مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

تلك الساعة - احمد منجود

      


تمدد في وهن على سريره المفروش بأشواك المرض والقلق.. يقلب نظره المكروب في سقف غرفته الأبيض النظيف ككفن جديد، و لم يلبث أن هجمت عليه المخاوف: إنك ستموت.. وهؤلاء الصغار في مهب الريح من بعدك.. وما ستتركه لهم قليل.. لا يقيهم عواصف الأيام، ولا يبعدهم كثيرًا عن مزبلة الاحتياج. حتى هذا القليل سيجدون من يشاركهم فيه؛ فهذا أبوك إذا هدأت في نفسه الحريصة موجة الحزن الأولى  فسوف يعلو صوته مطالبًا بنصيبة من هذا القليل؛ هذا علمي به، إنه لا يأخذ ما ليس له، ولكنه لا يتساهل في شيء من حقه، وإن كان غنيَّا عنه. ‏ثم ابتلع المريض غصَّةً من ريقه أغلقت حلقة ثم عاد يقول لنفسه: ثم لن  يلبث الرجل الطاعن في السن بعد ذلك أن يبلغ أجله ويترك ما أخذه لإخوتي فيقتسمون ما يقتسمون من إرثه وفيه مال هؤلاء الضعفاء اليتامى؛ فضاق  لتلك الهواجس صدره وازدادت قسوة  ألمه ومرضه.
   ودخلت زوجُه كاسفة البال، حزينة القلب، في وجهها آثار بكاء طويل، ولكنها  حاولت أن تلبس قناعًا من الأمل  فظهرت في أقبح  صورة من اليأس، وحاولت أن تواسيه بكلمة أو تبث فيه الرجاء بابتسامة أو مزحة  فجاءت محاولتها كئيبة راكدة  تزيده يقينًا في تحقق مخاوفه، و تجعل  الرحيل الوشيك حاضرًا غير مستور.
    و تحامل الرجل على نفسه وعليها حتى جلس فحمد الله على كلّ قضائه ثم  أفضى إليها بدخيلة  نفسه وما يخافه على أولاده من بعده  فأخذت تطمئنه وتدعو له بالشفاء والبقاء.
    ولكنها كانت قد وقعت مثله تحت براثن  تلك الهواجس فبدت نبرتها تؤكد  القلق أكثر مما تنفيه، وتثير المخاوف أكثر مما تهدئها.
ثم إنها جمعت نفسها و قالت له: لك العمر والعافية، ولكن هل لك أن تكتب هذه الدار لأبنائك .. فإنهم كما ترى ضعاف صغار محاويج.. ولا أحد يعرف ما تحمله الأيام.. وهذه الدار هي الآن مأواهم وذخيرتهم الوحيدة لغد.. ثم هي في النهاية لهم على كل حال. ثم سكتت برهة فلم تسمع منه كلمة فأكملت: وأبوك وإخوانك.. إنهم في غنى عن مال الصغار اليتا.... ولا تؤاخذني - لك العمر الطويل-  ليس أبوك بالجدّ الذي يمكنه أن يتنازل عن شيء من حقه لأحفاده،  وسيبدي تشبثًا بالقسمة العاجلة العادلة، وسيرفع شعار(حقي بشرع الله)، ومن يقدر أن يلومه وهو يطلب حقه ويتعجل قِسمته.  وما عليه في ذلك في الحقيقة من نكير.
    فانقبض صدره لهذا الحديث غاية الانقباض،  وأخذت مخيلته  تصور له  أباه مجادلًا  بصوته الجَهْوَري في نصيبه،  متمسكًا بقسمة الحق. وتَصَوَّرَه وجبهته مقبوضة من الكبر و من الحزن أيضًا  بينما يده مبسوطة عن آخرها  ليقبض دقيق حقه في دار ولده الراحل.. يقيس ذلك الحق بالمساحة لا بالسماحة.
 ‏ثم تراجعت صورة  أبيه وأخذت تحل مكانها في مخيلته صورة ابتسامة طمع سعيدة  يغالبها  بعض إخوانه وهم يتقبلون عزاءه يتصورون  أن تلك القُضمة  من داره ستعود إليهم أسرع شيء بعد رحيل قريب للشيخ  الكبير.
 ‏وهمّ المريض  أن يستدعي المحامي ليكتب الدار باسم الأبناء ليحفظهم من مشاركة الجد.. أو بالأصدق ليحميهم من مشاركة الأعمام وأبنائهم في تلك الدار التي بناها لهم من التعب والعنت.  ولكن نوبة من ثورات دائه قد غشيته فانشغل بمغالبتها  وانصرف حينًا  عن همه وعزمه.
وعندما استعاد شيئًا من تماسك صحته عاد يفكر جادًّا في الأمر، وهم أن ينادي ولده الأكبر ليستدعي له كاتبًا يحط عنه همه وينجز له في أمر الدار عزمه. ولكن  صوت عبد الباسط سبق نداءه متهاديًا إليه من نافذته الموصدة بغير إحكام،  منبعثًا من دكان الخياط الساكن في الدار المقابلة لنافذته فتسرب إليه مع التلاوة ضياء من الغيب الذي أصبح هو على حافته،  واسترعت سمعه تلك الآية العجيبة فلما بلغ القارئ ختامها  كان على يقين أن ربه  يخاطبه  بها  لوحده، ‏فاسترجع واستغفر و كره ما كان عقد عليه عزمه،  ورأى أن عزمه هذا لون من  العبث في أحكام الشرع، ورآه ضربًا من التحايل على حكمة الحكيم، وأمره الكريم، فأجفل عن تلك الفكرة التي كان قد انتواها، وعاد فاستبشعها وطرحها من فكره وقلبه. واستشعر لذلك بردًا في صدره جعله ينام ساعة هادئة لم يفز بمثلها منذ وقت غير قصير
ومضت الأمور على عجل، و تفادحت علته في سرعة خاطفة ولم تغالبه كثيرًا إذ وجدته واهنًا مهدومًا فما أسرع أن ألحقته  بالماضين، و أخرجته من مستقره بين أهله إلى مستودعه إلى يوم الدين.
وكان ما تخوفة هو وزوجه؛  فما مرت أيام معدودة  حتى زار الجد أبناء ابنه الراحل وأوصاهم ان يلجؤوا إليه وحده فيما كانوا يلجؤون  إلى أبيهم فيه، وبكى  صادقًا ما جادت به عينه. ولكنه قبل أن ينصرف جدّت نبرته، و تكلم مع الأرملة في حديث عام عن المصاريف والمعاش، وأبدى استعدادًا محسوبًا  للعون بالمال إن  احتاجوا إلى شيء من  ذلك. و لقد كان يعلم أن شيئًا من نفقه  ستكون في أيديهم قريبًا من معاش أبيهم الذي يوشك  أن يصرف لهم، ولُعاعة من مال  قد تركها لهم أبوهم، وفضلة أخرى  قد تحصلت  لهم بعد وفاته. ولكنه أيضًا تحدث عن الحقوق والمواريث والشرع، وما كان يملكه الراحل العزيز، وما يكون من إعلام  الوراثة، وما يتبعه من إجراءات يقوم بها الناس - كل الناس - في مثل هذه الظروف.
ومضت أيام قليلة، و بعد قياس وحساب وجدل و قليل من خلاف  حصل الجدُّ على نصيبه المفروض نقدًا من مالٍ دبّرته الأرملة من كل ما كان لزوجها من بقايا مال من مكافأت الوظيفة، ومعاشها. واستدانت شيئًا من أهلها حتى أكملت له مقابل حقه في دار ولده. واطمأنت بعد ذلك؛ فكل ما  كان يقلقها من أمر قسمة الدار قد زال.
وتسلم الجدّ حظه المقسوم  وتناوله بيد طبيعتها أن تبالغ في إضفاء قيمة زائدة على الأشياء، ولم يبد إلا بالكلام الفاتر رغبة حذرة  في ترك شيء منه لليتامى، ولم يكررها مع اول كلمة شكر واستغناء.
و مرت أيام ليست بالكثيرة وعادت الحياة في بيت الفقيد إلى ما يشبه طبيعتها، وسارت في مستقيم مسارها.. ووجد الأبناء من معاش والدهم وشآبيب من رزق سيقت إليهم ما كان بلاغهم إلى واحة الستر والاستغناء، فجدّوا في حياتهم وترحموا قليلًا  على والدهم الذي أخذ يتناقص وجوده  في حياتهم كل يوم،  حتي تم  خفاؤه عن الوجود والشهود، وكاد أن يزول عن الأحاديث والأسمار.
 وفي غبشة الليل الأخيرة من أحد الأيام، والجد جالس وحده  بعد أن أدى صلاته وجلس لتسبيحه  هجمت على  نفسه ذكرى ولده الراحل فهيجت شعوره، وألهبت حناياه وفاضت لها دموعه كأغزر ما يكون فيضان الدمع عند أليم الذكرى واهتياج المواجد.. تذكره طفلا يغنج ويلهو كدمية، وتذكرة يافعًا تبدو علي ملامح نجابة وذكاء، وتذكره مريضًا يعصف به المرض واليأس. وأسند رأسه في انهيار كئيب  إلى كرسيه والدمع يسيل من عينيه، وعندما فتحهما وقعت عينه على مكتبه العتيق؛ فتظر إليه نظرة ملتاع وقام وكأنما فزع لأمر قد تذكره فجأه، وبعد لحظات كان قد عاد إلى مكتبه وبيده مفتاحه، وفتحه في عجله ويداه ترجفان، وفي لحظة كان قد أخرج تلك الحقيبة السوداء التي كانت  لولده، وقد سلمته المرأة إياها ليضع  فيها ما ورثه من مال الابن العزيز. ولم تكد الشمس تبلغ برجها الضحوي من هذا الصباح حتى  كان الرجل قد  حوّل كل ما ناله من ميراث ولده في  حساب هذا الغائب البعيد، وشعر بعدها برضًا لم يكن نال مثله منذ عهد طويل.
وبينما كان الرجل الهرم  يصعد  مقاومًا شيخوخة قد أوثقته اإلى تلك المركبة  التي سترده   من الجمعية الخيرية إلى داره  كان مصطفي إسماعيل قد تسلم راية الرحلة منذ يوم واحد، وكان صوته الجهير يحتضن الوجود منبعثا من مذياع قريب.
لقد كان الصوت قادمًا حمن أحد المحال التجارية القريبة وهو يقرأ تلك الآية التي لم تبتعد المركبة بالشيخ حتى سمع خاتمتها:
"، ..آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا"
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.