مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

قِصَّةٌ حَيَاتِيَّةٌ بِصِيَاغَةٍ أَدَبِيَّةٍ- الآنَ صَارَ قَلْبِي يَنْبِضُ قَائِلًا : " البَنَاتُ أَحَنُّ المَخْلُوقَاتِ " بِقَلَمِ / حُسَامُ الدِّينِ أَبُو صَالِحَةٍ.

 

تحت وِسادة رأسي بغرفة نومي الكائنة بِالدُّور الخامس يدقُّ مُنَبِّه هاتفي المحمول لِيُوقِظني منْ غَفْوَتِي التي لَمْ تَطُلْ في تمام السَّادسة مساءَ إحْدَىٰ اللَّيَالِي الشِّتْوِيَّة شديدة البرد لشهر دِيسَمْبِر لعام ألفين، وثمانية عشر؛  لِأَتَزَوَّد بِلُقَيْمَات تَسُدُّ رَمَقِي، ثم أرتشف كوبًا صغِيرًا مِنَ الشَّايِ؛ لِأَعود أدراجي بِمُتَابَعَة دَوْرِيَّةٍ لِحَالَة حمل زوجتي ؛ حيث ذَهَبْتُ معها لطبيبة النساء دكتورة شفاء بعد أنْ ارْتَدَيْتُ ما ثقُل من الثِّياب أتحصَّن بِه من الزَّمهرِير ، انطلقنا سَوِيًّا تحت زخات المطر المتكاثر ، وبرق السماء المشتعل، وَصَوْت الرعد المفزع ؛ للتأكد من نوع الجنين، وصلنا عيادة الطبيبة شفاء وكانت مكتظة بنساء كثر أتين  لأسباب شتىٰ، وأغراض متنوعة ما بين الاطمئنان علي حملهن، أو معرفة نوع الجنين، أو معرفة مشفىٰ الولادة، ووقتها، وحالها من حيث كونها طبيعية، أم قيصرية، ثم جاء الدور علي زوجتي؛ للكشف عليها بجهاز السونار بعد انتظار طال لساعات، وكانت المفاجأة المباغتة ، والخبر المذهل بقول الطبيبة لي : "مبارك رزقت بأنثي " لكنني من شدة ذهولي؛ لوقع الخبر بمسامعي وقعًا سريعًا ، ونزل بي نزولًا مباغتًا، فقد وجدت نفسي أقول للطبيبة بعفوية تامة، وسجية متعجلة دون تردد  : " تأكدي يا دكتورة هل أنثي فعلا ؟ "
-كان تفكيري آن ذاك قاصرًا قصرًا لم يصل لعمر الرشاد، ولم يبلغ حد النضج، والحياد، وأخذ الأمور ببساطة دون تهور، وعناد ؛ فقد ظل نظري قابعًا تحت قدماي لم يَحُطْ حتي بمن حولي، وقد كانت تلك اللحظة هي الوحيدة التي تمنيت فيها أن تكون الطبيبة أخطأت التعبير، ولم تصب التقدير، وأنها عادت لتصحح ما قالته لي، لكنها أكدت لي مرة ثانية، وأخرىٰ ثالثة " لقد رُزِقْتَ بأنثىٰ" فلم يعد أمامي مجالًا للشك بقولها، وتلاشىٰ الأمل لدي بتعديل كلامها؛ فصار قولها حقيقة، والخبر لا يحتمل إلا الصدق لذاته، لكن ما عساي أفعل بالأيام القادمة؟ فقد اكتسبت خبرات ليست بالقليلة بتربية الذكور من أبنائي ممن رزقني الله تعالى بهم قبلها في الوقت الذي كثيرًا ما جهلت فيه جهلًا مطبقًا طبائع الأنثي نظرًا لأننا زمرة من الإخوة ليس بيننا إخت واحدة مما رسَّخَ إلف البنين بذهني، وأكد الأمر بفكري، وأيقن الأمر بعقلي ؛ فجعلني آلف البنين دون البنات ليس لازدرائهن - حاشا لله - ولا لفضل للبنين عليهن إطلاقًا فكم من أنثي كانت أخير من كثرة للذكور لا قيمة لهم توزن، ولا منفعة منهم ترجى فهم غثاء للسيل سرعان ما تتقاذفه الأمواج لتلقي به علي شاطئ الذكورة ، فكم من أنثىٰ أفنت عمرها لخدمة زوجها ، وناصرته بكل ما تستطيع، وما تملك حتي أعانه الله تعالى علي تحقيق ما يصبو له، وما يريد كالسيدة خديجة - رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا - وكم من أنثىٰ قادت أمة بأسرها كبيرها وصغيرها رجالها، ونسائها شبابها، وشيبها كبلقيس، وقاومت ظلمًا كآسية امرأة الفرعون، وكانت مثالًا للطهر والعفة كمريم ابنة عمران، وحازت علمًا لم يصل له غيرها كالسيدة عائشة -رضىَ اللهُ عَنْها - أو ذادت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسيفها كالرجال كنسيبة بنت كعب الأتصارية، أو حَوَّلت بيتها جامعة للعلم، والفقه في دين الله تعالى ، وقبلة للصلاة بجمع النساء كأمِّ ورقةَ بنتِ نوفل رَضِيَ اللهُ عنها حيث جعَل لها رسولَ الله- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مؤذِّنًا يؤذِّنُ لها، وأمَرَها أن تؤمَّ أهلَ دارِها، ومثالًا للمحبة كمحبة اخت سيدنا موسى لأخيها وتقفيها أثره حتي هداها الله تعالى إليه ودلها عليه ؛ فالأنثي أختٌ هي عينُ الأخِ التي تبصر مالا يبصره، وقلبًا بالمحبة يغمره ، ويد تحنو به، وتعطف عليه إن رحلت الأم؛ فهي خير بديل بها ، إذ المحبة سارية بالدم إرث لها ، وكيف لا، ولم تجد أم موسي عندما تقطَّع قلبها، وانفطر وجدها شوقًا علي طفلها الرضيع، وهو ملقى باليم، سوي أخته قائلةً لها (قُصِّيهِ) فتتبعي أثره، واعرفي سيره، لنصل لمستقره؛ فبصرت به عن جنب، وهم لا يشعرون، واهتدت لأخيها دون أن يدرون، وما ذلك إلا لقلب نابض بالود لأخت نقية، طاهرة، صافية، مُحِبَّةٍ لأخيها؛ برغم وعورة المكان، وقهر الزمان، وضعف الحال، واستضعاف الغير لهم بإمكان، إلا أن قلبها المحب انتصر علي الفرعون، وجنده، وعتاده، ومدده؛ فهداها الله تعالى إليه، ودلَّهَا عليه؛ بصدق محبتها إياه، فلو كانت قلوب الناس كقلب الأنثي اختًا، وأُمًّا كقلب أم موسىٰ، واخته ما ضاع أخ بغياهب الجب، وما فقد بمتاهات الدنيا، وما ذَلَّ، وما كَلَّ، وكمحبة زوجة نبي الله أيوب، وتمسكها به حتي شفاه الله - تعالى- وعافاه رغم ما ألم له وحاط به، وتخلي الناس عنه.
-كنت آلف البنين لالميزة بهم عن البنات ، ولا لذِكْرٍ يُخَلَّدُ بعد الممات؛ فما يَبقىٰ من أثر المرء المحمود بعد وفاته ذَكَرًا كان أم أنثىٰ إلا سيرته الطيبة، ومآثر أخلاقه الحسنة، وعمله الطيب، ومولود صالح أيًّا كان نوعه يدعو له بالخير هذا مما يجعل الميت يبقىٰ ذِكْرُه؛ فلا يُنسىٰ ،ويُحمَدُ أثره فلا يُطوىٰ ، لكن للاعتياد الذي اعتدت عليه، والعمر الطويل الذي عشت به ، والإلف الذي صرت إليه ، والنوع الذكوري الذي أحاط بي من كل حدب،وصوب؛ حتي حاصرني كلية؛ فصار لدي سَدٌّ مَنيع يحول بيني، وبين تقبل فكرة أن يكون لدي مولود أنثوي جديد ، ونتاج للحياة فريد، ليس بسبب نوع المولود فهذا رزق من الله الحكيم ساقه لي، وأهداه إلي ، ولكن لكيفية تعاملي معه غير المعهودة لدي ، فلا أستطيع هدم السد الحائل بيني، وبين تهيؤ نفسي لتقبله ، وصار أمامي سور عال مريع من الكينونة المجهولة، والسمت غير المعلوم لي فلا أقوي علي تسلقه؛لتجاوزه، وتخطي هذه العقبة، وتلاشي هذا العالم المجهول وتلافي ذاك الأمر المستور لدرجة لم أتصور أنني سأجتاز النجاح بذاك الاختبار الصعب، وهذا الامتحان المعقد؛ إذ ليس لدي أدني معرفة لا من قريب، أو بعيد بتربية الأنثي، فقد كنت أوقن بالحكمة القائلة، والمقولة الصادقة، وإن كانت صادمة لكنها حاسمة، وقاسمة، وفاصلة وهي أن  : "الإنسان عدو ما يجهل" فالإنسان بطبعه المعهود، وسمته المشهود، وفطرته التي جبل عليها، وفلسفته التي وصل إليها جعلته يعادي ما يجهل، ويصد عما لا يعلم؛ فالنزول بساحة قفرة منعدمة الأناسي متلاشية المرافق ، مفتقدة للخدمات غير القرار بأهل البوادي العامرة بكل مرفق، والمحاطة بكل خدمة مما حدا بالناس النزوح لها، والاستقرار بها ؛ فإسناد أمر غير معلوم، وتقلد مسئولية مجهولة يثير الريبة، ويحفز الخوف، ويبعث التردد، ويوجه الاستعداء نحوه؛ حتي يلم الإنسان، ولو بالنذر اليسير، والقدر القليل من تلك الجهالة بالعلم ؛ فيتغير الحال لأمن بعد خوف، وإلف بعد وحشة، ومحبة؛ فالتجأت إلي ربي عساه أن يربط علي قلبي، ويسكن فؤادي، ويسعدني، ويرضيني بتلك المولودة البريئة التي لا ذنب لها بتحديد نوعها .
- خرجت طفلتي من رحم أمها لأُكَبِّرَ بأذنها اليمني، وأقيم الصلاة باليسري ثم؛ لتستقر بين يدي كرحمة تحملها راحتي؛ لتملأ ناظري إشراقًا، وفكري شمولًا واحتواءً ، وصدري رحابةً واتساعًا.
- ولدت طفلتي، وولد معها قلبي من جديد كأن خلاياه تجددت بولادتها فصار ينبض باسمها قبل تسميتها جاءت، وبعينيها دنياي الباسمة؛ فهي كل مناط بسمتي، وجل أسباب فرحتي، وسائر طرق سعادتي؛ فبرغم صغر سنها، وحداثة عهدها إلا أنها أم أبيها، ورفيقة أمها، وخالة أخواتها حنانًا، ورعاية، واهتمامًا.
- تمر الأيام، وتمضي الأشهر، والسنون، وتكبر شيئًا فشيئًا، وينمو معها حبي لها، ويزداد قلبي تعلقا بها حتي غمرت حياتي، وملأت فؤادي، وسيطرت علي مكامن وجدي، ومنابع حبي، فصرت أري الدنيا بعينها، والبسمة من خلالها، وصارت الأقرب لقلبي دون ما سواها؛ فهي المنافحة عني، والتي تسأل عني قبل نفسها عند تناول طعامها أأبي موجود؟ هل أعطيتم له ما يحب تناوله؟ وتطعم فمي بيدها، وتسقيني الماء عند الظمإ قبل الآخرين عيناها معقودة بي، وقلبها منعطف علي فلا أحد يحبني كحبها إذا تغير وجهي لشدة، أو ألم تبكي، وإذا رأتني من بعيد هفت علي وجرت إلي لترتمي بأحضاني، ويكأنني أتذكر أبيات من قصيدة ابنتي للدكتور وليد قصاب وهو يقول :
يا وَرْدَةً فِي الـبَيْـتِ مَـا أَحْـــــــــلاَهَا
سَكَـبَتْ بِرُوحِي عِطْــــرَهَا وَشَــذَاهَا
مَــلأَتْ فــــُؤَادِيَ بَهْجَـــةً وَتــألـُّـــــقاً
وَسَـعَـادَةً ، فِي صُـبْحِـــهَا وَمَسَــاهَا
زَرَعَتْ لَنَا فِي الـبَيْـتِ هَــرْجــًا دَائِــمًا
بِضَجِـيْجِـهَا ، وَعَجِـيجِـهَا ، وَنِــــــدَاهَا.
- كم أقبلت علي بوجه باسم ينير تبسمها دروب حياتي المظلمة، ولكم هفت أذناي لسماع أجمل أنشودة، وأروع كلمة من شفتيها : "بابا " فيذوب همي، ويتلاشي تعبي عندما ألقاها، وأسمع نداها وصدق الشاعر إذ يقول :
 
إِنْ عُـدْتُ تلـقَــانِي بِوَجْـــهٍ ضَـــاحِـكٍ
فَيَــذُوبُ هَـمِّي عِـنْــدَمَا أَلـقَـــــــاهَا
لَمْ يَـبْـتـَهِـِـجْ أَحَــدٌ بِمِـثـْـلِي مِـثـْــلَهَا
أَوْ يَـلـْقـََنِي يَـــوْمــًا بِـِحُــلـْوِ لِقَـــــاهَا
فَـــإذَا رَأَتـْْتـِي مُـقـْبـِــلاً مِـنْ وِجْـهَــةٍ
عَجـِـــلَتْ إِلَيَّ بِـوَجْـــهِهـا وَخُـطــَـاهَا
وَسَــعَــادَة ً تـَنـــْدَاحُ مـِِلْءَ عُـيُــــونِهَا
وَهـُُتـَـــافُ ( بَـابـََا ) سَابِـِقٌ مَمْشَـاهَا.
- يا لله من تلك المحبة الوارفة، والمشاعر المرهفة، والرحمة الجارفة تلك التي لم أقْدُر لها قَدْرَها عند ولادتها ولم أحس بثقل قدرها، ونفاسة معدنها، وغلاة وزنها، ونقاء روحها، وصفاء حبها إلا بمرور الزمن، وكلما تذكرت قولي للطبيبة شفاء : "تأكدي يا دكتورة هل أنثي فعلا" أخجل كثيرًا من نفسي؛ إذ كنت أجهل رحمات من الله تترىٰ علي بوجودها، وتغمرني بسببها ؛ فالأطفال رزق من الله تعالى ، بل أطيب، وأقيم، وأغلي، وأثمن رزق وصلاحها، واستقامتها، وهدايتها رزق من الله أيضا، والبنات رزق كالبنين، ولقد تمنيت بعدما رأيت حنانها، وعطفها، وحنوها أن يكون رزقي كله بنات؛ إذ هن أحن المخلوقات، ومن رزق ببنت فأكثر، أو أخت، أو عمة؛ فأحسن لهن كن له وقاية من النار، وسببًا لدخول الجنة.
- إن البنات لمنحة، وهدية من الله تستحق الشكر، والاعتراف بالفضل، ولم أجد أجمل من وصف الشاعر (د/وليد قصَّاب) لتلك الحالة، وهذا الموقف حين قال:
إِنَّ البَنـــَــــاتِ لَمِـنْـحَــــة عـُلـْــــويَّـة ٌ
فَاشْـكـُرْ لِـرَبِّــــــــكَ أَنـَّهُ أَعْطَـــــــاهَا
وَإِذَا تـَرَبَّــــــــتْ فِي رِيَـــاضِ فَضِـــيلَةٍ
وَتَجَـمَّـلـََـــتْ مِنْ دِينِـــــهَــا وَتـُقَـَـــاهَا
ونمََـــــتْ فى ظـِل ِّالعَـفـَـافِ بَصِـــيرَةً
واتـَّخـَذَتْ نِسَــــاءَ مُـحَـمَّـدٍ أَشْـبَـــاهَا
فَلأَنـْـــتَ أَفـْخَــــرُ وَالِــــــــــدٍ بِبَنــــاتِهِ
فَاشْــمـخْ بِرَأْسِـكَ فِي السُّـهَا تَيَّــاهَا.
 

هناك تعليقان (2):

  1. ربنا يجعلها زريه صالحه فبارك الله فيكم وحفظكم من كل سوء وشر يارب العالمين

    ردحذف
  2. اللهم آمين يارب العالمين، بارك الله فيكم ولكم، وأكثر من أمثالكم، وزادكم خيرا، وورعا، ومتعكم بالصحة، والعافية، والستر في الدين، والدنيا، والآخرة.

    ردحذف

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.