مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

ما هي علامات تيار الجدة -اللاصناعية- الذي يحمل اسم«الموجة الحضارية الثالثة؟ محمد الجلايدي- القنيطرة- المغرب

 
 

أين هو المستقبل؟ يسهل القول إن المستقبل يبدأ من الحاضر، ولكن أين هو الحاضر؟ وأي حاضر؟ إن الحاضر يتفجر بالتناقضات-التضخم يضيق خناقه على دول الموجة الثانية- البطالة تتفشى كالنار في الهشيم، رغم كل نظريات الازدهار الكلاسيكية - التحدي الذي يتعرض له قانون السوق، العرض والطلب. فملايين الناس يطالبون بمنتوج خلاق، مشبع نفسيا، وهام اجتماعيا- التناقضات الاقتصادية تتضاعف- في السياسة تطرح مسألة المصداقية، فالأحزاب تفقد أصوات مؤيديها- الدولة القطرية تتعرض للهجوم باسم العالمية..
•فكيف لنا أن نرى «ما وراء» الاتجاهات والاتجاهات المضادة؟ ورغم البيانات الكومبيوترية والجداول الإحصائية والنماذج الحسابية، لا تزال محاولاتنا لتبصر المستقبل- أو حتى لفهم الحاضر- فـنّا أكثر منها علماً.
إننا نقف اليوم على حافة عصر جديد من «التأليف والتركيب» في كافة الحقول الفكرية، من العلوم البحثة إلى العلوم الإنسانية ثم الاقتصاد- لنعود إلى أسلوب التفكير «الشامل والنظرية العامة». وذلك بغاية البحث عن تيارات التحول، وكشف الروابط التحتية بينها، ليكون في وسعنا فهم موجة التغيير الكبرى-الموجة الحضارية الثالثة، بالنظر إليها كنظام جديد لإنتاج الثروة يعتمد على التكنولوجيا والمعرفة.
(…)
١- في مجال الطاقة:
عندما اندلعت حرب أكتوبر سنة 1973م ، خرجت منظمة البلدان المصدرة للنفط من الظل، فجأة. إذ كان لها تأثير فعال في ضرب اقتصاد الموجة الثانية، بعد حظر تصدير النفط إليها. وبعد أزمة الطاقة ظهرت خطط ومقترحات وجدالات كثيرة ، تبحث عن البديل . فمعظم الخبراء اتفقوا على أن الاتكال على النفط لن يستمر إلى ما لا نهاية ، مهما عُثر على حقول جديدة . ورغم تضارب الإحصائيات حول الزمن المتبقي للمخزون النفطي، تبدو هذه التكهنات في منتهى السخافة. إن الحقيقة النفطية تحتضر سواء أكانت على شكل فائض أم على شكل نقص تدريجي. والبلدان النفطية تعرف هذه الحقيقة ، لذلك تتدافع لتنويع خياراتها. ومن الممكن أيضا- نتيجة الفتوحات التكنولوجية والاقتصادية- أن تصبح الطاقة البترولية فائضة ورخيصة. ورغم هذا وذاك، فإن الحقيقة البترولية على وشك النهاية.
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن الفحم الحجري ، الذي يعتبر من المخزونات الوافرة ، هي أيضا قابلة للاستنزاف نهائيا . كما أن التوسع في استخدامه سيؤدي إلى تلوث خطير للجو وإحداث تغيرات مدمرة في المناخ العالمي ، بزيادة ثاني أوكسيد الكربون في الجو ، وتخريب التربة . وحتى لو توسع استخدامه ، فلن يكون صالحا للعديد من الأشياء التي تعتمد على النفط والغاز - كاستعمال السيارة على سبيل المثال لا الحصر .
والتكنولوجيا النووية أيضا ، لها مشاكل مخيفة في مراحلها الحالية . فهي تعتمد على اليورانيوم ، وهو وقود مستنزف أيضا ، وتحمل مفاعلاته التقليدية عدة مخاطر ، وتكلف غاليا على مستوى الأموال التي تُصرف من أجل إجراءات الأمان . ولم يُعثر بعد على حل لمشكلة النفايات النووية . واليورانيوم كوقود أساسي للطاقة النووية ، مخزوناته في العالم قليلة وغير قابلة للتجديد . إضافة إلى ذلك ، فإن هذه الطاقة تُصَعِّد من مخاطر نشوب حرب نووية .
لذلك ، فلابد من التحول إلى قاعدة جديدة تتصف بالجذرية في مجال الطاقة . وهذا التحول ينبغي أن يتلائم مع المستوى التكنولوجي للمجتمع ، ومع طبيعة الإنتاج والأسواق والسكان وعوامل عديدة أخرى .
إن نظام الإنتاج الجديد الذي ينبثق الآن ، يتطلب ترميما جذريا لشؤون الطاقة . وهناك خيارات يتم الاشتغال عليها الآن:
- الخلايا الكهروضوئية التي تحول أشعة الشمس إلى طاقة كهربائية . وهي تقنية تقوم بتطويرها عدة شركات - الخطة السوڤييتية الرامية إلى تثبيت بالونان هوائية لإطلاق الأشعة الكهربائية إلى الأرض عبر الكبلات - بناء معامل لإنتاج الطاقة من حرق النفايات ، أو من بقايا جوز الهند ، للحصول على الكهرباء - توليد الكهرباء من المصادر الحرارية الأرضية - ومن طاقة الأمواج - وقد انتشرت وحدات التسخين الشمسي على أسقف المنازل في أرجاء العالم - التقاط الطاقة الشمسية بمرايا موجهة بواسطة الكومبيوتر (Power-Tower) ، وتوزيعها على زبناء - حافلات تسير بالهيدروجين ، مع الاشتغال على طائرات وغيرها من المركبات ..
طبعا ، ما تزال هذه التكنولوجيات تمر بمراحلها الأولى من التطور ، بعضها سيؤكد عدم الجدوى ، وبعضها سيتم تطبيقه على نطاق تجاري واسع ، خلال عقدين أو ثلاثة - لكن الذي تحتاجه هذه المحاولات هو إبداع دمج عدة تقنيات سويا . وما إن يتم ذلك ، حتى تزداد الخيارات بمتوالية هندسية . وبالتالي تسريع بناء قاعدة الطاقة للموجة الحضارية الثالثة . ومن الواضح أيضا، أن هذه القاعدة الجديدة للطاقة لن تبرز للوجود دون كفاح مرير ضد قوى الموجة الثانية ، وأنصار الرافضين لها الداعين إلى العودة نحو الماضي قبل الصناعي .
«مع ذلك فلن يربح في النهاية لا أنصار الموجة الأولى ولا محافظو الموجة الثانية ، فهم يكرسون أنفسهم لخلق «فانتازيا» مندثرة ، ويحاولون الحفاظ على قاعدة الطاقة التقليدية التي يستحيل التخلص من مشاكلها.»(1) والصراع على الطاقة يتضافر مع تحول آخر معادل لها ، ويتجلى في محاولات جادة ، نحو التخلص من تقنيات الموجة الثانية.
(…)
٢- في مجال العدة والأدوات المستقبلية:
أُقيمت الصناعات التقليدية للموجة الثانية على مبادىء إلكتروميكانيكية بسيطة . وتتميز الصناعات الجديدة عن تلك بتخطيها الأساس الإلكتروميكانيكي وأعمدته العلمية التقليدية. وهي تتجه نحو الاعتماد على التقدم التقني المتسارع للفروع العلمية جميعها ، وبعضها لم يكن موجودا قبل ربع قرن . مثل : - الإلكترونيات الكمية -نظرية المعلومات- البيولوجيا الجزئية - علوم المحيطات - النوويات - علوم البيئة - الأيكولوجيا - وعلوم الفضاء.
لقد ساعدت هذه العلوم الإنسان على الوصول إلى ما وراء الزمان والمكان. وإلى مناطق مكانية في منتهى الصغر. ومن هذه العلوم نشأت الصناعات الجديدة، وترعرعت:
-الكومبيوتر ومعالجة المعطيات ، والفضاء الجوي ، والبتروكيماويات المعقدة، والمواصلات، ووسائل الاتصال المتقدمة.. وعشرات أخرى منها، شهدت تحولا إلى الموجة الثالثة في أواسط الخمسينات بالولايات المتحدة. وهو تحول أدى إلى كساد مناطق بعد ازدهار، لأنها تعتمد على الصناعة التقليدية؛ بينما برزت مناطق كانت في الهامش، فانتعشت تصاعديا باعتمادها على صناعات جديدة.
ومن المرجح أن أربع صناعات ستصبح من الصناعات الهيكلية لحقبة الموجة الثالثة، وما بعد التصنيع:
أ- صناعة الإلكترونيات قادم جديد إلى الساحة العالمية. تبلغ مبيعاتها حاليا أكثر من 100 مليون دولار سنويا، ومن المتوقع أن تصل إلى 325-400 بليون سنويا في أوخر الثمانينات. وهذا سيجعلها من الصناعات الأربع الكبرى في العالم.
ب- صناعة الكومبيوتر ، والسرعة التي انتشر بها. إضافة إلى انخفاض تكلفة تصنيعه إلى حد كبير، وازدياد قدرته الاستيعابية إلى حدود مذهلة. كما أن أجهزة الميني- كومبيوتر هي اليوم تغزو البيوت. وتعمل شركات على إضافة أجهزة الكومبيوتر للأدوات المنزلية. إن ارتباط هذه الأجهزة بالمصارف، والمكاتب، وأماكن العمل، والبيوت؛ سيؤدي إلى إعادة تشكيل العمل من الإنتاج إلى البيع.
ج- وهناك صناعة الإلكترونيات التي ترتبط صناعة الكومبيوتر بها ارتباطا عضويا، سرعان ما انتشرت منتجاتها بين المستهلكين، مثل الساعات الإلكترونية، الحاسبات ، ألعاب الفيديو. وظهرت لها تطبيقات في مجال الزراعة، كمجسات التربة والمناخ، وهي صغيرة الحجم. وفي المجال الطبي أنتجت الوسائط الطبية المتناهية في الصغر، والتي توضع في الملابس أو على الجسد، لتنظيم ضربات القلب أو مستويات الإجهاد.. هذا بالإضافة إلى أضعاف من التطبيقات في الإلكترونيات، تكمن في المستقبل.
د- فزياء اللاصمامات الإلكترونية: إن أزمة الطاقة تلعب دورا كبيرا في تسريع صناعات الموجة الثالثة، وهي تتميز بحاجاتها الضئيلة من الطاقة التقليدية. كانت شبكات الهاتف المرتبطة بالموجة الثانية- على سبيل المثال- تتطلب حفر الأنفاق تحت الشوارع لمد الكابلات والمـُـرَحِّلات ومفاتيح التشغيل. أما اليوم فنحن على وشك التحول إلى منظومات الألياف البصرية الدقيقة لإرسال المكالمات. وبتكلفة طاقية بسيطة جدا. وكل خطوة إلى الأمام تنتج مركبات لا تتطلب إلا قدرا ضئيلا من الطاقة.
(…)
هذه الثورة التكنولوجية ، توحي ، بكل خصائصها ، أن صناعات الموجة الثانية ، ستتحول نحو أقوى الاستراتيجيات الاقتصادية عالية التقنية ومنخفضة التكلفة. «وعموما كانت مجلة (ساينس) محقة عندما أفادت أن نشاط الدول الاقتصادي سيتغير جذريا بسبب الانفجار الإلكتروني، وحقا يبدو أن الواقع سيبز الخيال في معدل التطبيقات الجديدة واللامتوقعة في مجال الإلكترونيات.»(2)
(…)
٣- في مجال الفضاء :
تشكل صناعة الفضاء الهيكلية الثانية في الأساس التقني الجديد للموجة الثالثة . ف«التخوم العليا» تفصح عن مصادر لثروة قادمة في التقنية المتقدمة . هناك شركات تعمل الآن على توليد الطاقة بواسطة الأقمار الصناعية والأرصفة الفضائية . ففي الفضاء مواد عالية التقنية تتطلب معالجة دقيقة ومحكمة وانفلاتا من الجاذبية الأرضية . ولا حاجة إلى أنابيب المختبر ، ولا خشية من الآثار الضارة.
نتيجة لذلك ، أصبحت «صناعة الفضاء» موضوعا جذابا للعلماء والمهندسين ومديري التكنولوجيا المتقدمة . وهو ما سيجعل النماذج المصنوعة على الأرض تبدو بدائية . وقد أحصت شركة (TRW) للفضاء والإلكترونيات، أكثر من أربعمائة من الخلائط المعدنية لا يمكن صنعها على الأرض بسبب الجاذبية. ويوجد حماس لدى أنصار الفضاء، يصل إلى حد الطموح التواق لبناء مدن فضائية ومستوطنات في التخوم العليا.
(…)
٤- في مجال البحر :
إن الاندفاع نحو أعماق البحار كالاندفاع نحو الفضاء. وهو عمل يؤسس لقاعدة هيكلية ثالثة في المجال التقني الجديد. وإذا كنا نعيش الآن في عالم يتضور جوعا، فمن الممكن التغلب على مشكلة الغذاء:- بجعل البحر مزارع ضخمة تقدم مخزونا لا ينضب من البروتين الضروري- إن اصطياد الأسماك بالطرق المعتمدة والتي تمارس قتلا لا يرحم ، ويهدد بانقراض جماعي لثروات سمكية ؛ فقد تؤدي الزراعة المائية (Equaculture) إلى تخفيف أزمة الغذاء العالمية. كما تُقدم المحيطات معينا من المعادن المتنوعة، ومنها ماهو متجدد: مثل «عقيدات المنغنيز» في قعر البحر. وهناك شركات صيدلانية تجوس البحار بهدوء بحثا عن تشكيلة من العقاقير الجديدة مثل المضادات للفطريات ومهدئات الألم والمعينات الشخصية وعقاقير وقف النزيف.. وبتطوير هذه التقنيات ، من المرجح أن نشهد بناء «قرى مائية» مغمورة أو شبه مغمورة بالمياه، ومصانع عائمة تستمد طاقتها من مصادر المحيط ، كالرياح والتيارات الحارة والمد والجزر. ويمكن للشركات متعددة الجنسيات أن ترى في هذه المصانع محطات متنقلة لنشاطاتها. وقد يبني المغامرون مدنا عائمة ويعلنونها دولا! وقد تحصل المدن العائمة على اعتراف ديبلوماسي رسمي!« إذا نظرنا إلى هذه التطورات ، لا كعوامل منفصلة ، بل عوامل متصلة ومترابطة ، نجد أن كل تقدم تقني أو علمي يُسَرِّع الآخر، وأننا لم نعد نتعامل مع نفس المستوى التقني الذي أقيم عليه أساس الموجة الثانية. إننا في الطريق إلى نظام طاقة ونظام تكنولوجي جذريين». (3)
(…)
٥- في مجال البيولوجيا :
ستشكل الصناعة البيولوجية الهيكل الرابع لصناعات الغد.  فالسباق المحموم بين الشركات الكبيرة سعيا وراء التطبيقات التجارية للبيولولوجيا الجديدة، يبعث القلق لدى بعض المنتقدين اتجاه هذا السباق. بعضهم يستحضر تصورات ترتبط
ب«لعنات الميكروبات» التي يمكن أن تنشر الأوبئة وتفني شعوبا بأكملها. بينما يتحدث المناصرون المحترفون في هذا المجال عن احتمالات تصعق الخيال، حول إنتاج نسل من البشر بإعدادات مسبقة، في مرفق الهندسة الوراثية. ويؤكدون أيضا، إمكانية تنمية أعضاء احتياطية للناس بمـا يسمى «بنك ادخار» مليء بالكلى والأكباد والرئات.
ولهذه الأفكار الغريبة أنصار وخصوم في المجتمع العلمي كذلك. الأنصار يشيرون إلى احتمال حل مشكل الطاقة: كفكرة الاستفادة من بكتريا قادرة على تحويل الأشعة الشمسية إلى طاقة كهربائية، وفكرة الخلايا الشمسية البيولوجية.. وفي حقل الصحة يؤكد هؤلاء احتمال الاستشفاء من أمراض مستعصية أو الحد من خطرها. والخصوم يحذرون من استغلال هذه المنجزات بدافع الربح من وراء المرض وذلك بنشر الأمراض الجديدة من طرف شركات تمتلك وحدها العلاج.. «إنه لمن السابق لأوانه رسم خطة تطور التقنية البيولوجية، إلا أن الأوان قد فات للعودة إلى نقطة الصفر. فنحن لا نستطيع عدم اكتشاف ما نعرفه. لكننا نستطيع السيطرة على تطبيقاتها، ومنع الاستغلال.. قبل فوات الأوان.»(4)
--------------------------------------
1. المرجع : كتاب - حضارة ..الموجة الثالثة - ألفن توفلر - المرجع نفسه-الصفحة 151
2. المرجع : كتاب -حضارة ..الموجة الثالثة - ألفن توفلر - المرجع نفسه-الصفحة 155
3. المرجع : كتاب - حضارة .. الموجة الثالثة -ألفن توفلر - المرجع نفسه - الصفحة 159
4. المرجع : كتاب - حضارة ..الموجة الثالثة - ألفن توفلر - المرجع نفسه-الصفحة 162
—————————————————-
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.