مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

الروح السوداء - فاطمة البسريني

 

لم تكن تصادفه ، إلا عند ركوب الحافلة أو تقاطع الشارع،
يمر إزاءها وكأنه نوع من الأشباح ، وكأن عينيه لا تبصران شيئا ،
ليست له شيئا ، وليس لها شيئا ، هولا يعرفها ، وهي لا تعرفه ، ربما كانت بالنسبة له سحابة بعيدة ، غير مرئية ،لكن مجرد مروره قربها كان يقلب كل مشاعرها ، ويجعلها تضطرب كنيران بركان .
فوضى أحاسيسها عارمة ، لا يمكنها السيطرة عليها .
لماذا حرك فيها كل هذا الزخم من المشاعر بعدما كان قلبها صحراء قاحلة وأحلامها متوقفة ،
كانت قد أوقفتها عنوة ،واعتزلت العالم الذي لايفهمها ويفهم أسرار حزنها وآلامها .
لم تكن يوما تريد أن تكون ساحرة شريرة ،
كانت دائما مزهوة بنفسها وبطيبتها وجمالها،
كان كل شيء حولها يصدر نغمات وتغار يد وردية ، فلماذا اضطرب صحوها بمنامها ، وكيف سمحت لتلك المرأة أن تجعل منها ما هي عليه الآن؟
كثيرا ما تثوق نفسها إلى صباها ، إلى تلك الفتاة الجميلة ، التي تترك حولها تلك الأشعة من الحب والرقة ، وتسحر بها كل قريب منها.
قاسية عليها هذه اللحظات التي تشتاق فيها إلى نفسها القديمة ، إلى همساتها الرقيقة ، الحانية ،
أغلقت كل منافذ تلك الذكريات إليها ،التي كانت تحيي فيها شموع الأمل ، وتبعد عنها الأوجاع والآلام وتؤمن أن السعادة من حق الجميع.
كيف هاجرت من ذلك الدفء إلى هذا الصقيع في نفسها وأماكن الثلوج الباردة ، والقلوب الحجرية ، المتجمدة.
لكن مهما فعلت بها زوجة والدها ، تلك المرأة الحقودة ، التي يتطاير الشرر من عينيها ، ومهما أغرقتها في ذلك الظلام الحالك المخيف، إلا أنها تحس أن هناك بصيص من نور داخلها يمنحها القوة والقدرة على الاستمرار .
لكن كيف يصبح هذا الأمل الصغير بكل هذا البريق لتراه نورا يشرق على مكنوناتها وخبايا صدرها الصغير؟ .
وكيف ينبعث فيها ذلك ، لمجرد مروره إلى جانبها أو كلما نزلت نظراتها عليه من بعيد ؟
إنها امرأة مشؤومة ، زوجة والدها تلك التي ألقت إلى روحها بسحرها الشرير ،اكتنفها وأعمى عينيها عن كل ما هو خير وجمال وحب ، بل أصبح هدفها هو إلقاء شرها على من تصادفهم ، كيفما كان نوعهم ، إلا هو .
فكيف يقبض على زمام أمرها بيد من حديد ،وكيف تسلل إلى أعماقها كعطر جميل ؟
كرهت زوجة والدها ، لكنها كان لا بد لها أن تسير في الطريق الذي رسمته لها منذ نعومة أظافرها إلى أن تمكن منها وتغلغل فيها إلى الأعماق.
الآن تريد أن تلتقي به ،رغم أنها لا تؤمن بالحب وقد تعلمت الكفر به منذ صباها.
تعرف أن هذه تجربة قاسية ، تمر بها وصراع مرير مع نفسها،
لا بد أنها تتوهم الحب .
كيف لها أن تحب وأن تساورها مثل تلك المشاعر وقد نفذت كل تلك الجرائم البشعة بحق كل من التقت بهم من الرجال ،
فهي كانت تقتلهم شر قتلة ، وتقدم قلوبهم إلى زوجة والدها لتقوم بممارسة سحرها الأسود الملعون عليها.
تعلم أن أعماقها بركان حمم متلاطمة ، وأنها حية رقطاء ،كلما اقترب منها أحد المعجبين إلا واستدرجته إ لى حتفه لتقضي عليه بسمها الزعاف دون أية رحمة أو شفقة.
قالت في نفسها :
( أن أحبك ليست مسألة بسيطة ، بين ملامحك التي تستعمرني والتي أحتضنها بشوق ..... والسماء التي تغير من صفاتها أيضا .....
في هذا الجو الضبابي ، المرعد ، ستخرج وسوف تكلمه مهما حدث.
وحزمت أمرها ، وتلفعت بمعطفها الأسود الطويل وخرجت.
انتظرت طويلا قرب عمود النور الموجود عند تقاطع الشارع.
كانت وحيدة ، بداخل ذاتها ، لم يكن الأمر سيئا كثيرا ، خاصة عندما رأته مقبلا.
اندفعت إلى الطريق تجاهه ، سوف تكون أمامه ، لكنها لن تتفاداه ،بل لابد أن تقوم بمكالمته .
لا تعرف كيف ولا ماذا تريد منه ، لكنها سوف تسمع صوته اليوم مهما يكن....).
كانت تقترب منه رويدا ، رويدا ، بدا لها مشعا كالنجم وسط الخراب الذي تحس به ، ووسط كل هذه النظرات الشريرة المنبعثة من الأعين من كل ركن من أركان الشارع.
اقتربت أكثر فأكثر،
لم يبق إلا خطوات بينهما ،
ارتمت إليه ، تلقفها وكأنها ريشة .
يا لقوته ،
كانت وكأنها صعقت ، لمسته كتيار كهربائي قوي يتخلل جسدها.
ابتسم ،
ابتسامته جعلت كل محيطها يرتج
لكنها تحس أنه مازال بعيدا، بعيدا عنها دائما...
أحست بأنفاسها تتلاشى ، تغادرها
روحها تنفلت منها ،
اكتسحها غضب شديد وهي تدرك متأخرة أنه يمتص روحها.
آه لها ، أخذ روحها ، وكان ذلك بكامل إرادتها .... ليته يعلم أن قلبها مسالم حنون يشبه الغمام الأبيض وليتها علمت أنه شبح لعين سيأخذ روحها ويتقوى بها ، بينما تضاف هي إلى عبيده وخدمه.
حتى الحلم أخذه منها ، لم تعد لها حكاية.
لم تستطع حتى الكلام ، أفرغها من كل شيء ،أفرغها من أحاسيسها كلها.
الآن أصبحت طوع بنانه ، ستأتمر بأوامره بجسد خال يتحرك وكأنه خيال.
يجب أن تهدأ الآن ،
أن تصمت ، أن تتحكم في جسدها ، قبل كل شيء، يجب أن تعترف أنها لم تعد تتحكم في نفسها .
أخدها وكأنها جثة متهالكة ، تركها هناك وذهب قائلا:
( سوف تأتيك أوامري...).
كانت ترتجف من الغيظ والحنق ، بدلا من تلك المشاعر الجميلة التي كانت تحملها له ، غمرها إحساس عنيف بالحقد والكراهية وظلام حالك يلفها.
وقفت بصعوبة وهي تتحامل على نفسها:
( أيها السافل ، انتهى كل شيء ، سوف ترى ، سوف ترى ...)
(لكل نهاية دائما بداية ، ومن واجبك الآن أن تعودي إلى حياتك السابقة ، وتنتظري...)
اصطكت أسنانها لهذه الفكرة .
أثناء الليل ، وهي ما زالت تحت وقع صدمتها ، تفكر بحالها وما آلت إليه،
أحست بأنفاسه كالفحيح قربها،
قالت بهدوء :
( إنه أنت , أليس كذلك ؟؟)
وظهر لها ، وسيما ، رائعا كالبدر ،لكنها كتمت كل شعور داخلها ، فهو لا يعرف أنلها روحا أخرى شريرة ، قاسية ، لعينة .....رغم ألمها ، لم تنس ما فعله بروحها الطيبة الجميلة ، لقد أخذها دون رحمة.
قال :
( أيتها الجميلة ، أحس أنك تغيرت... ؟)
ادعت البراءة وأجابته أنها مندهشة فقط لحضوره بهذه السرعة ... وطلبت منه الاقتراب وهي تتساءل:
( هل أنت شبح ؟ أو مصاص دماء أو.. أي نوع من قوى الظلام أنت؟)
ابتسم ابتسامته الساحرة تلك التي تأخذ لبها وقال:
( أنت تعجبينني ، أنا شبحك ، يتبعك أينما كان ، أجدك متى رغبت وفي أي مكان تذهبين إليه ، روحك معي يا عزيزتي...).
( من دوني ، أنت تائهة ...) .
ابتسمت داخلها ، هو لا يعرف المأزق الذي وضع نفسه فيه،
ويجب أن تستدرجه ، لتسترد روحها قبل كل شيء، ولكي تنتقم منه شر انتقام.
( لا أحد سينقذه من سمي الرعاف ،هولا يعلم أن أحزان الحب قد تحول الناس إلى وحوش للتعاسة...)
اقترب منها أكثر،
( لماذا أنت صامتة ؟)
أجابته بكل ثقة :
( يقولون عندما نصادف حب حياتنا ، الوقت يتوقف ، أليس ذلك حقيقيا؟)
ضحك بسخرية وقال :
( لم أكن أعرف أنك شاعرة أيضا ...ههه).
بهدوء تام قالت :
( لا تهتم لشيء،هي أفكار فقط ، مشاعري كلها لك ، اليوم سأسقيك كل حبي وسوف تستمتع كثيرا...)
هي لم تكن تريد هذه النهاية لما شعرت به ناحيته ، هو قد أثارها حقا إلى الحد الذي اقتربت منه بإرادتها الخالصة .، كانت تريد أن تعود إلى حياتها الماضية وأحلامها الصافية ، لكنها وجدت نفسها ،تغرق أكثر فيما يعتمل داخلها من أحاسيس الشر والإيذاء،
سوف ينصاع إليها ، ويشرب مشروبها السحري بعد قليل وسوف تأخذ كل الأرواح التي اغتصبها وامتصها من قبل .
( حقا الماضي يجرحنا ،والمستقبل هو الذي ينزف ،ستعرف أمر إحساس بالظلم والضعف الذي أشعرتني به ، حالا ، حالا ...
كم كانت دهشتها كبيرة وهو يذهب من تلقاء نفسه نحو أحد أكواب سمها الزعاف ويتناوله إلى آخر قطرة منه .
الحمد لله ،
مأموريتها كانت أسهل مما توقعت ، وقد أخذت كل الأرواح التي التهمها سابقا تخرج منه ، وتدخل إليها دون صعوبة وهي تصبح أقوى وأقوى ، حتى روحها السوداء عادت إليها ، بينما هو يصرخ بألم إلى أن فقد كل قواه وسقط مغشيا عليه .
تنفست بكل ما تملك من قوة ،
لم تكن فرحة بما حققته من انتصار، أحست بدموعها تصعد إلى عينها،
منعتها من السيلان ، فالدموع التي تنهمر في الداخل هي الدموع التي من الصعب جدا أن تنتهي وتجف .
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.