الجمعة، 30 أغسطس 2024

ثمن الشهرة - امين الساطي

 



  وصلت الآن إلى بيتي، عائداً من وظيفتي في مديرية المواصلات، وقبل أن ألتقط أنفاسي، فتحت موبايلي مباشرةً على صفحتي بالفيسبوك، لأحصي عدد اللايكات على منشور، كنت قد أنزلته البارحة، لصورة لتشرشل، وعليها جملة من أقواله الشهيرة،. هالني أني لم أجد سوى أربعة لايكات، الغريب في الأمر أنني منذ عدة أشهر أنزلت صورة لتشرشل بالأبيض والأسود، حصدت عشرين لايكاً.
لم أعد أكترث للواقع، فأنا أمضي أكثر من خمس ساعات يومياً على الفيسبوك، في قراءة الأخبار الزائفة ومشاهدة الصور، وكتابة التعليقات المنقولة عن بعض المفكرين، تاركاً خلفي حياة صعبة مملوءة بالتحديات، وسط غلاء معيشي غير مسبوق، أجد فيه صعوبة كبيرة لتأمين لقمة العيش لأسرتي.
 شعرت بالانقباض، لأن كينونتي أصبحت مرتبطة بشخصيتي الافتراضية، وما يراه الناس عني على حساباتهم. لا جدال بأن الفيسبوك متعته، لا تكلف سوى رسوم اشتراك الإنترنت، وروعته أنه يجمع المكان والزمان بالوقت نفسه، المهم الآن، أن شعبيتي آخذة بالانهيار، بعد أن كنت نجماً لامعاً منذ شهرين، في أثناء جلوسي للتخطيط للخروج من هذا المأزق، سمعت صوت زوجتي الكئيبة تقول لي: "عوضاً من أن تجلس كل يوم ساعات على الفيسبوك، لاقيلك وظيفة ثانية بعد الظهر، لتحسين وضعنا المعيشي" ما كادت تنهي جملتها حتى جنَّ جنوني، في الوقت الذي أنا أمعن فيه التفكير لاستعادة مركزي المرموق داخل أروقة الفيسبوك، تفكر زوجتي بالأشياء المادية البسيطة، فتطاير الشرر من عيني وقلت لها: "الباب يفوّت جمل، هذا الحاضر“. أدركت بلحظتها بأني أمرُّ بثورة غضب، ولكي تتلافى الشر انسحبت إلى المطبخ.
أخذت أبحث في غوغل عن صورة ملونة لنابليون بونابرت، وعليها بعض أقواله الشهيرة، لأنزلها على صفحتي، فأعطي الانطباع باني مثقف عربي غربي النزعة، لكي أحصد عدداً كبيراً من اللايكات، ثم خطر لي أن أضع صورة لنزار قباني وعليها بيت من أشعاره، لكي أبدو نصيراً للمرأة، وأكتسب سمعة عاطفية بين النساء، إن الواقع الافتراضي بالنسبة لي فضاء، أشبع فيه غريزتي الجنسية بالمحادثة مع صديقاتي البنات اللواتي يشبهن ممثلات هوليوود، على الرغم من أني أدرك بأعماقي بأنها صور وعلاقات زائفة، وفقاً لمعايير مشوّهة خلقها العالم الافتراضي.
 انتقلت إلى صفحة أبو محمود، المحامي الفاشل الذي يسكن في عمارتنا نفسها، فوجدت أنه قد حصل على عشرة لايكات عن مقالة سخيفة تتحدث عن حقوق المرأة، أحسست بالغيرة، فقررت أن أنزل منشوراً توقعت له أن يحصد مئات اللايكات، فكتبت على صفحتي:
     انتظروا غداً صباحاً في الساعة السابعة والنصف حدثاً مهماً.
وضعت مسدسي البريتا في جيبي، وغادرت منزلي إلى وظيفتي، وبعد أن ابتعدت قرابة مئتي متر أخرجت مسدسي وأطلقت في الهواء ثلاث طلقات وأعدته إلى مكانه، وبدأ الناس الموجودون في الشارع يركضون خائفين، كقطيع تائه من الغنم، فاندسست بينهم متلمساً طريقي نحو مكان عملي، فجأة شعرت برجل يشدني من شعري بعنف نحو الأرض وهو يصرخ: "إرهابي بدّه يخوّف العالم". وتكاثر عليَّ الأشخاص، فسحبوا مني مسدسي، وأخذوا يدوسون عليَّ بأقدامهم وهم يصرخون فوضوي إرهابي، وأحسست بألم رهيب، لقد كسروا أنفي، وأخذ الدم يتدفق منه بغزارة من دون توقف. في أثناء ذلك سمعت صوت جارنا صاحب البقالية، الذي يغش المواطنين، رافعاً أسعار مواده التموينية في كل يوم يقول: "هذا جاسوس إنكليزي، كل يوم بنزّل على صفحته بالفيسبوك صورة لتشرشل".
مع كل هذا الألم تمنيت في لحظتها، لو كنت أستطيع أن أمدّ يدي إلى جيبي لأخرج موبايلي، وآخذ صورة سيلفي لوجهي والدماء تنزف منه، لأنزلها على صفحتي بالفيسبوك، وأكتب فوقها لقد تحققت النبوءة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمكنك التعليق هنا