مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

الحظّ لا يبتسم مرّتين - بقلم: محمد الصالح الغريسي

 

 
 

لا أحد يعرف سرّ ذلك الكوخ القابع على شاطئ صخريّ مهجور، بجزيرة نائية من جزر اليونان. و لا أحد يعرف سرّ ذلك الرّجل الأربعينيّ ذي الشّعر الكثيف المتهدّل على كتفيه، و اللّحية الكثّة الطّويلة الّتي يخالطها قليل من الشّيب. و لا سرّ ذلك القطيع من الكلاب الشّرسة الضالّة الّتي ألفت الكوخ و صاحبه، فاتخذت لنفسها من محيط المكان موطنا للإقامة.
 في هذا المكان الموحش شبه المهجور، نادرا ما يمرّ نفر من الصيّادين على زورق صغير، أو نفر من الباحثين عن العزلة، الهاربين من ضجيج المدن الصّاخبة و الشّواطئ العامرة بالحركة، أو نفر من المغامرين الّذين جنح مركبهم إلى هذا الشّاطئ الموحش. هكذا كان "مُرَادِسْ" يجد أكثر من سبب للتعلّق بالمكان، بما كان يتوفر له فيه من أسباب العيش، و ما كان يبادله من مصالح قليلة مع هؤلاء النّاس، تعينه على البقاء على قيد الحياة.
في هذا الصباح، مع مطلع الشّمس، أخذ "مرادس" شبكته الصّغيرة ذات الشّكل الدّائريّ، المثّقلة في أطرافها بقطع صغيرة من الرّصاص. لفّها حول ذراعه اليمنى، و أمسك بأحد أطرافها، بيده اليسرى. تقدّم نحو الشّاطئ بخطوات بطيئة و حذرة، منحنيا بنظره إلى سطح الماء، جهة مطلع الشّمس، حتّى غمر الماء ركبتيه. ظلّ يراقب سطح الماء في هدوء و ثبات. و بحركة خفيفة ألقى شبكته الصّغيرة فانتشرت على شكل دائرة و سقطت في الماء. جعل يجذبها إليه بهدوء بواسطة خيط متّصل بمركزها، و إذا هي كتلة واحدة تتدلّى منها قطع الرّصاص الصّغيرة. خرج بها إلى الشّاطئ. جعل ينشرها، و ينزع عنها ما علق بها من طحالب و أعشاب بحريّة و أسماك صغيرة لا تتعدّى أصابع اليد. ثمّ عاد إلى الماء و جعل يعيد الكرّة مرّات و مرّات . لم تمض ساعة أ و بعض السّاعة أو أكثر، حتّى جمع كمّية لا بأس بها من الأسماك متفاوتة الأحجام. استلّ من وسطه خنجره الّذي كان لا يفارقه. قام بتنظيف تلك الأسماك و استفرغ أحشاءها، و و ضعها في وعاء معدنيّ، ثمّ أضاف عليها قليلا من البهارات و الملح قليل من الماء، و تركها تغلي على نار هادئة. و لمّا أدرك أنّها استوت و فاحت رائحتها. نادى الكلاب فتحلّقت حوله،       و جعل يطعمها قبل أن يتناول هو غداءه. كان غداؤه، عبارة عن قطع من الخبر اليابس المغموس في المرق، مع بعض الأسماك. كان من النّادر أن يحصل على بعض البقول و الدّقيق و المعكرونة و الخبز الطّازج، من بعض روّاد المكان القليلين، و إلاّ لكان أعدّ وجبة فاخرة. لقد نشأت بينه و بين هؤلاء علاقة طيّبة. كانوا يدعونه "مُرَادِسْ"، بإضافة حرف السّين على طريقة اليونانيّين في نطق بعض الأسماء، حين علموا أنّ اسمه "مراد".
أغلب روّاد هذا الشاطئ يعرفون أنّه غريب عن هذا المكان، بل غريب عن البلد بأكمله. و بعضهم يعلم أنّه ألقى به الموج ذات يوم، و نجا من الموت بأعجوبة، فكانوا يدعونه من باب الدّعابة "ابن البحر".
جلس "مرادس" قبالة البحر مسندا ظهره إلى الكوخ. أحسّ بسعادة غامرة و هو ينظر إلى الكلاب ممدّدة بالقرب منه، مسترخية مطمئنّة بعد أن ملأت بطونها و أسكتت جوعها. كان كلاهما يحس بالأمن مع الآخر. كان هو يحميها من الجوع و التّسكّع، و هي تحميه من روّاد هذا المكان الموحش، شبه المهجور. فما من أحد هنا يجرؤ أن ينال منه بسوء، فهو هنا سيّد المكان و صاحبه، و الكلّ يهابه و يخشى جانبه.
سرح بنظره مع البحر، في اتّجاه الغرب. ، كانت له هناك مع البحر قصّة أخرى ، و ذكريات اختلط فيها الحلو بالمرّ. تذكّر كيف غادر بلده تونس منذ خمس عشرة سنة، بعد سنتين فقط من تخرّجه من الجامعة، قضاهما عاطلا عن العمل، و هو الحامل لشهادة عليا في الكهرو- ميكانيكا. كان منذ فترة شبابه الأولى، يراوده حلم الهجرة إلى أوروبا، لتحقيق مستقبل زاهر، و حياة مريحة. و لم يتهيّأ له من حلّ في ذلك الوقت، سوى اللّجوء إلى الهجرة خارج إطار القانون.
كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر، كاد يفقد فيها حياته غرقا في عرض البحر. لقد التقطه أحد المراكب، ثمّ ألقى به على مقربة من شاطئ جزيرة "لامبيدوزا"، ليكمل الرّحلة سباحة، لمسافة نصف ميل بحريّ تقريبا، هروبا من عيون خفر السّواحل الإيطاليّة.
في "لامبيدوزا" لم يكن له من حلّ إلاّ الحصول على شغل بأجر زهيد، بعيدا عن الأنظار، أو الوقوع فريسة لعصابات ترويج المخدّرات، أو الوقوع بين أيدي السّلط الإيطاليّة. و في هذه الحال، لا مفرّ له من السجن، ثمّ التّرحيل إلى الوطن الأمّ.
آه ..  كم هو مؤلم أن تحتاج إلى وطن.. إلى هويّة تعطي لوجودك معنى ! 
كم هو مهمّ أن يكون لك أهل يقلقون عليك و تقلق عليهم .. تفرح لهم و يفرحون من أجلك.
بمجرّد أن صعدت هذه الأفكار إلى ذهنه، دمعت عيناه. و خرجت من صدره زفرة حارقة، انتبهت إليها الكلاب الّتي انبطحت حوله، و قد بسطت ذراعيها، محركة ذيلها، تطلق زفرات حزينة، كما لو أنّها تواسيه، و تسأله عمّا يحزنه. ليس ثمّة كالكلاب وفاء، و صدقا في الأحاسيس، و هو الّذي خبرها جيّدا.
تذكّر جيّدا يوم ألقى به موج البحر على هذا الشّاطئ في نفس هذا المكان. كانت هذه الكلاب هي من أحاطت به، تتشمّمه، كأنّها تريد أن تعلن بأنّه ما يزال على قيد الحياة. و هي نفسها الّتي دلّت عليه أحد الصيّادين، فهبّ إليه و ساعده، و قدّم له الطّعام و الثّياب. و منذ ذلك اليوم لم يبارح ذلك الشّاطئ، و ظلّ صديقا للكلاب، و كان ذلك يعني له الكثير.
تذكّر خمس عشرة سنة مضت من عمره، مرّت عليه بأهوالها، و أوقاتها السّعيدة. تذكر عناده و إصراره، و  خوضه مغامرة هجرة غير محسوبة العواقب. تذكّر كيف أنّ قساوة الأحداث الّتي عاشها، جعلته يتخلّى عن قيمه و مبادئه الّتي نشأ عليها.
تذكّر ساعة ألقى به المهرّبون من المركب على ساحل جزيرة "لامبيدوزا"، و كيف وصل بأعجوبة، سباحة إلى الشّاطئ.
كان طوال الوقت، يتوارى من مكان إلى مكان خوف أن تكتشف أمره السلطات الإيطاليّة. تجرّع أنواع الذلّ، من جوع و خوف.  كانت نظرات الازدراء تلاحقه مع كلّ تحرّكاته، مصحوبة أحيانا بكلمات الاحتقار الّتي تنضح عنصريّة و إحساسا بالتّعالي.
بعد فترة، تعرّف عن طريق أحدهم، على أرملة ثريّة، كانت تعيش مع ابنتها الوحيدة ذات الثمانية عشر ربيعا.      و قد ترك لها زوجها قوارب صيد في الأعماق و عقارات. كانت " تيريزا"سيّدة أعمال، و واحدة من سيّدات المجتمع في محيطها. اشتغل عندها بمقابل زهيد و إقامة متواضعة. لم يكن له خيار أفضل من ذلك. و بمرور الوقت، تحسّن وضعه، حين عرفت أنّه خرّيج كلية تقنيّة، و صاحب دراية بالميكانيكا و كهرباء المحرّكات. و لم يمض وقت طويل حتّى عيّنته رئيس فريق في ورشة لصيانة محرّكات الصّيد. ثمّ تطوّرت العلاقة بينهما لتصل إلى المعاشرة.
كانت تفوقه بعشرين عاما على الأقلّ. كان هو في الخامسة و العشرين من عمره، و كانت هي قد تجاوزت الخامسة و الأربعين. و لم تمض بضع سنوات حتّى أصبح يدير بعض شؤونها. و بفضل شبكة علاقاتها تمكّن من الحصول أوراق هويّة و إقامة. عندها، ابتسمت له الحياة، و أصبح لديه الكثير من المال.  و صار يركب أفخر السيّارات، و يرتاد أفخر المطاعم.
 كان يحزّ في نفسه أن يكون "رجل الستّ" .  و هو الّذي يبدو و كأنّه ابنها. حين شارف على الثّلاثين، كانت "تيريزا" قد تخطّت الخمسين، و بدأت تظهر على وجهها بعض التّجاعيد، و على ساقيها بعض العروق الخضراء البارزة. كان يحسّ أنّه من حقّه أن يعيش شبابه، و أن تكون له علاقات مع فتيات قريبات من سنّه، فلا شيء يعلو على الشّباب. كانت منذ سنوات تناديه " مورادو"، ثمّ عندما أصبح عشيرها صارت تناديه "كارو ميّو" أي عزيزي. كان ذلك يستفزّه كثيرا، و يجعله يميل إلى الغياب عن البيت من وقت إلى آخر. لقد أحسّت بتغيّر واضح في تصرّفاته، فجعلت له عيونا يرصدونه في جميع تنقّلاته، ثمّ ينقلون إليها أخباره أوّلا بأوّل، حتّى تأكّدت بأنّه يخونها. إذ ذاك واجهته بالأدلّة و الصّور، و هدّدته أن تخرجه من جنّتها، و أن تحوّل حياته إلى جحيم لا يطاق، بل هدّدته أن تلقي به في غياهب السّجون؛ و هو يدرك أنّها قادرة على ذلك. و كي تضمن وفاءه لها و بقاءه معها، أجبرته على إمضاء وصل أمانة لمبلغ ماليّ عال لا يقدر على تسديده لعشرات السّنين. و سلّمت الوصل لمحاميها ليحتفظ به إلى وقت الحاجة.
منذ ذلك الحين بدأت حياة "تيريزا معه، تتحوّل إلى جحيم من الغيرة. كانت حريصة أن لا يفارق نظرها لحظة واحدة، حتّى عثرت عليه خلسة، و هو يقبّل ابنتها في وضع مثير. وقتها أدركت أنّ الوضع أصبح ينذر بخطر جسيم،        و عليها أن تضع حدّا لذلك. أمرت بعض أعوانها أن يقيّدوه، و يكمّموا فمه، و يخرجوا به ليلا في مركب صيد إلى عرض البحر، و يلقوا به إلى الماء مكتوف اليدين، معصوب العينين، و مكمّم الفم، جزاء خيانته و خسّة نفسه. لكنّ الأعوان لم تطاوعهم أنفسهم أن يفعلوا ذلك، بل أنزلوه في قارب مطّاطيّ في عرض البحر، و أنزلوا معه ماءا و طعاما   و طوق نجاة، ثمّ عادوا إلى الشّاطئ بعد أن فكّوا وثاقه، و نزعوا العصابة عن عينيه و الكمامة عن فمه، و تركوه ليلاقي مصيره.
مرّ هذا الشّريط المؤلم من الذّكريات أمام عينيه و كأنّه كابوس.  تذكّر السنوات الثّلاث الّتي قضاها في هذه العزلة على هذا الشّاطئ شبه المهجور، بعد أن جرف التيّار قاربه المطّاطيّ إلى ساحل هذه الجزيرة اليونانيّة. لكنّ القارب لم يصمد أمام عنف الأمواج فانقلب به، و ظلّ متعلّقا بطوق النّجاة يغالب الأمواج العاتية، حتّى فقد وعيه. و حين أفاق كان هذا القطيع من الكلاب السّائبة يحيط به، و يحاول جلب انتباه أحد الموجودين على الشّاطئ لعلّه ينجده.
لقد أدرك مراد أنّ هذه الحيوانات أفضل منه بكثير. بل أعطته درسا في الرّحمة و الوفاء، في حين نزل هو إلى الدرك الأسفل من الأنانيّة و النّذالة و خسّة النّفس. عندها انخرط في نوبة من البكاء و فاضت عيناه بدموع النّدم             و الحسرة. في تلك اللّحظة بهر عينه شعاع من نور الشّمس الّتي قاربت على الغروب. لقد كانت قارورة من زجاج بها ورق ملفوف مربوط بخيط إلى سدّادة الزّجاجة. سحب السدّادة و أخرج الورق، فإذا هي خمس ورقات نقديّة من فئة الخمسمائة "يورو"، ملفوفة في ورقة كتب عليها بخطّ اليد: الحظّ لا "يبتسم مرّتين".
حين أشرق شمس اليوم الموالي كان " مورادو" أو " مرادس"، يستقلّ مركبا لأحد الصيّادين متّجها إلى أثينا مقابل ورقة من فئة الخمسمائة "يورو"، سيسلّمها له من قريب له هناك حسب زعمه.
حين وصل إلى أثينا، دفع لصاحب المركب أجره. و نزل إلى المدينة، حيث اشترى ثيابا جديدة، و حلق شعره      و لحيته، ثمّ استقلّ سيّارة تاكسي مباشرة إلى سفارة تونس بأثينا. هناك سلّم نفسه للسّفارة، و قصّ عليهم قصّته كاملة، و طلب أن يعيّنوا له محاميا، ليرفع له عند عودته قضيّة في استرداد هويّة.
كان ذلك هو كلّ ما يحتاجه بعد أن استردّ ذاته، تصالح مع نفسه، و ما دون ذلك ليس بالمستحيل. هذا ما علّمته الأيّام.
    

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.