مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

جمعة العواد - ابراهيم سليمان نادر

 
 
 

رطوبة لزجة صفعته اول وهلة ، ثم غارت كفاه في تراب ندي ، خنقه ظلام حجب عنه معالم المكان .
اخذ يتلمس عفونة الهواء ويتحسس كل شئ حوله بحذر بالغ . تعثرت أنامله بأشواك وأعشاب طرية اغتسل البعض منها بقطرات من ندى خفيف وشعيرات صمغية لعناكب أزعجته منذ بدء اقتحامه الكهف ، لكنه تنبه فجأة إلى علبة الكبريت المخبأة في جيبه .
أشعل عود ثقاب ثم أطفأه على الفور واخذ ينصت إلى وقع قدمين على الطريق التي مر عليها وهو قادم إلى هذا المكان .
كل شئ حواليه صامت وساكن ، إلا انه لم يمنع نفسه من التفكير
والترقب ، لكنه تذكر ان طريق العودة طويل جدا ، خاصة وانه يجوس الآن خلال ارض لم يطرقها من قبل إلا في وضح النهار .
كان الظلام الدامس من حوله موحشا وكئيبا ، يمده بإحساس فريد بالوحدة والخوف ويحجب عنه ذكاء التخطيط الذي أعده منذ شهور مضت ، فيسري برد بطئ في مفاصله ليزيدها ارتجافا عشرات المرات .
جرع أنفاسا عميقة متتابعة من نسيم الليل ، واخذ يتذكر ما مرق به من أحداث بدون ترتيب .
كانت كفاه تضربان التراب الرطب بلهفة وارتعاب ، وعلى امتداد الحائط المقوس يسترخي ليل تام الظلمة ، خال من أي بصيص نور ، داهمه بعض من طنين متقطع لبعوض عابث أو دبيب حشرات مشلولة ، لكنه كان يهدئ نفسه بين حين وآخر ومع كل خطوة يخطوها عارفا بحدس خفي كيف بدأ من قبل ما يقارب الساعة .
لقد وقف أول الأمر معطيا ظهره صوب الشجرة البعيدة ، ثم حث خطاه منحرفا قليلا بعض الشيء عن طريق القرية صوب تل المقابر .
انعطف بعدها نحو المخبأ المهجور ، وها هو يواصل البحث بيد انه لم يعثر على شئ يرشده حتى الان .
         تمتم مخاطبا نفسه :
( لابد أني أضعت شارة الدلالة وسوف يدركني الفجر ويضيع مني كل شيء ) .
         كان الليل موحشا تقطعه بين الحين والآخر أصوات خافتة تأتي من حافات الأرض الزراعية النائية ، وعواء متقطع لذئاب بعيدة .
         راح يغطس ذاكرته في حافات دجلة ، كما تغطس قدماه في المياه الرائقة وتتلألأ معها كل مشاريعه وأمانيه .
         ليل اجمل ما فيه بالنسبة إليه هو ان يصل إلى غايته بعيدا عنهم ، إلا أن القلق يشوب خطته الآن وخوف يتدفأ إلى قدميه وكفيه وهما يبحثان عن شارة الدلالة المفقودة التي حطها في مكان معلوم لديه وهو الآن اكثر عنادا وإصرارا في العثور عليها مهما كانت العواقب والتحسبات التي تعصف به ممزقة خلايا ذهنه التعب .
         بحث عن علبة الكبريت المرمية بجانبه وحاول ان يشعل منها عودا واحدا لكنه لم  يفلح .
         كانت الرطوبة والندى قد تسربا إليها .
         هاهي الساعات تمر من مهمته شأنها شأن الساعات الماضية لأي عمل آخر في ماضيه .
         لم يستطع التوقف رغم انثيال الرغبة والتصميم في داخله ، بل اخذ يتكلم عن مشاعره مع ازدياد البحث عن شارة الدلالة الضائعة .
         اخذ يتمعن بأنامله في علامات بارزة على الحائط الصخري والسقف المنحني .
         لم يدر بخلده أن يداهمه ليل خال من القمر ولهذا ، فقد حفظ العلامات
كلها ، وهي علامات لا يجد الآن ضرورة إليها سوى أن يستعين بقدراته الحسية على التخمين في العثور على شارة الدلالة المتخفية .
         توقف فجأة ونظر إلى ساعته ذات الأرقام المضيئة والتي كان يخفيها دئما تحت كم سترته ، ثم قال لنفسه :
( لابد لي لن أسرع في البحث قبل طلوع الفجر وإلا فسوف افقد كل شيء ، ويضيع مني الأخضر واليابس ) .
         ازدادت لزوجة التراب تحت قدميه وراح يندفع بذاكرته خارج المكان اندفاع الطفل الصغير نحو حضن أمه ، يهتز ويرتجف ، يفلت من التذكر خارج المكان ، وكما يحلو له ان يفعل ، ثم يتطلع إلى ساعته بجهد ويتقدم بعزيمة وثبات سعيا في البحث عن شارة الدلالة .
          لكن الرطوبة كانت في تزايد مستمر مع دنو الهزيع الأخير والتراب اكثر ندى وقدماه تغوصان في ارض هشة ، فيتكئ قليلا ثم ينهض فجأة .
         يصطدم رأسه بنتوء صخري ويترنح موشكا على السقوط ، يتنبه كمن ظفر شيئا . لم يكن قد رأى هذا النتوء من قبل هنا أبدا ، يتلمس بأنامله سائلا لزجا بعض الشيء ينز فوق جبهته .
         لم يكن ممكنا إبصار أي شئ سوى الظلام الدامس . تحسس بكفيه الحائط الخشن والسقف المقوس مرة أخرى وتحرك جانبيا ، فدار حول محوره وعاد إلى المكان الذي بدأ  منه .
         سال خيط الدم وجهه وعينيه فأغمضهما وأحس بصداع وحرقة .
         همس لنفسه :
( من أين جاء هذا النتوء اللعين ، أتراني أخطأت المكان ؟ ، تبا لي ) .
         أحس بالألم والضجر يوهنان قواه ، ففكر أن يتشبث بأي شئ يراه معقولا للوصول إلى غايته .
         تقدم إلى أمام متلمسا الحائط والسقف باحثا عما يمكن له أن يتعلق به .
         ارتطمت كفاه بالجدار الصخري أول الأمر ، ثم تحسست شيئا يبرز من شقوق الحجارة ويمتد قليلا إلى الأعلى .
         اغتبط لوجوده هناك وتلمسه برفق ، كان قضيبا حديديا قد ثبت بالجدار وقد علق فيه فانوس نفطي .
         ابتهج لذلك من أعماقه وتهللت أساريره ، ففكر مع نفسه لو كانت علبة الكبريت سليمة الان لانتهى كل شيء ، لكنه تريث بعض الشيء وفكر بأمر هام :
( لم يكن هذا الفانوس موجودا من قبل ) …….
          اجتاحته هواجس متضاربة من إحباط وامل .
ارتاب وهو يرى نفسه في مواجهة اكثر من مقلب وقع فيه وانه ينزلق سريعا إلى فخ مدبر أعد خصيصا له وأمامه فرصة متاحة لان يعود من حيث أتى .
          لقد تعرض للموت مرارا وفيه من الجرأة والحماس ما يجعله يصمد حتى النهاية ويصل إلى غايته المنشودة لا محال ، فهو ابن ليل يشار إليه بالبنان .
         قال لنفسه :
( هل يعقل أن أعود خائبا مثلما جئت ؟ ) .
         أحس بلسعة حادة في رأسه فتلمسه . كان الجرح قد تورم وارتفعت مقدمة جبهته مثل أكمة صغيرة ، وحتى وهو في هذه اللحظات الصم ، تأتيه أفكار متشابكة مع بعضها غير مرتبة ، يستقبل ما يطرأ على ذهنه من تداعيات .
         أعوام ربما خالها اقصر من هذا الليل الجامح ، قضاها باحثا عن شارة الدلالة الني توصله إلى غايته المخبأة هنا في مكان ما في تجاويف الحائط الصخري ، لكن ذلك مرهون بالمدى الذي سوف يستطيع خلاله ان يقهر كل صعاب الفشل في اقل تقدير .
         لم يتعجب من كل الأمور التي اخذ يفكر بها حتى على الرغم من عدم تناسبها مع ظروفه وأجوائه الحالية .
         لقد فكر بها كلها تقريبا كانه يضع حسابا شاملا لحياته ، واجهد نفسه في ان يقول لنفسه ثانية :
( لابد أن اصل أليه مهما كانت النتيجة ) .
         جمع انفاسه ونهض باركا على ركبتيه خشية نطح النتوء ثانية . فاجأه سكون الليل وظلام الكهف . عب قليلا من الهواء وهو يحس بالعطش الشديد ، فتذوق ملوحة العرق ، او هكذا خيل اليه .
         كانت ملامح وجهه جامدة على هيئتها كانها قطعة من الصوان موضوعة بعبث فوق كتفيه العريضتين ، بعكس روحه الحية التي تخلق عشرات الاحاديث والذكريات في كل ان .
         تفاءل لهذا السيل الصادق من تفاعلات ذهنه المرهق بجفاف اصم وتمنى رؤية زوجته وابنه ( عباس ) .
         لو شاهدهما الان لزاداه همة وحماس بالوصول الى غايته التائهة بين تجاويف الصخر واحتدام النتوءات فيه . احنى راسه الذي بدا يؤلمه ، وراح ينصت بارهاف قلق كمن سمع وقعا لاقدام تتجه نحو الكهف .
         اتاه صوت واهن من اسفل الممر متسربا اليه عبر الممر الفاصل بينه وبين فوهة الكهف العليا ، لكنه كان صوتا اخر يعرفه تماما :
_ انه هنا ، وسوف نظفر به هذه المرة لا محال …… هيا بنا يا رجال ، هيا ، لا تدعوه   يفلت منا .
         كانت ثمة نبرة غير مصدقة في الصوت الذي سمعه ، لكنه انصت وارهف اذنيه ممعنا في دقة تمييز الصوت . بدا يحرك كفيه مع انحناءات السقف المحدب ، هنا وهناك . مضت دقائق كثيرة مشبعة بالخوف والتردد حتى اصطدمتا
بالفانوس ، فاختل توازنه ، لكنه ثبت ساكنا بين راحتيه الرطبتين . اخرج راسه ببطء وتطلع نحو الاسفل فلم ير شيئا .
         جاءه الصوت قويا وقريبا هذه المرة :
ـ جمعة العواد ، اخرج الينا والا قتلناك .
اخذ وجهه ينزف عرقا غزيرا . عرق يتصبب من كل اجزاء جسده المرتعش . لقد عرف الانذال مكانه وجاؤا لكي يقاسموه الغنيمة ، ليس هناك الا من صاحب المقهى ( شعبان الكلب ) . هو الذي افشى سره اليهم ولا احد سواه يعلم بالامر .
         حاول ان يبتعد عن جدران وسقف الكهف مادا يديه الى الجانبين . ضربه النتوء الصخري ثانية وبعنف . هم ان يعب بعض هواء العراء البارد ، لكنه شهق وغاب عن الوعي .
         سنوات مرت والناس تتندر بحكايته ( جمعة العواد ) وقصته العجيبة التي ابتلعتها غياهب ذلك الكهف السحري ، عدا الفانوس الذي بقي سر وجوده مجهولا حتى هذه الساعة واصبح اهالي القرية عاجزين عن فك لغزه حين يتحلقون حول مواقدهم في ليالي الشتاء الباردة ، او عند الولائم والاعياد .       

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.