مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

( أبي ..فوق الشجرة أم تحتها ) - ا.د. أحمد جارالله ياسين

 

ما اكتبه من الأدب الساخر في المقالات  والقصص القصيرة جدا  لا علاقة له باللقب العلمي الذي احمله( لذلك لا أضعه قبل اسمي على الصفحة )  لأن اللقب لايصنع أديبا ..وكم من أدباء ثقافتهم أعمق وأوسع من الاكاديميين ..
ولو كان اللقب يصنع أدباء  لامتلأت الجامعات بهم  ..
كما أن حمل هذا اللقب لايمنع من الكتابة بأسلوب ساخر ..فذلك ليس عيبا إلا في نظر ضيقي الفهم للأدب وأساليبه لأن السخرية  من الأساليب الأدبية الصعبة  والمعروفة والهادفة كونها في النهاية تحمل رسالة دلالية تنويرية للمجتمع تمرر عبر ذلك الأسلوب الناعم وهو الخيار الذي
يضطر المثقف إليه ...بعد خيارين رفضهما :
الأول
الاكتفاء بالصمت  والانعزال عن أداء دوره العضوي التنويري في المجتمع..لعدم رغبته بالتصادم مع المجتمع اذا مافكر بالانتقاد والتوجيه ...
والثاني الاندماج بالمجتمع والتواطؤ معه على القبول بالخراب والتلوث في حقول الحياة جميعا والعزوف عن التنوير وهنا يكون المثقف متملقا ومجاملا وذيلا للمجتمع. 
اما الخيار الثالث فيرفض الصمت كما يرفض التواطؤ ويفضل المواجهة الناعمة مع المجتمع ويكون باللجوء إلى الأسلوب  الساخر لتمرير انتقاداته الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تسهم في تنوير العقول وتكون مقبولة مادامت مغلفة بالابتسامة والكوميديا مهما كانت سوداء ...
حتى تتحول السخرية إلى منطقة ( دفاعية ) لشن هجمات مرتدة على التلوث والقبح والخراب بتعريتهم الساخرة  أمام المجتمع..
لقد أوصلتنا الحداثة وهيمنة العقل وتأليهه  إلى طريق مسدود مع صناعة العقل للقنبلة الذرية التي قضت على 75 ألف انسان في ثوان معدودة  ..وبدل أن تسعد الحداثة الانسان وتحرره ( كما كان هدفها )  دمرته بيد من اتجهوا بها نحو الشر بدل الخير  ..وماتزال التوجهات نفسها قائمة  بالحروب والاوبئة والفايروسات المصنعة والتكنلوجيا المشتتة للأسرة والمجتمعات ..وبالنظم التي اقنعوا العالم العربي  بديمقراطيتها واكتشفنا أنها اكثر دكتاتورية وعنفا وقمعا ...
إن السخرية في الأدب الذي تلا  الحداثة ( أدب مابعد الحداثة ) هي من أهم اساليب مواجهة جرائم العقل الحداثي  (الشرير ) .
هذا العقل الحداثي الذي اقنعنا أن يترفع الأدب في اختيار موضوعاته عن ( اليومي والشعبي والهامشي )
وينغمس في الذاتي النرجسي و النخبوي والاسطوري والمبجل من التاريخ والحاضر..حتى زادت عزلة الأدب وانقطع عن الجمهور كله الا صنف  النخبوي منه  ... ومن ثم تعطل عن أداء دوره التنويري الاجتماعي الثقافي ...وحشر أصحابه في خانة العزلة ..
فكان من رد فعل أدب مابعد الحداثة السخرية من جدية ذلك العقل ومن كل ماانتجه من ثقافة سلطوية في  السياسة والادب والمجتمع ..وتفكيكها بالسخرية منها والتشكيك بها ..
لأن من المفارقة ( كما يرى محمد أركون)  أن الحداثة في بواكير ثورتها لاسيما في الغرب التي زعمت أنها حررت العقل من سلطة اللا هوت والميتافيزيقيا لم تستطع أن تحرره من السلطة السياسية للدولة والنخب الاجتماعية والفكرية المهيمنة ..
......
إذن الكتابة الساخرة لاتنطلق من فراغ او رغبة بالتسلية والإضحاك ..وإنما لها منطلقات فكرية وفلسفية ورؤيوية تستند إليها خلف الكواليس وتمررها تحت الرموز والبلاغة والفانتازيا والنقد اللاذع والمفارقات ..وكلها اساليب فنية صعبة التطبيق ومعرضة للاخفاق من دون خبرة ووعي ودراية وممارسة وموهبة وثقافة
وفي النتيجة يجب أن لايستهان بالنتاج الساخر ويتصور بعضهم أنه سهل او انه لايليق الخوض فيه بحجة أن كاتبه مثلا استاذ جامعي ..
وعلى الرغم من كوني لا أجد علاقة بين الموهبة والشهادة إلا أني فرضا أخذ بهذا الأمر بنظر الاعتبار وأفككه على النحو الاتي :
الأستاذ والاديب لايتعارضان في الوصف فكلاهما يعني الصفة الثالثة ( المثقف ) والمثقف بينا انه أمام خيارات ثلاثة والسخرية منها وهي أرقى من خياري الصمت والعزلة أو التملق والاندماج..
وهنا السخرية في الأسلوب حتى لأستاذ جامعي ( حسب تلك الفرضية الافلاطونية ) تحسب له وليس ضده لانها تجعله في موقف المواجهين بشجاعة للخراب والداعين للتنوير .
ثانيا ...
النظرة  إلى الأستاذ الجامعي التي تريده حبيسا خلف منضدته في الكلية ولا صوت له خارج اسوارها نظرة مثالية نخبوية ..وهي نتاج ( الحداثة ) التي تترفع عن النزول إلى الشارع والمجتمع وتريد من الاستاذ العيش فوق رفوف الكتب والغرق في غبار التنظيرات فحسب .
الذين ينتقدون خروج الأستاذ الجامعي بفكره واسلوبه  من سور الكلية إلى المجتمع  هم أنفسهم من يحملونه في كل مصيبة جانبا من المسؤولية كونه ( حسب زعمهم ) يقبع في( ابراج عاجية ) ..وهذا الاتهام مصدره الازدواجية في العقل الجمعي الشعبي الذي يخضع له ( مع الأسف ) حتى المثقف المنتقد لأستاذ الجامعة وقلمه الأدبي الساخر .
الكتابة عن اليومي والشعبي والهامشي اصدق من الكتابة عن الموضوعات النخبوية والكبرى والمناسباتية ..
لأننا نعيش يوميا وحقيقة مع تلك الموضوعات التي تمثل مجتمعنا بكل مافيها من ايجابيات وسلبيات وتشكل من دون أن نشعر هويتنا ووعينا ولا تمثل  جمهورية افلاطون ..ولنا في جدنا الجاحظ قدوة وهو من كتب عن البخلاء واصحاب العاهات والقيان والجواري والحياة اليومية ...
وبوصفي اديبا لست عاجزا عن الكتابة الجادة إلى حد إثارة بكاء القاريء .. وإن كانت الكتابة الجادة هي الوحيدة التي تسوغ التطابق بين ( اديب واستاذجامعي ) فذلك فهم ساذج وسطحي جدا ..
واخيرا صفحات الفيس بوك هي صفحات للتواصل  الاجتماعي اتفاقا أو اختلافا وليست صفحات ادبية دائما ننتظر من صاحبها الأديب منشورات افلاطونية وادبية بمستوى المعلقات والبيان والتبيين ..
الأديب انسان أولا يضحك يبتسم يحزن ياكل الثريد ...

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.