مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

سوزان بيرن تسألنا، لِمَّ نكتب الروايات، ولِمَّ نقرأها؟ ولِمَّ الآن؟ ترجمة: فاطمة وليد رشيد

 

 
"أؤمن بقدرة الرواية، بعرضها الرتيب لإمكانية بث تفهمٍ أكبر وتعاطفٍ أعمق بمرور الزمن"
 
لوصف الحال التي يؤول عليها الكاتب عند كتابة الرواية سأستعرض مقتطفاً من تجربتي الشخصية، وأخص بذلك روايتي الأولى التي بدأت كتابتها على مضضٍ قبل ما يُقارب الثلاثين عامًا. لن تصدق عدد الروايات المُستوحى من الشكوى؛ ولنصيحة "خطوة فخطوة" جوانب عديدة.
سبقت روايتي الأولى روايةٌ أخرى استُقبلت بالرفض في كُلِ مكان، وصاحبَ ذلك الرفض ملاحظاتٍ مهذبةٍ من المحررين على غِرار "أسلوب كتابةٍ جميل، لكن الرواية تفتقر إلى الاحداث". وفي ظهيرةِ أحد الأيام، بينما كنتُ جالسةً على شرفتي، اجتر التفكير بخطابات الرفض تلك، أراقب جاري يَجُزُ عُشب حديقته بجزازةٍ تعمل بالدفع، اعتراني الفضول لمعرفةِ السبب الذي دفعه إلى عناء ارتداء شعره المستعار أثناء جزه العشب في مثل هذا اليوم الحار، كما أغاضني صوت جزازة الدفع التي أحدثت ضجيجًا أشبه بالتوبيخ على حديقتي المُهملة.
وببعض الغِل الذي تملكني حدثت نفسي: إن كانت رغبةُ جميع هؤلاء المحررين أن أحرك "الأحداث"، فطلباتهم أوامر، سينالون مُرادهم، سأبتدع لهم جريمةَ قتلٍ. بعد تلك الظهيرة، كتبتُ ما أصبح فيما بعد أول فصلٍ من روايتي «جريمةٌ في الحيّ»، وهي، كما يوحي العنوان، عن جريمةِ قتلٍ، لكنها تحكي أيضًا عن شخصيةٍ تراقب جارها، بينما تحيك في ذهنها ظنًا مُجحفًا بحقه.
يمكننا القول أنَّ جريمة القتل حِيكت على شرفتي ذاك اليوم، ولم أستوعب، إلا بعد مُدةٍ طويلةٍ، أن تلك الجريمة التي استهلت الرواية لم تكن محور الأحداث، حتى أني قررت ترك الجريمةِ دون حلّ. صببتُ جُل اهتمامي على الجهد المبذول لحل الجريمة، وتأثير هذا الجهد على شخوص الرواية. انكببت على كتابة المسودات، محاولةً تحديد وجهة النظر الصحيحة وترتيب تسلسل الأحداث.
بعد الانتهاء من كتابتها، أعطيت صديقًا نسخةً لقراءتها، لم يكن تعليقه "سأنتهي من قراءتها قريبًا" الذي جاءني بعد عدةِ أسابيع باعثًا على الطمأنينة. تلى ذلك المزيدَ من المسودات، ثم رزقت بمولودٍ، والذي -بطبيعة الحال- شغل جُل وقتي.. وأخيرًا، بعدما أنهيت المسودة الأخيرة من الرواية، لم يوافق أحدٌ على نشرها. بعد أن رُفض كتابي خمس عشر مرة، كتبت لي إحدى المحررين خطابًا تخبرني فيه بأنها أحبت الكتاب حتى الصفحة 168 وكان ما تبع ذلك دون المستوى، ثم استطردت بطلب مناقشة الكتاب بعد تلك الصفحة، إن لم يكن هنالك مانع. فكتبت بعدها مسودةً أخرى، ثم رُزقت بمولودٍ آخر، وكان ذلك آخرُ سعيّي.
 
كتابة الرواية غالبًا ما تكون عمليةً طويلةً، ومستعجلةً، ومتقلقلةً وغير مضمونةِ النتائج.
 
الغرض من قولي هذا هو تحطيم الصورة التي لا تزال محفورة في أذهان الجميع عن الروائي المتزهد المنطوِ في كوخٍ قصيِّ لا يصحبهُ سوى زجاجةِ (جاك دانيلز) وقد يُرافقه الإنجيل، ثم يخرج، بعد عدةِ شهور، من صومعته بنصٍ كامل من الجمال اليوسفي الذي يُتغنى به. لكن الحقيقة أن كتابة الرواية غالبًا ما تكون عمليةً طويلةً، ومستعجلةً، ومتقلقلةً وغير مضمونة النتائج. سنونٌ طوال من حياتك يمكن أن تُهدر دون أن تَعي ما تفعل، مستغرقًا في كتابةِ شيء قد لا ينالُ نصيبه من العظمة، ولا نصيبه من القُراء. وقد لا تجد من يقلبها حتى لو كانت عملًا عظيمًا. حين كُنت في مكتب مراجعة كتب نيويورك تايمز أرونّي ذات مرة ما كان يُسمى "المشرحة"، وهو مكب نفايات قماشي على عجلاتٍ مليء بنسخ للمراجعة من الكتب التي لن تتم مراجعتها. وهو مشهد لن يغادرَ ذاكرتي ما حييت.
فبالله علينا، لِمَّ نفعل ذلك؟ لماذا نقضي سنواتٍ في كتابةِ رواية، خصوصًا إن لم يكن لدينا فكرة عما ستصير عليه؟
أحد الاحتمالات هو أن تلك المدة الطويلة، الغامضة، والتي لا نستحصل منها شيئًا، إن كُنت قادرًا على احتمالها، فستؤدي إلى شيءٍ نادرٍ هذه الأيام، ألا وهو تعليق الحكم، والمجال للتردد، وحتى الالتباس، ولا يقصد بالالتباس تكذيب عينيك – وهو تكتيك يحبذه بعض السياسيين- بل أقصد به النوع الذي يدفعك للاستفادة من قرينة الشك وإعطاء بعض الوقت لاستيعاب ما لم يتوارى عن ناظريك. ولتوضيح هذا الفرق الشاسع، سأستعين بكتاب مارغريت آتوود «مفاوضات مع الموتى: تأملات كاتب حول الكتابة».[1]
في مقدمتها، تكشف آتوود الاستطلاع الذي أجرته الكاتبة على عدد من الروائيين وسؤالهم: كيف كان الشعور الذي راودهم حين "الدخول إلى الرواية؟" لم يكن السؤال عن شعورهم حين كتابة الرواية ولكن حين "دخلوا" إلى واحدة- وهو سؤال يشي بالإجابة. بعض تلك الإجابات كان: "الأمر أشبه بتحسس الطريق عبر نفق"، وقال آخر إنها تجعله يشعر "وكأنه تحت الماء"، وقالت أخرى إنها تشعر وكأنها في "حجرة دامسة الإظلام، تتلمس طريقها، وعليها أن تعيد ترتيب الأثاث في الظلام"، وقال آخر تشعر وكأنك "تجلس في مسرح خاوٍ قبل بداية فيلم أو مسرحية تنتظر ظهور الشخصيات".
استخلصت آتوود من الأجوبة التي تلقتها أنها الدخول إلى الرواية يتطلب الإرباك. يواجه الروائيون عملية لا تخلو من "العقبات والغموض والخواء وضلال السبيل والظلام وظهور ضوء كالشفق، يصحبها جميعًا صراع أو طريق أو رحلة، فقد يعجز المرء عن رؤية الطريق أمامه، ولكن ينتابه شعور بأن أمامه طريق، وأن التقدم في هذا الطريق إلى الأمام يسفر عن حالات من الرؤية".
لم تخلو تجارب الكتاب من التوجه طواعيةً للظلام، على أمل الحصول على "ظروف الرؤية". وعلى أمل، كما تستطرد آتوود، "استجلاب شيء للضوء". كل قصيدة، ومقالة، وقصة قصيرة هي فرصة للتنوير. إن الظلام الممتد مُقتصر على الرواية. للقراء، والكتاب على حدٍ سواء. تمنحك مئتان أو ثلاث مئةِ صفحة الوقت الكافي حتى تعتاد عيناك على الظلام. وهذا ما يحدث على وجه التحديد. فأثناء قراءتك للرواية، تتقلب وجهات نظرك عن الشخصيات والأحداث، قد تظن أنك تعرفهم تمام المعرفة، لأن الشخصيات مشابهة لأنماط ومواجهة لأحداث قد بدت لك مألوفةً على نحوٍ ما. وحين تصبح الشخصية أكثر تعقيدًا، يلتحف الغموضُ الأحداثَ التي يمرون بها، ولا يمكن لك بعدها التنبؤ بطبيعة مشاعرك تجاههم.
غالبًا ما تطلب عملية جعل الأمور أكثر غموضًا الكثير من الهفوات والبحث، وذلك من خلال طرح الكثير من التساؤلات والتي تؤدي إلى المزيد من التساؤلات. تقدم لنا كتابة الرواية تجربةً مطولة من اللف والدوران. وكذلك الحال حين قراءتها.
كتب لورنس ستيرن في القرن الثامن عشر "الاستطراد هو إشراقة الشمس ذاتها في الرواية"، وهو تذكير بأن الرواية، بفضل طولها، ضد العُجالة. تنعطف الرواية، وتقف، وتتفرج على نوافذ المحلات. يَظهرُ التفكير في الإصلاح الزراعي في وسط مشهدِ حب أو تأملات ميتافيزيقية أثناء درس كرة المضرب. ولا يتوجب عليك أن تكون تولستوي أو دايفيد فوستر والاس لتطالب الحق في الاستطراد. حتى روايات مؤلف شخصية المفتش ميجريه، جورج سيمنون، الذي كان روائيًا عجولًا، يكتب مئات الروايات على مدار أحد عشر يومًا لينتج كتبًا ذات أعمدةٍ نحيفةٍ نحافةَ سيقان الهليون، لم تخلو من مقاطعٍ أمعن التفكير بها كهذه:
 
كان القطار محله حين أنارت المصابيح رصيف محطة بواتييه، رغم أن النور لم ينقشع بعد. وغشي الظلام المكان فيما بعد، أثناء عبورهم الأراضي الرعوية، راقبوا الليل يخيم وأمست نوافذ المزارع المنعزلة تلوح كالنجوم.
وفجأةً، بعد بضع كيلومترات من لا روشيل، تسلل ضبابٌ خفيفٌ، لم يأتِ من الريف بل من البحر، وتمازج مع الظلام، ولوهلةٍ رأينا منارةً تضيء الأفق في البعد.
كان يمكن لسيمنون أن يستبدل ذلك الوصف بـ "استقل المفتش ميجريه القطار المسائي من بواتييه إلى لا روشيل" لولا تجلي رغبته في التعبير عن تلك اللحظة الانتقالية التي بدأت بإنارة المصابيح قبل غروب الشمس، ثم الولوج في ظلامٍ مختلفٍ عن نظيره، من المساء في منصة القطار تلك إلى ليلِ ريفٍ لا ينيره سوى أضواءٍ تنبعث أحيانًا من نوافذ الأكواخ، انتهاءً بعتمةٍ كغياهب البحر، حيث تومض الأضواء فقط. ورغبته بخلق جوٍ تحتاجه الروايات أثناء اصطحاب القارئ عبر تدرجات الإدراك ومراحل الفهم، ناهيك عن إشكالات الحبكة. وهو يريد بذلك أن يعطي القارئ الوقت ليعود عينيه على الظلمة.
يرافق تقليب صفحات الرواية تغيّر في التصورات عن الشخصيات والمواقف التي يظن القارئ أنه فهمها منذ البداية.
لا أحبذ الاستطراد لغرض الإطالة بالتأكيد، لكن الاستطراد، في هذا السياق، هو حين يغير الكاتب الإضاءة. وأود استخدام المصطلح بصورةٍ أشمل للإحاطة بكلِ شيءٍ، استهلالًا بما يسميه الناقد جيمس وود "الوقفة الوصفية" إلى المقاطع بالغة السرد في رواية مثل «ميدل مارش»، ففيها يتوقف جورج إليوت عن سرد الحدث ليشرح مواقف هذه القرية الإقليمية تجاه السياسة والعلم والتعليم والدين والمجال المناسب للنساء.
في كلا الحالتين، الاستطراد يلقي بظلاله على فهم القارئ للشخصيات ومواقفهم. وبهذا، واثناء انتظارك حتى تدرك الشابة دوروثيا بروك خطأها في الزواج من السيد كازوبون ضعيف القلب، تكتشف القوى التي تؤثر عليها، ولماذا اعتقدت أن هذا القرار المقوض لحريتها كان محاولةً لنيل الحرية، وهذا ما يُثقل عاتق القارئ أثناء متابعةِ مجرى الأحداث.
يمنح الاستطراد الرواية قدرةً أكبر على التأثير في القارئ، فهي تزيد من استجابته، فهي تحمل القارئ على التوقف والانتباه، واستقاءِ فكرةٍ مُفصلةٍ تتجاوز ما توقعته عن المكان، أو الموقف أو الشخصية. الاستطراد هو، في حقيقة الأمر، تجارب القدرة.
*
يقولُ الناقد الروسي فيكتور شكلوفسكي في مقاله الشهير «الفن كتقنية» - كتبه عام 1917- أن البشر معتادون على الاقتضاب في التفكير إلى درجةٍ تهدد محينّا من وجودنا الواعي. إذ نميل إلى استبدال التصور التلقائي؛ يا له من جبلٍ شاهق، وما أبدع غروب الشمس، للنظر الفعلي إلى ما هو أمامنا. نرى شكلًا عامًا، لا تعريفًا محددًا.
يطلق شكلوفسكي على هذا النمط العام للرؤية طريقة الفكر 'الجبرية' وفيها تُستبدل الأشياء برموز. ولا يلزمني هنا أن أذكر كلمة "رمز تعبيري"، وإن قمت بذلك للتو، للإشارة إلى المدى "الجبري" الذي وصل إليه تفكيرنا منذ عام 1917.
يقول شكلوفسكي أن السبيل إلى مقاومة الأساليب المختصرة والمعتادة للتفكير هو الفن. لأن الفن يطيل الإدراك. وأن "غرض الفن"، كما ذكر شكلوفسكي في كتبه، "هو نقل إحساس الأشياء حسب الإدراك لا المعرفة. تكمن تقنية الفن في جعل الأشياء 'غير مألوفة'، وفي جعل الأشكال صعبة، وزيادة صعوبة ومدى الإدراك لأن عملية الإدراك هي غاية جمالية في حد ذاتها ويجب إطالتها".
إن التجسيد الأمثل للإدراك الجمالي المطول هو الرواية. يقول هنري جيمس، في مقدمته لرواية «بورتريه سيدة»، أن "الرواية بطبيعتها هي لغط ado، لغطٌ حول أمرٍ ما، تزداد بزيادة حجم الشكل الذي تتخذه".
إن إثارة اللغط هو تصيير الحبة إلى قبة، وتحويل انتباهنا لشيء لم نحسب له قيمةً من قبل. كانت توني موريسون، في بداية روايتها «سولا»، ترغب في إثارةِ لغطٍ حول حيٍّ للسود لم يعد قائمًا.
 
على تلك الأرض، قبل أن يقوموا بقلع نباتات الليلك والعليق من جذورها لتمهيد الطريق لملعب جولف مدينة الميداليون، كان هنالك حي. على التلال فوق بلدة الميداليون في الوادي وامتد حتى النهر. يُسمى الآن بالضواحي، ولكن عندما عاش السود هناك، كان يُعرف باسم (بوتوم). كان هناك طريق واحد، مظلل بأشجار الزان والبلوط والقيقب والكستناء يربطه بالوادي. لم يعد لأشجار الزان أثرٌ الآن، ولا لأشجار الأجاص حيث كان الأطفال يجلسون ويصيحوا على المارة من بين أزهارها. خُصصت أموال طائلة لتسوية المباني المتهالكة التي تعترض الطريق إلى ملعب الجولف. سيقومون بهدمِ صالة (تايم آند ئة هالف بول هول)، حيث تدلت أقدامُ أناسٍ ينتعلون أحذيةً طويلةً بنية اللون من أعلى سلالم الكراسي. سيقومون بتدمير صالون (إيرينز بالاس اوف كوزميتولوجي)، حيث كانت النساء يسندن رؤوسهن على أحواض الغسيل ويقِلن بينما تضع إيرين دهن (نو نايل) في شعرهن. سيقوم رجالٌ يرتدون ملابس عمل خاكية بفك لوحات مطعم (ريبا)، حيث كانت المالكة تطهو بقبعتها التي لا تستحضر المقادير دونها.
 
لهذه الفقرة العديد من الجوانب الرائعة، ولربما اكثرها إذهالًا هو قيام موريسون بإعادة تشكيل حيّ (بوتوم) أثناء محوه، وأؤكد من جديد أن هذه هي الفقرة الافتتاحية للرواية، وبذلك تكون فكرتنا الأولية هي أن هذا الحي لم يعد له وجود، لكنه مذكور في الجملة الاستفتاحية: "كان هنالك حيّ".
ومع هذا تمنع عنّا موريسون "تحصيل" هذه الحقيقة حتى مع تأكيدها. تستهل بتقديم الحاضر الغائب: "الليلك وحقول العليق" التي تم اقتلاعها من جذورها لتمهيد الطريق لملعب الجولف في مدينة الميداليون، وتضيف على هذا الغياب طبقاتٍ أخرى: "لم يعد لأشجار الزان أثرٌ الآنوأشجار الإجاص، وصخب الأطفال الذين علت أصواتهم من أفرع الأشجار. ولكن تتراءى لنا الأشجار، وكذلك الأطفال، كما لو لم يفتقدهم المكان.
إن تجربةِ الدوران في حلقات مفرغة لا تقتصر على الكتابة، ولكن تشمل القراءة أيضًا.
تستأنف موريسون قائلةً أنَّ كل ما تبقى من حي (بوتوم) هي بعض "المباني المتهالكة التي تعترض الطريق إلى ملعب الجولف". على الرغم من تشديدها على أن ذلك العالم لم يعد له وجود إلا أنها تزيد من ضمه إلى هذا العالم، وذلك عن طريقِ خلقِ صِدام بين الماضي والمستقبل. فتخبرنا بدايةً أن صالة (تايم آند ئة هالف بول هول) ستتعرض للهدم ثم تقدم لنا تلك الأحذية البُنية الطويلة المُتدلية من درجات الكراسي. ونرى الكرة الفولاذية وهي تدمر صالون (إيرينز بالاس اوف كوزميتولوجي) وبعدها الرؤوس التي كانت ترغيها ايرين في أحواض الغسيل.
نحن مُطالبون برؤية متناقضة، أن نرى المبنى مدمرًا وقائمًا بنفس اللحظة، وهو طلب دينامي ومعقد على تصوراتنا. إن استجابتنا العاطفية تأتي من مشاهدتنا للتفاصيل الدقيقة لهذا الحي تُمحى تمامًا نُصب أعيننا، حتى لو أكل عليه الدهر وشرب. وإن لم يمضِ على لقاءنا الكثير.
إن هدف جيمس في رواية «بورتريه سيدة» هو خلق لغطٍ دائرٍ حول الشابة الشغوفة والمفعمة بالحيوية إيزابيل آرشر، وهي وريثة حديثة تتوق إلى مستقبلٍ مُستقِل، ولوهلة يبدو لنا أنها كانت على وشك إدراك غايتها لولا استغلال الفئة المتعصبة من السياسيين الساخرين لها، طمعًا بأموالها. إحدى التقنيات لإثارة اللغط هي تقديم وقائع ثابتة لنا؛ اختفاء ما كان حيًا مزدهرًا، أو خيانة تلحق بشابةٍ ساذجةٍ، ومن ثم البحث عن وسائل لخلقٍ أملٍ فينا لئلا يقع المكتوب. يمكننا، بطبيعة الحال، استعمال تلك التقنية في القصص القصيرة، كما هو جلي في قصة «ضيوف الأمة» لفرانك أوكونور، وهي قصة توضح ما يسميه إدوارد بي جونز "الحتمية الوحشية". ولكن في الروايات، تُطول هذه التجربة التي تتمثل في الأمل مقابل العقل، والأمل مقابل الحتميات، وهو فعل ينمُ عن تعاطفٍ معقدٍ ومتجذر.
تعتبر الحبكات الفرعية تقنيةً أخرى لإثارة اللغط، ولا يقتصر وجودها على الروايات بالرغم من ضرورته، فيمكن أن نراها في المقالات المعقدة مثلًا. تعمل الحبكات الفرعية على تشكيل انطباعك عن موضوع معين من خلال تقديم سرديات متزامنة ترتبط به. في رواية «سولا»، على سبيل المثال، نتابع أربع أو خمس شخصيات رئيسية؛ أمهاتٍ وبناتٍ، جميعهن من سكان حيّ (بوتوم) الذين تتشابك أقدارهم. لا تجذب الحبكات الفرعية انتباهك فقط إلى تعدد التجارب -عكس السطحية - بل تذكرك أيضًا بالعديد من المتغيرات في حياتك الخاصة. فليس لأحد حياة "واحدة"، بعبارةٍ أخرى: جميعنا مكونون من حبكاتٍ فرعية: وظائف، وعائلات، ومجتمعات؛ ولنا دور في الحبكات الفرعية لحياةِ الآخرين، كما للآخرين دورٌ في حياتنا الخاصة.
*
ما الذي يستحق إثارة اللغط حوله؟ يواجه جميع الكُتّاب هذا السؤال على حدِّ اعتقادي. ولكن بالنسبة للروائيين، الذين تنتظرهم سنونٌ طوال من العمل، لهذا الأمر ضرورة مُلحة. بطبيعة الحال، كل ما في الحياة يستحق إثارة اللغط حوله، إن كنت تعرف السبب. وهذا "السبب"، من وجهة نظري، يعود إلى القُدرة. ما الذي يمكن أن يحمله موضوعك؟ لا ما يحمله، بل ماذا يمكن أن يحمله؟ لك ولقرائك؟
للإجابة عن هذا السؤال، إليك مثالًا آخر على "اللغط" الروائي.
عندما بدأت فيرجينيا وولف كتابة رواية «السيدة دالاواي»، كانت تعودُ شخصية ثانوية من روايتها السابقة «رحلة الخروج»، حيث كانت السيدة دالاواي تعتبر امرأة اجتماعية سطحية. وهي النوع الذي كانت وولف تميل إلى نقده، وفي روايتها اللاحقة كانت تعتزم في البداية السخرية من السيدة دالاواي كمضيفة اجتماعية تخطط لإقامة حفلة ثم تقوم بالانتحار في نهايتها.
على الرغم من أن هيكل الرواية ضيق التركيز؛ إذ تبدأ حفلة السيدة دالاواي في الصباح وتنتهي في ذات الليلة، إلا أن القصة نفسها تتوسع باستفاضة حتى تصبح عملًا صعب الاحتواء. ابتداءً من الصفحات الأولى، تنطلق السيدة دالاواي لشراءِ الزهور في شارع بوند وتستجيب بعاطفة جياشة لكل ما تصادفه:
"في الجئير والصخب؛ والعربات والسيارات والحافلات والشاحنات، وجملة لوحات الإعلان على الصدور والظهور وهم يشحطون أقادمهم ويتمايلون؛ والفرق النحاسية؛ والأرغن اليدوي الدوار، وفي النصر والرنة والنشيد العالي لطائرة ما فوق الرؤوس هي ما تحب؛ الحياة؛ لندن؛ هذه اللحظة من حزيران". [2]
السيدة دالاواي هي استطراد إنساني – تُعير لكل شيء أهميةٌ. تتجاوز السيدة دالاواي، باستمتاعها بذلك اليوم من شهر حزيران، وتقديرها لعديد من الجوانب في لحظة واحدة، من "الجئير والصخب" في الشارع إلى "النشيد العالي" للطائرة، فكرة وولف الأولى عنها كفتاة اجتماعية وتصبح ما يشبه الآلهة بتفاعلها العميق مع الحياة من حولها. فرحها بتلك اللحظة من حزيران يُعتبر في حد ذاته لغطًا، يُحَوّل ضجيج الشارع إلى أوبرا والطائرة إلى صوت مغنية. تصف الناقدة فيليس روز السيدة دالواي بأنها "ربما تكون أكثر الروايات التي تبعث على التفاؤل على الإطلاق".
 
ليس لأحد حياة "واحدة"، بعبارةٍ أخرى: جميعنا مكونون من حبكاتٍ فرعية.
لا ينفي ذلك حدوث المصائب. فالآلام والأمراض النفسية والمعاناة لم تختفِ. ولم يمض الكثير على نهاية الحرب العالمية الأولى. ولم يعمَّ لندن حينئذٍ العدل والغفران كما لم يعمَّ في وقتنا هذا، ولكن وكما أشارت روز، ما تقدمه الرواية كردٍ على "تدهور الروح، وحالات الوفيات التي تستذكرها بشتى الطرق، هو استجابة عاطفية للحظة".
استجابة عاطفية للحظة. حيز شعري. فكيف تتغلب الرواية على ما قدمه الشعر بشكلٍ أعمق وبقليلٍ من الكلمات؟
ربما هو تطبيع الاستجابة المنمقة، جعل ما قد يكون لحظاتٍ استثنائية من الصفاء الذهني في الحياة "الحقيقية" يبدو مستمرًا، أقرب للاعتيادي. ما يميز الرواية هو وهم اليومية، ودمجها بالتدريج مع اكتشافات ورؤى صغيرة، ترجع جميعها على شخصياتٍ التي تعرفت عليها. يحتوي كلُ فصلٍ على الشيء القليل من الاستجابات العاطفية التي تسقي تعاطفك مع تلك الشخصيات مع تعقيدها تدريجيًا. ويحدث هذا للكاتب والقارئ على حدٍ سواء.
على سبيل المثال، تغيرت نظرة وولف عن "المضيفة" نفسها بفضل السيدة دالاواي، فتحولت من التجاهل إلى الاعتراف. أثناء عملها على تلك الرواية، سجلت وولف في يومياتها: "تبني الكتابة جسرًا فوق الهوة بين الكاتب والقارئ، أو بين المضيفة والضيف المجهول".
تروقني هذه الطريقة في التفكير بالقراء، لا يُعاملون كمن يجب أسره أو جذبه أو إغواؤه، ولكن كما لو كانوا "ضيوفًا مجهولين"، تبدو لي هذه العلاقة منطقية، ربما لأن أسئلة المسؤولية جلية. كيف تستقبل قرّاؤك وتدعوهم للدخول؟ ما الذي يريحهم للبقاء؟ خصوصًا إذا كانوا ضيوفك لمئات الصفحات، ما نوع الرعاية والترفيه الذي تقدمه لهم؟ ما أن يصبح الضيف في بيتك، فأنت مُلزم بالاعتناء به حسب قواعد الضيافة القديمة – ومن الخطر تجاهل تلك القوانين. (إن لم تصدقني، اقرأ مسرحية «مكبث».)
تستطيع مع هذا أن تأخذ ضيوفك في جولةٍ في الزنزانات، وتطفئ الأضواء وتسلسلهم إلى الجدران، إن تطلبت القصة ذلك، بشرط أن تقودهم للخروج ثانيةً، ويمكنك أن تقدم لهم حبة أسبرين وكوبًا من الماء. يجب أن تُراعي القارئ، الضيف المجهول. ويمكن أن تُغير تجربة الرعاية والاحتضان الذي تقدمه قصة مُحكمة السرد الشخص جذريًا.
*
علاوةً على مكافآت اللف والدوران، والظلام المستمر، وإثارة الجدل حول صغائر الأمور، وقضاء الكثير من الوقت مع الضيوف المجهولين، أود أن أطرح سببًا آخرًا لكتابة وقراءة الروايات: الخصوصية.
الخصوصية، مثل تعليق الحكم، يصعب إيجادها هذه الأيام، بوجود التتبع عبر الإنترنت والمُراقبة وجمع البيانات. بالنسبة للقراء، الرواية هي غطسة عميقة في عالم الخفاء. إلى جانب حياتك المرئية بين زملاء العمل والعائلة والأصدقاء، إنك تعيش أيضًا - في بعض الأحيان لأسابيع - مع أشخاص وأماكن لا عِلم لأحدٍ عنها غيرك. حتى قراء الرواية الآخرين لن يتصوّروا أشخاصها وأماكنها ومشاهدها كما تفعل أنت، ما لم يُقتبس عنها فيلمٌ سينمائي. ولكن أثناء انغماسك بقراءة الرواية، أنت تعيش حياةً مُزدوجة، حياة مُخبئة، وفي تلك الحياة "الأخرى"، لا سلطان للمؤثرين، والمُعلنين، والخوارزميات، والإغراءات للنقر، ومتابعي الشبكات الاجتماعية عليك. ليس لديك أثرٌ رقمي. لا يمكن لأحد تتبعك.
تقدم الرواية للكتّاب نفس الخصوصية، وتزيد عليه دهرًا من الخفاء لا بُد منه، أثناء تخبطك في عالم مُختلق، ليس لأحد أن يرى ما تفعل أو يكترث له، لسنواتٍ على الأرجح. لك أن ترتكب الأخطاء مرارًا وتكرارًا.
على سبيل المثال، في أول رواية نشرتها كتبت عدة مسودات من منظور والدة الشخصية، لأدرك بعد مئاتِ الصفحات أنني اخترت الشخصية الخاطئة لسرد القصة، وأن ابنتها من كان يجب أن ترويها، مُستذكرةً الأحداث. ولهذا الإدراك أثرٌ في إحداثِ فارقٍ كبير. وما كُنت قد اقتربت من فهم شخصية الام كما يجب لو لم أقضِ كل هذا الوقت في رأسها. اختيار وجهة النظر الخاطئة يمكن أن يكون زلةً قيمةً. وفي روايةٍ أنهيتها حديثًا، بدأت السرد براوٍ من منظور شخصي أول، لأدرك متأخرةً أنني ارتكبت نفس الخطأ وأن القصة يجب أن تكون من منظور الشخص الثالث. ثم، بعد العديد من الصفحات، وجدتُ أنني بحاجة إلى ثلاث وجهاتِ نظرٍ، بما في ذلك وجهة نظرٍ لشخصية مُتوفاة منذ البداية.
 
إن تجربة الرعاية والاحتضان الذي تقدمه قصة مُحكمة السرد يمكن أن تغير الشخص جذريًا.
هل ذهب كل ذلك الجهد هباءً منثورا؟ سيكون جوابي نعم لو كنت أحاول كتابة رواية في أحد عشر يومًا. ولكن إذا قست قيمة روايتي جزئيًا من خلال كثافتها، ومن خلال التجربة التي مرت بها؛ الاف الأسئلة التي طرحتها على نفسي، والاختيارات التي قمت بمراجعتها، ومحاولاتي بالامتناع عمَّا هو بديهي والاستعاضة عنه بالشيقّ، ولهذا فإن جوابي هو أن كل تلك الجهود كانت في محلها. فكل شخصية، ووصف، ومحادثة، وحدث أمضيت وقتًا في كتابته ثم آل إلى الزوال أضاف إلى القصة. أحيانًا أفكر في رواياتي كأنها مُبنية على قمة مقبرة أفكار وهي أرض خصِبة.
يقول هنري جيمس، بأسلوب مشابه ليودا "غريبٌ كم تبانُ أحيانًا، وعلى بعيد المدى، محاولة تركيز الانتباه الخائبة أهميتها. كل شيء يعتمد على كيفية هدرِ الانتباه المُشتت".
*
وسط كل هذا الهدر المفيد، هدفي كروائي لا يزال هو جذب القراء. ولذلك، لا أنقطع عن الكتابة، محاولةً العثور على وجهة النظر الصحيحة، وخلق شخصياتي وفهم مشاكلهم -مرتكبةً أحيانًا جريمة قتل للحفاظ على حيوية الأمور لا غير- مقتربةً أكثر فأكثر من معرفة ما يريدونه ويرهبونه. حتى أحصل على تحليل منطقي لشخصياتي عندما يتساءلون في المسودات النهائية: ماذا يُفترض أن أفعل هنا؟ لقد فكرت فيهم كثيرًا حتى أصبحت أعرف ما يحتاجون إلى القيام به، والطريقة لذلك والسبب.
الشخصية في الرواية حقيقية، يقول إي. إم. فورستر في كتابه «أركان القصة»، "عندما يعرف الروائي كل شيء عنها. قد لا يخبرنا كل شيء، فكثير من الحقائق حتى تلك التي قد نعتبرها واضحة، قد يُخفيها. ولكنه يجعلنا نشعر أن الشخصية يمكن شرحها رغم أنها لم تُشرح، ونخرج نحن من هذا بالحقيقة التي لا يمكن أن نخرج بها من الحياة اليومية". [3]
من المُضحك أن على الروائي إيجاد طرق لتمكين القارئ من تفسير الشخصية من خلال التفكير بها. على نقيضِ البشر على أرضِ الواقع، فإن الشخصيات محدودة، لكن الروايات فيها مساحة كبيرة للتداخل العاطفي، وتعميق تناقضات الشخصيات وزرع الغموض، ومفاجئتنا بإيماءات لم نتصور أن الشخصية قادرة عليها، ولكن عند النظر إلى الوراء ندرك أن تلك الإيماءات كانت موعودة منذُ البداية، كل ذلك حتى نوافق على قضاء ساعات في التفكير في بعض الشخصيات المُختلقة ومشاكلهم.
نادرًا ما نستغرق في التفكير بأصدقائنا بنفس الدرجة التي نفكر بها بشخصيات الرواية، على الرغم من أن لأصدقائنا أسرارًا يكبتونها عنا بخلاف شخصيات الرواية. بهذه الطريقة، تتحدى الروايات إمكانياتنا على تقديم تجارب مستمرة ومُركزة وأحيانًا عميقة للتساؤل عن الآخرين. أشخاصٌ قد لا تعرفهم أو ترغب في معرفتهم، ولكن كما يقول فورستر، تقودك الروايات للشعور بأنك تعرفهم.
*
وبالعودة إليَّ، الروائية على مكتبها، تكتب دون انقطاع، محاولةً دفع شخصياتي إلى الأمام، مشغولةً بجذب قرّائي، متأملةً الوصول إلى نهاية القصة قبل أن أموت، وطيلة الوقت هنالك ما يحوم مقتربًا شيئًا فشيئًا. سؤال يستطيع الروائيون تجنبه لوقتٍ أطول من معظم الناس: ما الذي أحاول قوله؟
سؤال معقول تمامًا. إذا كنت ستكتب عملًا من مئات الصفحات، ألا يجب عليك معرفة السبب الذي دفعك إلى كتابته؟ ولكن، بعد عقود من كتابة الرواية، تعلمتُ أن من الخطأ طرح هذا السؤال. "ما الذي أحاول قوله؟" هو السؤال العملي، والسؤال الذي يؤدي إلى صُلب الموضوع، والسؤال الذي يوحي بقولِ: "إليك نصيحتي". إنه ليس سؤالًا رحِبًا. خصوصًا إذا انتقل مباشرةً إلى إجابة.
إن السؤال "ما الذي أحاول إثارة لغطًا حوله؟" أكثر رحابة، وهو سؤال يؤدي على الأقل بشكلٍ موثوق إلى مزيد من الأسئلة، ويبتعد عن التوصيات والإعلانات. في رسالة كتبها أنطون تشيخوف لمحرره في عامِ 1888، قائلًا فيها "إنك على حقٍ في مطالبة الفنان بالتعامل مع عمله بعناية، لكنك لا تُفرق بين الفكرتين: حل المشكلة وصياغتها بشكل صحيح. يُطالب الفنان بالثانية عوضًا عن الأولى".
استحضر جيمس بالدوين في مقاله «عملية الإبداع» هذه الفكرة: "حري بالمجتمع أن يفترض استقراره" ويُضيف "لكن على الفنان أن يعلم، ويُعلِمنا أن العالم مضطربٌ تحت السماوات. فلا يمكن لأحد بناء مدرسة، أو تعليم طفل، أو قيادة سيارة دون أن يُسلِم جدلًا ببعض الأمور. يجب أن يبتعد الفنان عن التسليم جدلًا بأي شيء، وأن يتجه نحو جوهر كل إجابة ويكشف عن السؤال الذي تخبئه".
لنأخذ من روايات إيلينا فيرانتي مثالًا عن نصيحة بالدوين بالتوجه نحو جوهر الإجابة وكشف السؤال الذي تخبئه، وهي روايات تضم 1600 صفحة تتمحور حول صداقة ليلى ولينو. إنها لغط مفترض الوجود، تبدأ عندما كانتا فتاتين صغيرتين في نابولي في الخمسينيات وتغطي أربعين عامًا. يبدأ الفصل الأول من الكتاب الأول، «صديقتي الرائعة»، بهذه الطريقة: "بدأت صداقتي مع ليلى في اليوم الذي قررنا فيه الصعود عبر الدرج المُعتم المؤدي، خطوةً خطوة، إلى باب شقة السيد أشيل".
 
الروايات هي طرق طويلة مليئة بالانعطافات والاستدارات. ونادرًا ما تأخذك حيث تظن.
بدايةٌ مذهلةٌ أشبه باستهلالٍ لإجابةٍ وافيةٍ لها وزنها: الصداقة مهمة. تمسَّك بأصدقاء الطفولة، لا سيما إن كنت ذاهبًا إلى مكانٍ مُظلمٍ وغامض. لكن سيخبرك كل من قرأ الكتب بأنها تسجل صروف الدهر في حياةِ ليلى ولينو، بما في ذلك طول الفِراق، والخيانات، أيام من العداء الشديد، لمّ الشمل، والمزيد من الخيانات، والإنقاذ، والاختفاء. ومع هذا، يبقى هنالك ارتباط كعقد فيما بينهما ومسقط رأسيهما. وذلك من جانب الراوي لينو، التي لم تنقطع عن التفكير بصديقتها الرائعة صعبةُ المِراس.
وبناءً على هذا، فإن السؤال الذي تخفيه الإجابة "الصداقة مهمة" قد يكون: ما الذي يربط الناس جميعًا؟ هل من الممكن معرفته؟
إن كان تشيخوف من يتحدث هنا، قد يصبح السؤال: كيف يمكننا تحمل غيرنا إن كان الإنسان بطبيعته يسبب لأخيه الإنسان هذا الكم من المُعاناة والإرباك؟ لكن يجب أن تجمع المحبة بيننا! لكن كيف ذلك؟ لكن كيف؟
كُل قارئ يفهم أسئلة الرواية بطريقته الخاصة.
*
كمثلِ الرواية، خرجت هذه المقالة عن موضوعها الأصلي.  بدأت بوصف ما يمكن أن يكون عليه كتابة رواية ولماذا أعتقد أنها تستحق كل هذا الجهد والشك، والأمر ذاته ينطبق على قراءتها. وعلى النحو الذي يبدو، انتهى بي المطاف بطرح تساؤلات عن كيفية تحمل أحدنا الآخر. ولذا فإن آخر قولي بأنني أؤمن بقدرة الرواية، بعرضها الرتيب لإمكانية بث تفهمٍ أكبر وتعاطفٍ أعمق بمرور الزمن. وأؤمن بالخصوصية الخيالية المطولة التي تقدمها الرواية. وأؤمن بقوتها في تعطيل الحتميات. وأؤمن بالنكد الذي تسببه. خصوصا الآن، بتجرعنا الكثير من المعلومات، بسرعة، من جميع الاتجاهات، من الصعب معرفة ما يجب أن نوليه اهتمامًا، وما نصدق – وبكل الأحوال، من لديه الوقت لاتخاذ قرار؟ هنالك دائمًا شيء آخر متداول.
"عندما تكون المعلومات رخيصة"، كما يشير عالم تاريخ العلوم جيمس غليك، "يصبح الاهتمام غاليًا".
كتابة وقراءة الروايات استثمار كبيرة للوقت. الروايات هي طرق طويلة مليئة بالانعطافات والاستدارات. ونادرًا ما تأخذك حيث تظن. ولكن العائد من هذا الاستثمار هو رحلة عبر مناظر واسعة من الفرح العابر، والضحك، والحزن، والشك، والكرم، والقسوة، وصدمات الجمال، وصدمات الرعب، وصدمات الحب. وقبل كل شيء، الصدمة الناتجة من تقلب الأمور جذريًا. على الرغم من أنني وجدت أن الروايات تتعامل مع النشوة البطيئة والمُستدامة أكثر من الصدمات.
 
[1] عزة مازن، المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2005.
[2] عطا عبد الوهاب، المؤسسة العربية الثانية، ط 2، 1998
[3] كمال عياد جاد، دار الكرنك، 1960
 https://lithub.com/suzanne-berne-asks-us-why-write-a-novel-why-read-a-novel-and-why-now/

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.