مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

الأحتلال ... ابراهيم سليمان نادر

 

 
  
الأميرة لم تزل تفاحة حمراء
للعشاق والبر العراقي
الجليل
شرر من التاريخ
ينزل من يديها
فوق أعناق القراصنة
والظلامين في وهج
الأصيل  . . . .

 
مدينتي ، العربية العتيدة ، ألبسها الاحتلال الاميركي ثوب زفاف من غبار . خلق اذلاء كثيرين ، يمشون في طرقاتها وأزقتها من غير رأس . رؤسهم تتدحرج ، وأحلامهم تنطفئ وتضيء بلا نور أو قبس.
جندي اسود ، أفطس الانف ، قبيح الملامح ، يلاحقني بتهمة أجهلها . أولاد تآكلت أصابعهم ، وتاجر يقسم بأغلط الايمان انه خاسر . أضرحة ومقامات لأنبياء وأولياء وصالحين ، يساوم على دخولها مشايخ بلحى برتقالية خفيفة الشعر . حشرات لها طنين ، تخرج أسراباً من شقوق وثقوب علاها السبخ ، ومكاتب جديدة لدفن الموتى بالمجان . 
أحياء قديمة يلعب فيها الأطفال بالقمامة ، وأخرى أنيقة يتسابق أبناؤها بسيارات (البالة) .
الساعة الوحيدة التي اعتلت بوابة (الاعدادية الشرقية) توقفت منذ زمن عند الثامنة والنصف ، حدائق مزهرة تندثر كالقش ، خضرتها تسقى من خراء وبول البشر . علب حجرية ترتفع فيطأطأ الناس هاماتهم .
مؤرخون وقصاصون ومفكرون ، نقاد وشعراء وروائيون يتيهون فخراً بأحذيتهم البالية ، يغطي نعلها الطين أو الرقعة .
حشود تهلل لخطيب حزب بزغ فجأة ، يخفي نصف الحقيقة ويأكل نصفها الأخر . أطباء يحقنون المرضى بالماء بدلا من الدواء ، وآخرون يروّجون أدوية غير مرخصة بلا حياء .
مصحات محشوة بالعقلاء ، ونسوة يغتصبهن جند الاحتلال بحماية القانون . معسكرات وأقبية للتعذيب والتشويه . موظفون يتقاضون الرشاوى علنا ، ووزراء يسرقون بلا خجل . سماسرة في كل زاوية أوركن ، يبيعون كل شيء .
تراب .... غبار .... فوضى .... تمّزق .... ضجيج وقتل وإنحلال ... تردي وتسفل وضياع ، تلك هدايا الكذب التي جلبها الاحتلال الخبيث تحت سقف الديمقراطية البائسة .
مدينتي ، العربية العتيدة ، ألبسها الاحتلال الاميركي ثوب زفاف من غبار . خلق اذلاء كثيرن ، يمشون في طرقاتها وأزقتها من غير رأس . رؤسهم تتدحرج ، وأحلامهم تنطفئ وتضيء بلا نور أو قبس.
جندي اسود ، أفطس الانف ، قبيح الملامح ، يلاحقني بتهمة أجهلها . أولاد تآكلت أصابعهم ، وتاجر يقسم بأغلط الايمان انه خاسر . أضرحة ومقامات لأنبياء وأولياء وصالحين ، يساوم على دخولها مشايخ بلحى برتقالية خفيفة الشعر . حشرات لها طنين ، تخرج أسراباً من شقوق وثقوب علاها السبخ ، ومكاتب جديدة لدفن الموتى بالمجان . 
أحياء قديمة يلعب فيها الأطفال بالقمامة ، وأخرى أنيقة يتسابق أبناؤها بسيارات (البالة) .
الساعة الوحيدة التي اعتلت بوابة (الاعدادية الشرقية) توقفت منذ زمن عند الثامنة والنصف ، حدائق مزهرة تندثر كالقش ، خضرتها تسقى من خراء وبول البشر . علب حجرية ترتفع فيطأطأ الناس هاماتهم .
مؤرخون وقصاصون ومفكرون ، نقاد وشعراء وروائيون يتيهون فخراً بأحذيتهم البالية ، يغطي نعلها الطين أو الرقعة .
حشود تهلل لخطيب حزب بزغ فجأة ، يخفي نصف الحقيقة ويأكل نصفها الأخر . أطباء يحقنون المرضى بالماء بدلا من الدواء ، وآخرون يروّجون أدوية غير مرخصة بلا حياء .
مصحات محشوة بالعقلاء ، ونسوة يغتصبهن جند الاحتلال بحماية القانون . معسكرات وأقبية للتعذيب والتشويه . موظفون يتقاضون الرشاوى علنا ، ووزراء يسرقون بلا خجل . سماسرة في كل زاوية أوركن ، يبيعون كل شيء .
تراب .... غبار .... فوضى .... تمّزق .... ضجيج وقتل وإنحلال ... تردي وتسفل وضياع ، تلك هدايا الكذب التي جلبها الاحتلال الخبيث تحت سقف الديمقراطية البائسة .
مدينتي تستحم الآن بالضجة الصاخبة والجفاف والرذيلة .
- هو صاحب اللحية لا ريب ، يقيناً هو بعينه ، ألم أقل لك ؟ .
لا أعرف لصاحب الصوت وجهاً .
من بعيد ألمح مدرعة اميركية ومروحيتين تجوبان الفضاء في الأفق . تقترب المدرعة مني ، تزحف كالحقد الهاديء . يتعالى بوقها القبيح مستدعيا جحافل الضجة من كل فج . تركت المكان هاربا في كل اتجاه ، لكن القبيحة اللعينة ظلت تزحف نحوي  كالأفعى . حاولت أن ألبس العري ، ثم أغلقت على رأسي بتجاهل مصطنع ، لكن الزحف استمر ، ورائحة الاعشاب والطحالب والقصب على ضفاف النهر تغطي فضاءات المدينة .
يتوهج القبح بعينيّ المسبلتين كقناع ميت . يتحّول الثقبان في القناع الى عدستين لاقطتين . العدستان باتتا شاشة مجسمة تتجمع عليها ذرات نافرة من غبار المدينة وأزيز المروحيات وهدير الانتقام والضجة اللعينة .
( هل ربحنا المعركة ، هل سقط الغزاة في الكمين ..... يا ألهي ؟؟ )
أريد ان أطير بصمت بعد ان تعّلمت بالرغم من الأوجاع ان المزيد من الصمت ينفع أحياناً .
( من أشعل الفتيل ، لا أريد الفرصة تفلت مني ، اقتربي أيتها اللعينة ، وأنتِ .... أنتِ التي تزحفين بعدها ) .
أريد أن أدثر بالدفء لسمع هديرها ، بهالة اللهب المتصاعدة كقباب برتقالية فوق كتل النار .
ياللأعشاب المسكينة على ضفاف نهر مدينتي .
أيها الفراش ، كم أنت وثير ، انتظرني فأني آتٍ اليك . لم يفهم أحد بعد ، كيف بقيت أوراقي ناجية من فوران اللهب الذي لم ينج منه شيء ، أو أحد .
بات الطقس غائما فجأة ، بالرغم من قيظ طازج يحمل معه غبار الاحتلال وأسراباً من ذباب ، يطلب ودا من رواد مقهى جاءوا ليبادلوا الذباب الهش بكسل عجيب .
كانت مقهى ( سوق الهرج ) التي احتلت مقاعدها أبسطة حصير النخل ، تواجه منفذ خروج الحافلات المواجه لسوق (الأربعاء ) .
رغم أبواق السيارات ، كانت المقهى تنعم بالسكينة ، هكذا تّصورت بعد سنوات العتمة .
سأرى كل شيء بوضوح وسأقدر على اتخاذ قرار حاسم عندما أشرب الشاي وأتامل حولي على ضوء شمس أطلت من سماء
واسعة ، رغم نثار الغبار القائم الذي جلبه الاحتلال الى مدينتي
العتيدة . سمعت صوت المؤذن من الجامع المواجه يأتيني دون
مكبر ، لابد انه الظهر . استيقظت في ذاكرتي الأصيلة من كثرة التفكير نبرات الآذان التي لم تتغير ، لابد انه المؤذن ، هو نفسه منذ ثلاث سنوات ، وصوته الذي لا أخطئه يصل مسامعي منطلقاً من جامع ( باب الطوب ).
كنت قد تعودت ان أصغي الى حلاوة آذان العشاء في بيتنا القديم بحي ( باب لكش ) ، إذ يستمر أبي في عمله ولا يتوقف إلا لحظة يسمع فيها نداء المؤذن يعلن عن موعد صلاة أو عن وفاة أحد ، أو مخاطباً أولاد الحلال أن يردوا مالاً ضائعاً أو حاجة ثمينة فقدها صاحبها في أزقة الحي ، ثم لا يلبث أن يعود الى عمله . هو ( أبي ) حقاً في الصبر والايمان .
أطبقت المدينة بليلها الطويل على الاحياء العتيقة . كان للمساء دوي يصمم الآذان .
رأيت الضجة تقترب وتتعلق بحافة النافذة . أغلقت النافذة وأسدلت الستار وأقنعت نفسي أن الخلق باتوا بعيداً عني .
ناس غرباء ومهرجون وغبار وضجة واحتلال ونهب .
لكن النحيب يملأ قلبي . من أين ياتي هذا الطاعون ؟ . زهر وعسل ونرجس وقداح وفل ، لكن العلقم يملأ فمي ويوجع أمعائي .
أعدت أشيائي الى أدراجها . انتظرت وما خسرت . برذاذ البرتقال والليمون عطرت مرآة الجدار . قرأت شيئاً عن وطني المحتل ومدينتي ، عن كوكبي المسكين وأفلاكه ومجراته البعيدة .
أنام لأنسى . أبتعد حتى لا أرى . لا شيء يوجعني سوى وجع وطني المغتصب وأحزان مدينتي النائمة .
عذبتني يا وطن ... أهلكتني يا تأريخ .
كن ملاكاً ، كن شجراً ، فلا شيء سواك ، مثلما سار المسيح على البحيرة ، سارت معه رؤاي وأحزاني .
نزلت عن الصليب لأني أخشى العلو ، وهتفت ملء قلبي :
( هذا الشط لي ، وهذا الرصيف يحمل بصمات خطاي لي . المدينة والأجراس والمآذن لي ، والملح من آثار الدموع على جدار البيت هو لي . ) .
امتلأتُ بأسباب الرحيل . رددتُ ملء الفم :
( أنا لست لي .............. أنا لست لي ) .
هكذا هتفت . داخلتني طمأنينة ، ما لبثت ان تناثرت شظاياها كفتافيت جرة.
أحسستُ بالضجة وكأنها رطوبة تجمعت حبيباتها كالعفن على سطح أملس . حاولت أن أمسح العفن بطرف ثوبي ، لكن الرطوبة رشحت الى جسدي فأرتعشت .
كان مصباح حجرتي يتدلى من السقف المقبب ، وكان يشع بالضجة هو أيضا . أسكت النور ، لكن العتمة ما لبثت أن توهجت بضجة متواترة ، ظلت تنبع بسخاء من كل سطح وثقب وزاوية ، من كرسي أو ثنية في لحاف أو معطف .
الضجة تتساقط من كل مكان كالقباقيب . لم يعد هناك ايقاع لشيء . وجدت جسدي يتقلب على سرير الخشب العتيق ، كأن حمى الضجة دفعت به الى التماوج الأرعن .
 
أزيز متنافر يأتي من كل بعد ، لابد ان الليل في الخارج يمعن في سواده . صحيفة قديمة كنت قد لصقتها ذات يوم لأغلق ثقباً أطل عليّ فجأة . أربع خطوات قادتني اليها . رحتُ أتأمل الكلمات المتقاطعة فيها . أطلت عليّ فراغات بيض وسود كالأيقاع المشّوش .
صرختُ مفزوعاً . كانت المربعات الصغيرة كافية لحروف أسمي وأبي . مزقتُ الصحيفة ، فانكشف لي الثقب من خلفها كهوة يغلي فيها دود الضجيج .
كان الصمت مليئاً بالألوان التي راحت هي الاخرى تتقافز قبالتي كالأسماك في بحيرة صافية ، مشكلة زورقاً طالما حلمتُ به في صباي .
الان تذكرتُ ما حدث لي ، بل أراه وكأنه يحدث لتوه . كانت الطحالب والأعشاب والقصب والعليق وأزهار البانونج والنعنع البري والخزامى التي أحبها وهي تنمو على ضفاف النهر قد احترقت وتفحمت .
صرختُ من ألم حارق : ( من أحرق تراث ومجد مدينتي ؟! ).
تراجعتُ آنذاك خائفاً ، كما لم أخف من قبل . اللوحة الأخيرة التي رسمتها والتي لم تكتمل ، أصبحت ملاذاً لي .
( ماذا حلّ باللوحة ؟ ) .
أصبح نصف البياض فيها دماً . اختفى نصف وجه المدينة . لبثتُ مغمضأ لا أصدق ما حصل . انتبهتُ الى خارطة المدينة ، كانت ممزقة هي الاخرى .
القنابل خلّفت فيها بثوراً كالجدري . صرخت ملء فمي :
( هل اغتصب جند الاحتلال بيتي  و لوثوا حجرتي ؟ ) .
بقي السكون قابعأ لايتزحزح كعادته ، وظلت الضجة تدوي كما هي ، وها أنا قابع يلفني الصمت وتمزقني الحيرة .       

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.