مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

أشياء لا تُنسى - بقلم أمين الساطي

 


 
لم أعد أتذكر، متى شاهدته معها للمرة الأولى، لكني أعتقد أن ذلك كان في مطعم "بلس هاوس"، القريب من مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث أعمل طبيباً مقيماً في قسم الجراحة فيها. كانت جالسةً معه على الطاولة المنزوية في زاوية المطعم، ولطالما كنت دائماً معجباً بها، منذ أيام الدراسة.
إنها نحيفة وقصيرة، ولها وجه طفولي بريء ناعم جذاب، وشاءت الظروف أن نجتمع معاً بمستشفى الجامعة، حيث إنها طبيبة مقيمة في قسم الأشعة. حاولت عدة مرات التقرّب منها ولفت انتباهها، لكني فشلت في ذلك، وبقيت علاقتنا رسمية وسطحية. شعرت بالحسد الشديد وأنا أنظر في وجه هذا الرجل الوسيم، وهو يبادلها نظرات الإعجاب، فشعرت بأني أقل مرتبة منه، ما خلق لديَّ شعوراً بالبغض والكراهية نحوه.
لقد كانت فتاة ذكية وقوية الشخصية، ولا أدري ماذا شدّها إلى هذا الرجل الوسيم، ربما لتلفت أنظار عائلتها إليها، ولتتباهى به أمام صديقاتها، أو لعلها شعرت بانجذاب جنسي نحوه، أو ربما لتقنع نفسها، بأن فوزها بهذا الرجل الفاتن، يعود لكونها امرأة مميزة، ولتغطي إحساسها الداخلي بالنقص، لكونها ليست على قدر كبير من الأنوثة الصارخة، أما أنا فبرأيي الشخصي، إن الدخول في علاقة عاطفية ليس له علاقة بالشكل أو بالصوت، بل له علاقة بالرائحة، والتي تحدث بشكل تلقائي من دون أن نلحظ ذلك، ولعلي اخترت هذه النظرية العلمية، لأبرر لنفسي لماذا فضلته عليّٓ.
حدث ذلك في ليلة السبت، ومن عادتي أن أكون طبيباً مناوباً في تلك الليلة، لأَني من قرية بعيدة عن بيروت، وليس عندي مكان لأقضي السهرة فيه، على عكس أغلبية الأطباء. بينما أنا وراء مكتبي رنَّ جرس الهاتف، وأخبرني موظف الاستعلامات بأن الدكتورة لميس تريد أن تتكلم معي، في بادئ الأمر لم أستوعب ما قاله الموظف، ولكني عندما سمعت صوتها الذي أستطيع أن أميزه من بين جميع أصوات نساء العالم فهمت ذلك. 
بصوت تشوبه بحة بكاء، أخبرتني بأن خطيبها تعرض لحادث سير خطير، وعندما جلبوه إلى قسم الإسعاف بالمستشفى، فإن موظف الاستعلامات يصر على أن يدفع المرافقون له مبلغ أربعة آلاف دولار، كتأمين قبل دخوله قسم الطوارئ، وإنها لا تملك هذا المبلغ بهذه اللحظة، وتود أن أقرضها إياه وستعيده لي. أخذت المصعد، ونزلت إلى مكتب الاستعلامات، لقد أدركت بمرارة أن علاقتها قد تطورت مع هذا الشخص البغيض، حتى انتهت بالخطبة، اعترتني رغبة قوية في أن أقول لها، بأني لا أملك هذا المبلغ، لكن عندما وصلت مكتب الاستعلامات وشاهدتني، لمعت عيناها بدموع محبوسة، وركضت نحوي واحتضنتني متصوّرة أنني جئت لإنقاذها.
تٓنشّٓقتُ رائحة بشرتها الناعمة التي تفوح منها رائحة أزهار الليمون، فبدت أكثر جاذبية وإثارة من أي وقت مضى، ولم أجد نفسي إلا وأنا أخرج الماستر كريديت كارد من محفظتي وأدفع أربعة الآلاف دولار. بعدها جرى إدخال خطيبها إلى المستشفى، وتم نقله إلى غرفة العمليات الجراحية، لتحضيره بسرعة، لإجراء العملية. بما أنني كنت مناوباً بتلك الليلة، فلقد استدعاني الجراح الاختصاصي لمساعدته في غرفة العمليات. نظرت إلى جسمه الممدد على طاولة العمليات تحت ضوء المصباح الساطع، وبصعوبة بالغة تعرفت على وجهه الوسيم، بسبب الكدمات السوداء التي تغطيه بالكامل، كان المريض في حالة غيبوبة تامة، فلقد تعرض لنزيف حاد، وتوجد آثار انثقاب رئوي نتيجة للحادث، إنها محاولة يائسة على الجراح أن يقوم بها لمحاولة إنقاذه.
عمل شقاً وسط صدر المريض خلال عظم الصدر، وقصّ العضلات الوربية وفتح غشاء الرئة، فتجمدت يداه عن متابعة العملية، لقد اكتشف أن للمريض أربع رئات، كل رئة مزودة بشريان يتصل مباشرة بالقلب، فأدرك أن هذا المخلوق ليس إنساناً عادياً، لكنه سيطر على أعصابه، وطلب من الجميع مغادرة غرفة العمليات، ما عدا مساعده وطبيب التخدير، وبينما أنا أهمُّ بمغادرة الغرفة مع بقية أعضاء الطاقم الجراحي، أومأ لي الطبيب الجراح بأن أبقى معهم بالغرفة. بعد فترة قصيرة فارق المريض الحياة، فغادر الطبيب الجراح الغرفة على عجل، بعد أن طلب من مساعده أن يبقي الجرح مفتوحاً ونظيفاً، ولقد قمت بمساعدته على ذلك، كنت مذهولاً من هذا المنظر، ولم أستطع أن أستوعب ما شاهدته عيناي.
بعد حوالي نصف ساعة عاد الجراح ومعه مدير المستشفى، وتأكد بعينيه من وضع الرئات، ثم تحدث معنا نحن الذين بقينا في غرفة العمليات، وأخبرنا بأنه من المعلوم للهيئات المسؤولة، أن هناك أشخاصاً فضائيين يعيشون بين سكان الكرة الأرضية، وتملك هذه المخلوقات القدرة على أن تتشكل خارجياً بشكل البشر العاديين، وأن الحكومات والمؤسسات تعمل جاهدة على كشف هذه المخلوقات المندسة بيننا، وطلب منا عدم الإفصاح عن هذه المعلومة لأي شخص مهما كان، حتى لا يسيطر الذّعر على البشرية، فتتأثر الحياة اليومية لجميع الناس، كما أن انتشار الخبر سيفسد الخطط السرية، التي تقوم بها الحكومات والمؤسسات المسؤولة لاحتواء هذا الخطر.
بعد أن انتهى من حديثه خطر على بالي أن أسأله عن الكوكب الذي جاءت منه هذه المخلوقات، ولكنني لم أملك الجرأة، لذلك قررت على الأقل، أن أستغل الموقف، فسألته عن مصير أربعة الآلاف دولار التي دفعتها لتأمين دخول المخلوق الفضائي للمستشفى، لأنني كنت متأكداً بأنه من الصعوبة عليّ تحصيل هذا المبلغ بعد وفاته، بلطافة شديدة أجابني: "لا توجد أي مشكلة، راجع رئيس الأطباء الجراحين". فاعتبرت جوابه نوعاً من الرشوة لشراء سكوتي عن الموضوع.
فعلاً باليوم التالي ذهبت لمقابلة رئيس الجراحين، وقبل دخولي مكتبه أخبرني سكرتيره بأن الشك بأربعة الآلاف دولار جاهز باسمي في قسم المالية، فرجعت أدراجي مباشرةً إلى محاسب المالية واستلمت الشك، لأَني فعلاً كنت بحاجة ماسة إلى هذا المبلغ، نظراً لسفري بعد ثلاثة أسابيع للالتحاق بجامعة ميتشغان في أميركا، حيث إني كنت قد حصلت على منحة دراسية فيها، لإتمام تخصصي في الجراحة العامة.
بعدها لم أسمع أي خبر من لميس، ولم تتصل معي بالهاتف، وتصورت بأنها تناست الموضوع، لكيلا تدفع أربعة الآلاف دولار، إذ فجأة يرن الجوال، وأسمع صوتها ببحته المميزة، بدأت مكالمتها بالاعتذار عن تأخرها بالاتصال، وأنها انتظرت حتى تمكنت من تأمين أربعة الآلاف دولار، أثار استغرابي أن صوتها كان عادياً، لا تشوبه أي نبرة للحزن، ما أثار في نفسي أحاسيس متناقضة بين الفرح والخوف، واتفقنا على أن نتناول الغداء باليوم التالي في مطعم "بلس هاوس" القريب من مكان عملنا.
أول ما جلسنا على الطاولة، قدمت لها العزاء بوفاة صديقها، لم يبدُ على وجهها آثار التعاسة والضيق، فدفعني فضولي لسؤالها، عن موضوع خطبتها للمرحوم، فأجابتني وهي تبتسم بدلال "ليس تماماً"، فعرفت أنها تتهرب من سؤالي، فحاولت أن أقنع نفسي بأنها تخطت نزوة عابرة قد عاشتها، ولعلها تفكر الآن في بدايات جديدة. أخرجت من حقيبتها شكاً قائلة: هذا هو المبلغ الذي اقترضته منك، والشك صادر عن زوج عمتي، فرفضت أخذه، فعادت لتلح عليّ من جديد، ولكي أحسم النقاش نهائياً، أخذت الشك ومزقته إلى قطعتين وأعدته لها قائلاً: "إني سآخذ الشك في المستقبل وليس الآن". وأخبرتها بأني مسافر إلى أميركا بعد حوالي أسبوعين، لأتابع تخصصي في الجراحة العامة، وشجعتها على أن تفكر بالسفر إلى أميركا لمتابعة تخصصها، ولا سيما أنها طبيبة ناجحة وذكية، وعدتها بأني سأحاول مساعدتها للقدوم إلى جامعة ميتشغان. أمضينا أكثر من ساعتين ندردش فيهما، مرتا علينا وكأنهما دقيقتان. 
بالنهاية نهضت واحتضنتني وهي تودعني، فشممت رائحتها الممزوجة بعطر خشب السنديان، بشكل يختلف كلياً عن رائحتها في المرة السابقة، فحرّكت في داخلي كل رغباتي الجنسية المكبوتة نحوها، فتأكدت بأن رائحة جسد المرأة يتأثر بنوعية الأجواء التي تتواجد فيها، وتابعتها بنظراتي وهي خارجة من باب المطعم، لتختفي تماماً بين أرتال المارة على الرصيف.

هناك تعليق واحد:

  1. أسلوب راق ومحترف في سرد الأحداث.. بالتوفيق ودوام التألق والنجاح.

    ردحذف

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.