مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

رحم الله عظامهم - محمّد الزّواري ـ تونس


 

رحم الله عظامهم.. بتلك الكلمات السّحريّة تتهاطل دراهم المارّة رنّانة على كفّه الغليظة الخشنة.. لم يكن يطلب من النّاس مالا.. و لكنّه إذا حيّاهم بصوته الجهوريّ أو دعا بالرّحمة للموتى كانت كلماته رموزا من شفرة مورس لمن يفهم و لا يفهم.. إذا نظر إليك بعينيه الطّفوليّتين لاذت يمينك بجيبك دون أن تشعر بحثا عمّا تيسّر من نقود.. إنّه صادق.. و من لا يعرف العمّ صادق في القرية لا يعرف القرية نفسها..
و صادق هذا كهل في سنّ الخمسين.. طويل عريض قويّ البنيان أجشّ الصّوت.. تراه فتحسبه بناية بطابقين قد مرّت بجانبك.. و لكنّ الحلو لا يكتمل كما يقولون.. فقد كان يعيش مفارقة عجيبة.. إنّ كلّ تلك المتانة الافتراضيّة كانت تخفي في باطنها شخصا آخر.. فذلك الرّجل الضّخم الّذي يبدو لأوّل وهلة قادرا على جرّ سيّارة كاملة بل قادرا على جرّ قطار لا يقوى في الواقع على الحركة إلاّ بجهد جهيد.. لقد حرمته الدّنيا نعمة الصّحّة.. فتراه في الطّريق يتنقّل بصعوبة.. و كأنّ أوصاله قد صدئت قبل أوانها.. لذلك إذا سار في الطّريق رأيته يجرّ قدميه جرّا و كأنّه يجرّ معهما خيبة أمله في الحياة.. أخبرني بعضهم بأنّه كان يشتغل قديما في ورشة للحدادة.. غير أنّه لم يستمرّ في ذلك بعد أن قصفته العلل و الأمراض قصفا..
يجلس في القرية على الدّكّة بصعوبة و ينهض منها بمشقّة.. يرتاد المقابر عشيّة كلّ خميس.. يجوس خلال القبور دون رهبة أو وجل.. و إذا شعر بالتّعب يجلس على شواهد القبور غير مكترث بما يقال عنه.. و إذا تناهى إلى مسمعه نبأ جنازة هرع إلى مسجد القرية يمنّي النّفس بالدّراهم الوفيرة مردّدا قولته الشّهيرة.. رحم الله عظامهم..
كنت أتخيّل الموتى في قبورهم و قد بليت أجسادهم.. و لم يبق منها سوى هياكل عظميّة مازالت وفيّة لجانبها الأيمن تتوكّأ عليه فوق تربة قاتمة.. و كنت أتخيّل الرّحمات تتنزّل على تلك العظام النّخرة.. و أقول في نفسي.. أ ليس من الأولى أن تنزل الرّحمات على الأرواح الّتي ستحاسب على ما اقترفت من خير و شرّ في يوم الحساب ؟
سألته مرّة.. اسمع يا صادق.. ماذا تفعل لو أعطاك أحدهم ألف دينار دفعة  واحدة ؟ أزهرت عيناه.. و أخذ نفسا عميقا كأنّه يستحضر المشهد الخرافيّ ثمّ قال.. ماذا أفعل..؟ أقوم بعمليّة جراحيّة على هذه حتّى أستطيع السّير مثلما يسير النّاس.. و أشار إلى قدمه اليمنى الملفوفة على الدّوام بضمادة شبه بيضاء.. تفاجأت بالإجابة غير المتوقّعة.. و جفّ حلقي.. و قلت له و أنا أحبس دمعة كادت تطفر من عيني.. و لم لا..؟ ستتمكّن إن شاء الله من السّير مثل جميع النّاس..
لم أكن أعدّ العمّ صادق في رتبة متسوّل لأنّه كان صادقا فعلا في كلامه و في مشاعره.. كنت أحمد الله لأنّ هذا الرّجل البسيط ينتفع بالمساعدات عن جدارة دون احتيال.. و لا يتظاهر بالفقر مثلما يفعل الكثير من النّاس الّذين يفتكّون الدّراهم افتكاكا و يختطفونها اختطافا رغم أنّهم ليسوا بفقراء أو مساكين.. و لكن يصحّ على الواحد منهم كلام من قال.. يتمسكن حتّى يتمكّن..
 مرّت الأيّام مرّ السّحاب إلى أن أقبل ذلك اليوم المشهود.. فقد كنت مارّا بجانب مسجد القرية.. و إذا بالنّاس قد تجمّعوا في الصّحن للقيام بالتّعزية بعد أن أدّوا صلاة الجنازة.. أين أنت يا صادق..؟ هيّا أسرع.. هذه إحدى الفرص العظيمة.. جلت ببصري يمنة و يسرة.. و في مختلف الاتّجاهات.. لكنّني لم أعثر على صادق في المسجد و لم أسمع صوته الجهوريّ الأجشّ.. و دون أن أشعر وقع بصري على ذلك اللّوح الّذي يعلن عن هويّة الفقيد.. فساخت الأرض تحت قدميّ.. و كدت أسقط من هول المفاجأة.. لقد كان العمّ صادق هو من يعتلي ذلك النّعش المنتصب بخشبه الأصفر الحزين و سجّادته الخضراء الوهّاجة..
يا للهول.. لقد مات صادق دون أن يحقّق أمنيته.. دون أن يقوم بعمليّة جراحيّة على قدمه اليمنى.. دون أن يسير مثلما يسير جميع النّاس.. لقد عاش فقيرا و مات فقيرا.. لكنّه قضّى حياته محبوبا لدى الجميع.. صادقا في أقواله.. لا يحتال على النّاس.. لا يعرف الحقد إلى قلبه الكبير سبيلا.. مات العمّ صادق.. فمن سيترحّم اليوم على العظام؟ و من سيلوّن صباح القرية بذلك الصّوت الغليظ الموقّع؟ من سيرتاد المقابر و المساجد؟ و من سيجود بدعوة صادقة تسافر إلى السّماء دون جواز سفر؟ كنت أنظر إلى جثمانه المكفّن و أنا أردّد مثله تماما.. رحم اللّه عظامهم..
في تلك اللّحظة.. أدركت أنّ العمّ صادق كان عظيما من العظام بفضل صدقه و محبّته الخالصة للآخرين و فراغ قلبه من الحسد الّذي يملأ قلوب الكثير من النّاس.. في تلك اللّحظة.. فهمت المعنى الحقيقيّ المقصود من العظام.. فأخذت أتصفّح صور الموتى متأمّلا مظاهر العظمة فيهم و أنا أردّد هامسا.. رحم الله عظامهم..

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.