مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

لَا تَعُمْ عَلَىٰ عَوْمِ غَيْرِكَ فَتَغرِقَ لِسُوءِ فِعلِكَ - بِقَلَمِ / حُسَامُ الدِّينِ أَبُو صَالِحَةٍ

 


 

مَثَلٌ دَارجٌ بيننا، وَشَائعٌ فِينَا، وَحَوْلنَا يُؤمِنُ بهِ بعضُ مُتَحَجِّرِي العُقولِ مِمَّنْ ابتلاهمُ اللّٰهُ في تفكيرهمْ بالأفُولِ ، وَيَسْتَيْقِنُ بهِ قُسَاةُ القُلوبِ مِمَّنْ نُكِتَ فِيها بالسَّوَادِ الحَالِكِ، والبُغْضِ الهَالِكِ، والكُرهِ الفَاتِكِ ، فَيُضْرَبُ هَذا المَثَلُ لِمَنْ يُخَاصِمُ النَّاسَ، أوْ يُبْغِضُهُمْ، أوْ يَبتَعِدُ عَنهُمْ لا لشيءٍ صَدَرَ مِنهمْ نَحوَهُ بالسُّوءِ سِوَىٰ أنَّ عَزِيزًا لديهِ ، أوْ قَرِيبًا لديهِ قد خاصَمَهُمْ، لِمُشْكِلَةٍ حَدَثَتْ، أوْ اختِلافٍ بِوجهَةِ نَظَرٍ، أوْ إسَاءةِ تَصَرُّفٍ بينَهُمَا؛ فيَعُومُ علىٰ عَوْمِهِ كنايةً بأنَّهُ قد اتَّخَذَ مَوقِفَهُ ، وانضَمَّ إليهِ؛ ليُؤازِرَهُ دونَ تثَبُّتِهِ منَ الجَاني، والمَجني عليهِ، فكثيرًا ما نُعَاني مِن هَٰذا التَّصَرُّفِ القبيحِ ، والفعلِ غيرِ المريحِ ؛ إذْ فجأةً، وَبِلا سَابِقِ إنْذَارٍ بِمقدِّماتٍ دافعةٍ، أوْ مسوِّغاتٍ دَامِغَةٍ تُذهِلُ مِنْ جَفَاءِ شخصٍ لكَ تَعرفُهُ بلَا جَريرَةٍ منكَ نحوَهُ ، أوْ فعلِ سوءٍ منكَ لهُ قَدَّمْتَهُ، أوْشَرٍّ بِعَمدٍ لَهُ سُقْتَهُ، فقَد تركتَه بآخرِ عهدٍ لكَ بهِ علىٰ خيرِ مَا يُرامُ، وكُلُّ شيءٍ بالتَّمامِ ، فتعصِرُ ذِهنَكَ؛ وَتُرهِقُ عَقلَكَ؛ لِتُعَلِّلَ تَجاهُلَهُ لكَ التَّامِّ ، وبُعدِهِ منكَ العَامِّ ، فلا تَكادُ تجدُ لَهُ مُبَرِّرًا غيرَ أنَّهُ قد انقلبَ علىٰ وجههِ بتغييرِ سُلوكِهِ، وفعلهِ تَضامُنًا معَ مَنْ تَربطُهُ بهِ صِلةُ قرابَةٍ ، أوْ صدَاقَةٍ، قد اختلفتَ معهُ لسَبَبٍ أوْ لغيرهِ عِلمًا بأنَّكَ قد تكونُ أنتَ المُحِقُّ، وعلي صواب لمُبَرِّرَاتٍ أحَقُّ، وهو المخطئ بحقكَ بلا أدنىٰ شَكٍّ ، لَٰكِنْ أعمَتْ صِلَتُهُ بهِ، وقرابَتُهُ منهُ قَولَ الحَقِّ لهُ ، والانتصافَ لكَ مِنهُ؛ فلمْ يَنْصُرْهُ ظالمًا بِكَفِّهِ، ومنعِهِ ، لَٰكِنَّهُ آثرَ هَجْرَكَ، واسْتَسْهلَ بُعدَك مجاراةً لقَريبِهِ في غَيِّهِ، ومُسايَرةً لهُ في بَغيِهِ، آخِذًا بِالحِكمَةِ القَائلةِ :" أنَا، وأخويَا عَلىٰ ابن عَمِّي" وعَامِلًا بالشِّطرِ الأوَّلِ مِنْ أمرِ النَّبيِّ - ﷺ -"انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا " فتأخُذُهُ عَصَبيَّتُه المَقِيتَةُ، وجاهليَّتُهُ البَغِيضَةُ؛ للسيرِ في رِكَابِهِ لأنَّهُ أعَزُّ أحبَابِهِ دونَ وَعيٍ بقولِ اللهِ تعالىٰ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} النساء ١٣٥، أو تفكُّرٍ بقولهِ تعالىٰ:{فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}النساء ١٣٥، أوتَذَكُّرٍ لأمرهِ تعاليٰ : {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المائدة ٨، فيسوقهُ هواهُ الخاطيءُ ؛ فيَنصُرُه، وإنْ لمْ يَستَحِقُّ النَّصرَ، ويؤازره وقد باءَتْ يَداهُ بالظُّلمِ ، ولو أتعَبَ ذاتَه،وأرهقَ نفسَه بإكمالِ الشِّطرِ الثَّاني مِنْ قولِ النَّبي- ﷺ - ؛ ليتعَلَّمَ معني المُؤازَرَةِ بحقٍّ، والانتصافَ بصدقٍ ، حيثُ قالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ".الراوي : أنس بن مالك، صحيح البخاري، 6952.
- فَقَدِ استشكلَ أحدُ الصَّحابةِ كيفيَّةَ نُصرَتِه للظَّالمِ، فبَيَّنَ له النَّبيُّ - ﷺ - بقولهِ : «تَحجُزُه -أو: تَمنَعُه» مِنَ الظُّلمِ» والشَّكُّ مِنَ الرَّاوي؛ فإنَّ ذلك المنعَ نصْرُه؛ لأنَّه إذا مَنَعَه مِن ظُلمِه، فقدْ نصَرَه على هواهُ، وعلى شَيطانِه الَّذي يُغويه، وعلى نفْسِه الَّتي تَأمُرُه بِالسُّوءِ، فترديهِ، وذلك هو أفضلُ النَّصرِ، ولأنَّه إذا تركَه على ظُلْمِه، ولم يَكُفَّه عنه، أدَّاه ذلك إلى أن يُقتَصَّ منه؛ فكانَ مَنْعُه له ممَّا يُوجِبُ عليهِ القِصاصَ نَصْرًا له.
-كما حرصَ الإسلامُ علي بناءِ شخصيةٍ قويةٍ للمسلمِ ، ومستقلةٍ غيرِ تابعةٍ للهوىٰ، أو خانعةٍ للغَوىٰ؛ فاهْتَمَّ النَّبيُّ - ﷺ - بِبِناءِ الشَّخْصيَّةِ المُسْلِمةِ على التَّمَيُّزِ، واسْتِخْدامِ العَقْلِ، والحِكمةِ، وعدَمِ التَّقليدِ الأعمَى، وعَدَمِ اتِّباعِ كلِّ ناعِقٍ، أو السَّيْرِ خَلْفَ النَّاسِ دُون رَوِيَّةٍ؛ فَقَال : "لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ:" إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا، فلا تظلِموا" .الراوي : حذيفة بن اليمان، سنن الترمذي 2007، حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
-والإمَّعَةُ هو: الشَّخصُ الذي يُقَلِّدُ النَّاسَ بِدُون وَعْيٍ، ولا رَأْيٍ؛ فَيَكونُ في مَجامِعِ الأُمورِ معَ مَتْبوعِه، "تَقُولونَ: "إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ"، أي: إليْنا، أو إلى غَيرِنا، "أَحْسَنَّا"؛ جَزاءً لهم، أو تَبَعًا لهم في إحْسانِهم، "وإنْ ظَلَموا" بأنْ ظَلَمونا، أو ظَلَموا غَيرَنا، فكذلك نَحْنُ "ظَلَمْنا" النَّاسَ على وَفْقِ أعْمالِ مَن نُقَلِّدُهم، ومعْنى هذا: أنَّهم مُقَلِّدونَ للنَّاسِ في إحْسانِهم، وظُلْمِهم، ويَقْتَفون أَثَرَهم، والمُقَلِّدُ، والتَّابِعُ لغَيرِه يَكونُ بِلا شَخْصيَّةٍ، ولا رَأْيٍ، ولا يَقومُ رَأْيُه على التَّصْديقِ، والاعْتِقادِ، بل هو كالنَّاعِقِ يَهيمُ بِكلِّ صَيْحةٍ، ويَسْمَعُ كلَّ ناعِقٍ، ويَطيرُ وَراءَ كُلِّ هَيْعةٍ، وهذا خَطَرٌ على المُقَلِّدِ نَفْسِه، وخَطَرٌ على المُجْتَمَعِ؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى إفْراغِه مِن التَّفْكيرِ، والتَّعَقُّلِ في الأُمورِ. ولذلك قالَ النَّبيُّ- ﷺ - : "ولكنْ وَطِّنوا أَنفُسَكم" بِالعَزْمِ الجازِمِ على الفِعْلِ الحَسَنِ، وحَمْلِها عليْه أيًّا كان فِعلُ الناسِ، فـ"إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أنْ تُحْسِنُوا" فأَوْجِبوا على أَنفُسِكم الإحْسانَ، "وإنْ أَساؤُوا فلا تَظْلِموا"، وإنْ ظَلَمَكم النَّاسُ، أو ظلَموا غَيرَكم؛ فلا تَتَّبِعوهم، ولا تَظْلِموا مِثْلَهم؛ لأنَّ عَدَمَ الظُّلْمِ -وهو مَقْدورٌ عليْه- إحْسانٌ، ويَكونُ ذلك الخُلُقُ الجَميلُ هو بمَنزِلةِ الوَطَنِ للنَّفْسِ حتى تَعْتادَه، ويكونَ مُصاحِبًا لها.
- لَيْتَنَا نَتَعلَّمَّ؛ فنعلَم أنَّ المؤازرةَ تكونُ علىٰ حَقٍّ، والانتصافَ بغيرِ ظُلمٍ، ووضعَ الأمورِ في نصابِها الصحيحِ ، ووزنَ الأفعالِ بميزانِها الصريحِ، وألا تسوقُنا مشاعِرُنا الخاطئةُ بجَفَاءٍ في غيرِ مَحَلِّهِ، وبُغْضٍ لغِيرِ موضِعِه، بأمرٍ لا ناقةَ لنَا فيهِ، ولا جَملَ؛ فنتركُ حَبْلَ المَحَبَّةِ موصولًا، والوِدَّ مَكفولًا؛ فالبابُ الذي نُغلِقِه بأيدينا قد نَحتاجُ للمرورِ مِنهُ يومًا مَا، والشخصُ الذي  لا تحتاجُ اليومَ لوجهِهِ، قد تحتاجُ في الغَدِ لقفاهُ ؛ فَنَعَضُّ بأيدِينَا بَنَانَ الألَمِ ، ونَنْدَمُ حينَ لا يُفيدُ النَّدَمُ ؛ فَمَنْ يَعُمْ عَلَىٰ عَوْمِ غَيْرِه يَغْرِقُ لِسُوءِ فِعلِهِ.
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.