد  زعيماً  ملائكياً  ومثالياً  بلا  أخطاء أو خطايا ، فهو إنسان  يحكم  أنواعاً متباينة من البشر،  وأن تاريخ أي  زعيم  وسيرته يكتنفها  الصواب  والخطأ،  وربما  كان  الصواب  خطأ  عند  بعضهم ، والخطأ  صواباً  عند  بعضهم الآخر ، وخصوصاً  وأن  مجتمعاتنا الاسلامية  قد  إحتدمت تنوّعاتها ، وتعدّدت  فصائلها،  وتباينت أفكارها  وإختلفت  سياساتها ومعتقداتها  ..  وإذا  عرفنا حجم  ذلك التنوع  والاختلاف  على  عهد  صلاح الدين  ، أدركنا  ثقل المسؤولية  التي  تقلّدها  الرجل  ، علماً  بأنّ  كلّ المؤرخين  اكدّوا  أن  انجازاته الكبرى  في  التاريخ  تتمثّل أساساً  في حمايته  مجتمعات الشرق الاوسط  قاطبة من التشرذم  والتفكك والضياع ، فقد  نجح  في  توحيدها، وإنتصارها على أعتى الأعداء، وردّ  كيد  الحملات  القاسية  التي  عاثت  في  بلداننا  فساداً  عشرات السنين ..  فكيف يكون  صلاح الدين  حقيراً  اذا  غلبنا  قوّة ايجابياته على  أخطائه  في  الداخل ؟ وحتى إن اتبع  سياسة  قاسية  ضدّ معارضيه المتمرّدين  من الحشاشين  والباطنيين وأرتال الخونة أمثال جوهر،والمتآمرين أمثال كمشتكين، وكلهم كانوا يناوئونه الحكم لفقدان  الخلافة الفاطمية  من مصر، وهم من بقاياها ، بإثارتهم  الفتن  والاضطرابات ، كما  حيكت  جملة  مؤامرات داخلية  وخارجية ضده ،  فهل  يتركهم  يعبثون يفعلون ما  يريدون ، وقد  حاولوا  اغتياله  عدّة  مرات وفشلوا ؟
صلاح الدين : الانسان والمثقف والزعيم
من يقرأ  سيرة  صلاح الدين الاولى  يجده مثقفاً  من الطراز  الاول  وعالماً وأديباً ، وكان  يحفظ  ديوان  الحماسة  لأبي  تمام، وقد  تضلّع  في علوم الدين والدنيا  والحياة ، كما انه تربّى في  قصور الاتابكة الزنكيين، سواء في طفولته في الموصل أم  في شبابه في دمشق، واكتسب  من أدبياتهم واخلاقياتهم الكثير،وأرسله السلطان نور الدين زنكي الى  مصر، من أجل  إنقاذها من الصليبيين، بطلب من خليفة الفاطميين نفسه في القاهرة ، وكانت  تعاني  ضعفاً  وتفككاً  في أواخر عهدهم  ليغدو  وزيراً في ظلهم،  ثمناً  لما  قدّمه لمصر ضدّ تهديدات الصليبيين وفرسان الإسبتارية البحريين وهي جماعات صليبية متشدّدة  وانتصر في معارك دمياط وغيرها وحما مصر . .
عانت الخلافة الفاطمية شللاً وانهياراً مع انقسامات  مخيفة، وإنتهت على يديه بعد  موت  الخليفة الاخير  العاضد، وإنتهوا بعد  مضي قرابة 250  في الحكم ، وعلى المؤرخ أن  يعلم  كم  حاربه الأعداء في الداخل .  وإذا خضع أحد المؤرخين لارادته، فانّ هناك جملة مؤرخين كبار سجلوا أدّق المعلومات، كابن الأثير،والاصفهاني، والبنداري،واحمد بن ابراهيم الحنبلي، وأبو  شامة، وابن شدّاد، والقلقشندي، وابن واصل، والوهراني ، والقاضي الفاضل،  والمقريزي وغيرهم . ولم  يسبّح هؤلاء بحمده ، بل  كتبوا سيرته كما  جرت..وأخضعت  أعمالهم  للنقد والتحقيق العلمي في العالم.
وأخيراً أقول :
لنكن أمناء وموضوعيين ونقادّا أخلاقيين في كتابة تاريخنا، وأن لا تنساق ثقافتنا العربية المعاصرة الى تشويهه ، بل إخضاعه للتفكير النقدي والمقارنات الموازية، وتحكيم الضمائر بمعزل عن العواطف والانتماءات والتوصيفات البذيئة .  وأخيراً، أعتب على  سكوت المؤرخين العرب المعروفين في جامعاتنا ومعاهدنا إزاء ما يطرحه بعض الكّتاب والمثقفين من التشوّهات التاريخية، والاساءات والبذاءات  ! ".
 وأحب اعلامكم بأنني كنت قد نشرت هذا " المقال " مختصرا  في العربي الجديد قبل سنوات وبالتحديد في  13 حزيران / يونيو 2018 ، وأعيده مفصّلا  اليوم على المشرحة .

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.