مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

في علبة صدئة - إبراهيم سليمان نادر

 



يختنق الفضاء في محلتنا ( الشهوان) بأزقة ضيقة , صبغت جدرانها الجصية ملوحة بائنة , وغطتها تشققات أصبحت مع الزمن مرتعا خصبا للقطط الصغيرة  والفئران والعناكب, وحتى الأفاعي أحيانا والعقارب .

الشيء المعتاد في محلتنا والمألوف فيها أن مياهها الآسنة تظل مندلقة نحو الشط ليل نهار وهي تجرف كل ما يعترض انسيابها من نفايات عالقة ولا تمل من عزف لحنها الرتيب نغم ألفنا سماعه منذ كنا صغارا , فأصبحت آناننا تطرب عليه يدغدغ النعاس أجفاننا , عندئذ تخدر أبداننا من كلل النهار ونغطس في سبات عميق , لا أرق يقلقنا ولا كوابيس تقض علينا مضاجعنا .

تلك هي جنتنا ( الشهوان) , أناس سذج بائسون , لكنهم بسطاء طيبون , همهم الكبير ارضاء الرب والكسب الحلال , تراهم يلجون الى مضاجعهم مبكرين لينسلوا مع أولى صيحات ديك الفجرالى الصلاة والعمل .

حالة مميزة تبقى عالقة في ذهني , هي أن أرحام نسائهم لا تكف عن الهطول , فهن في حالة انجاب دائم , وعطاء لاينضب مثل أرانب برية تمرح آمنة بين الطنوف والغدران.

في الزقاق الضيق الذي أحث فيه خطاي المتعثرة مع أمي , يتقاذف بعض الصبية كرة خيطت من القماش والجواريب العتيقة , ملوثة بالأوحال والمياه الآسنة , ترتطم أحيانا بالمارة وتارة بأبواب البيوت المغلفة بالصفيح الصديء .

كانت الشمس حينها تنسدل على أطراف البيوت العليا , وكان الصخب يتعالى من أفواه الصغار  .. . 

نسوة يثرثرن شتات حديث على عتبات البيوت , وباعة متجولون يتعلق الصبية بعرباتهم الخشبية المكعبة , ويلفون حولها حتى يضجرونهم .

في تلك اللحظات وذات صباح وأنا طفل في الخامسة أو السادسة , أخذتني أمي الى عرافة تدعى ( أم علي ) , تتقن قراءة الطالع ومعرف ة الآتي من الوقائع . كانت الفسحة التي تفصلني عنها حين قعدت قبالتها ضيقة , وكان البساط المهلهل الذي أتربع عليه قد فقد هوية لونه والعام الذي حيكت فيه خيوطه .

كانت عيناي تتفحصان بأرتياب وفضول سر ( العلبة الصدئة ) التي تطوقها العجوز بكفها اليمنى وهي تقلبها رأسا على عقب فوق عباءة أمي , فتتبعثر قبالتها خرزات ملونة وأصداف وأزرار لامعة ونتوء عظم وحصى وناب ذئب .

هكذا قصت أمي  لأبي الحكاية حين جلسنا حواليه في العشاء . في تلك اللحظات العجاف وأنا في الزقاق الى خربة العرافة أحسست ببعض الخوف والقلق الطفولي , وكنت أحاول الفرار منكرة الصبية وعبث أرجلهم ومن الأفكار الداكنة التي كانت تطن في رأسي .

كانت أحاسيسي في تلك الساعة لا تحتمل تأويلات كثيرة , فبدأت مع دبيب خطاي الملتوي أرسم في مخيلتي الصغيرة صورا مبهمة عن شكل ولون هذه العرافة العجيبة , وكنت حين أعود الى خليط أسئلتي الصعبة , أخاف وأزداد تشبثا بعباءة أمي لأحمي نفسي من أهوال هذا الطلسم المرعب , وأحداثه الغامضة , لكنني كنت أجد نفسي تائها في غابة من الفشل والضياع .

أصوات ناشزة كانت تنفذ الى رأسي ودوي يستعر في أذني  فتتعثر رجلي ببعضهما وأنا في طريقي الى خربة هذه المرأة اللغز . أفقت بعدها على يد أمي تدفعني أمامها حين وضعت أولى خطاي الهشة على عتبة ( أم علي ) .

في حجرة بائسة تطفح بضباب البخور , كانت العّرافة  تتوسط الجلسة المقدسة , وقد بانت عروق كفيها من تحت الجلد مثل أفاع هاربة .

فرشت العجوز عباءة أمي , وبيد ماهرة ألقت ما في علبتها وهي تتمتم كلمات أقشعر لها بدني النحيل , حتى أمي أرتجفت وراحت تصلي على النبي المختار ولم تفهم فحوى ما تقوله هذه المرأة ذات الوشوم المضطربة .

كانت عيناي تتلصصان بخوف شفتيها المصبوغتين بالوشم الأخضر , وهي تتفحص الأشياء المبعثرة بفن مفتعل , وتتأمل الأصداف والأزرار مثل كلب سائب يتشمم عضمة عثر عليها غفلة .

مدت أمي سبابتها الى ناب الذئب وهي لا تعرف ما هو وقالت  :

هذا هو أبني , أليس هو ؟ .

نعم , هو بعينه .

أرتجفت أمي وقالت  :

ما هذا الزر اللامع الذي يلتصق به ؟ .

هذه دنياه الزائفة .

آه ..... وهذه العظمة ؟ .

هذه أمرأة تتزوجه , ثم تسرقه وتغدر به وتخونه ولا تهتم به . أهلها أوغاد أراذل , منافقون لصوص , لا أصل لهم ولا وفاء , ستعذبه هذه اللعينة وتطعنه بخسة , حتى أولاده الصغار , تجعلهم يتأمرون عليه ويغدرون به , ولكن بقدرة واحد أحد , لا شريك له ولا ولد , تفشل مكائدها اللعينة , ويخيب فألها ولن تنال منه شيئا , فالخالق يحميه والأنبياء والصالحين .

كيف يكون هذا ؟ .

أنظري أليه , أنظري هنا جيدا , أنه يتطلع الى أفق أخضر زاه , حيث العشب والشجر والورد والزرقة الجميلة . أنه يمضي وحيدا , وسيتزوج من أمرأة أخرى , تحبه وتخلص له , وسيعلو شأنه , ويصبح وجيها , وبيرقا عاليا تفخرين به أمام الناس .

هتفت أمي بصوت متقطع :

أبني وحيد  ولدته بعد خمسة بنات , قولي لي الحقيقة , أني خائفة , ماذا سيحدث له ؟ .

التقطت العجوز نثارها وراحت تتفحصه بثقة وفن , تقلب هذه وترمي تلك , ثم قالت بصوت واهن:

لا تخافي يا ( أم ابراهيم ) , سيعيش ابنك أن شاء الله , حتى يمل الحياة , أنه بطل وفارس صلد كجذع نخلة , لايهزه شيء , ستمر عليه أيام عطش وجوع وفقر , لكنه سيتغلب ويقهر كل الصعاب والشدائد , أنظري الى هذه الأزرار الصغيرة , أنهم أعداؤه , ستنوشه طعناتهم , لكنه لن يسقط عن جواده  , وسينتصر بأذن الله وينجو من مكائدهم الدنيئة  ويحلق كالشواهين الطليقة في الفضاء .

ردت أمي بصوت حزين :

وهل ستكون حياته سعيدة ؟ .

رفعت العرافة هامتها وقالت :

هذه هي حياته , لا شيء عندي أكثر من ذلك , لقد أنتهى فصلك يا أمرأة , والأن هيا , هناك من تنتظر دورها بعدك .

لملمت العجوز حاجياتها وكورتها في قبضتها وراحت تعبئها ببطء في العلبة الصدئة وتسدل الستارعلى المشهد الذي لم يدم بضعة دقائق والذي لم تفهم أمي منه شيئا حتى الأن  ... هكذا خيل لأمي ما سمعت وهي تدس دراهم معدودة في كف العجوز , بينما ازددت أنا تعلقا بعطر عباءتها المحبب لنفسي ...

مرت أيام وتعاقبت سنين , أمتهنت فيها الجيش , طفت بلادا شتى , عبرت بحورا وقفار و جبت العالم الأشقر حتى بلغ بي المطاف يوما عند أسرة غجرية تستوطن قرية قرب ( لينز ) ,   على الحدود الجيكية النمساوية .

كانت هذه الأسرة الطيبة , تتقن فن قراءة  الكف  ومعرفة  الطالع .

قالت لي يومها جدتهم الملطخة بالأصباغ  الفاقعة  والحلي الزائفة والثوب المزركش :

ستحب كثيرا يا فتى , وتعشق كثيرا , حتى يذبحك الحب ويقذفك الموج الى شطئان بحر الأغريق المقدس , هناك ستتلقفك الآلهة وتسقط صريعا عند مذبح  ( زيوس) ثم تنصهر وتصبح قبسا من ضوء حيث ( فينوس ) بأنتظارك . ستخبو شموعك , ويفر الجن منك ويبقى المعبد صامتا يتدفأ ببصيص ضوءك البهي , حتى يأتي عام الطوفان فيه يغاث الناس ويعصرون , لكنك ستبحر مع نوح في سفينته وأنت مثخن بجراح العشق الألهي ....

ها  أنا وحدي , أقبع في  مدينتي على شواطىء دجلة , حصاني يلهث , وروحي تلهث , و لهاثي معهما يلهث  حتى أكاد أفقد طعم الخلاص و النجاة من مخالب لجج هذا النهر العتيد , أفر من هذه أو تلك , أتسلق أهراما  لا ذرى فيها , لكن الفأل اللذيذ يداهمني وينشب أظفاره في جسدي , ثم يتجلى أمامي في شوكة عملاقة لم تصلها  أسنان جمل يحجب ظلها الأفق , ذاك الأفق الذي ما زلت أبحث فيه عن أمرأة بطعم عسل الجبل ودفء الشمس وبهاء القمر والنبع العذوب , أصنع لها أسما من لائحة أحلامي , تشاطرني نتفا من هذا التعري قبيل قدوم النهر , وبعضا من سرابيل الفأل الذي يغمر سعيره  فضاءات الطيف الجميل ...

والأن دعني وحدي , فقد بدأت الحكاية , وها أنا أكتب عنها ملحمتي الأخيرة , فقد أحترق أو أغرق أو أتشظى , وربما تجدني الأن غيمة قطنية , تلاحق أسرابا من زرازير ونوارس وقطاريس وغرانيق ويمامات وحمائم وفخاتي وقبرات ولقالق وكراكي ترف  طليقة   بين سحب متناثرة تضلل فضاءات النهر والمدينة  ...

هناك تعليق واحد:

  1. النص جميل جدا باستذكاره للايام الجميله في الزمن الجميل وبلغة الشفافه المتدفقه كنهر دجله الذي يحتضننا جميعا ..تحياتي

    ردحذف

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.