مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

حبّ من طرف واحد - محمّد الزّواري ـ تونس



 
الطّاولات كلّها متشابهة، و كذلك الكراسيّ. النّادل وحده كان مختلفا عن الآخرين برواحه و غدوّه بين الطّاولات، و بابتسامته الرّتيبة الّتي تعلو محيّاه طول الوقت. نظر عبد السّتّار نحو الشّمس المستيقظة على استحياء، و جذب نفسا من سيجارته الصّباحيّة. فتأجّج طرفها المتوهّج، و احترق جزء من التّبغ المزدحم احتراق أمنياته الّتي لم يجد لتحقيقها سبيلا. ثمّ نفث الدّخان بعصبيّة تلفت الانتباه. تلاشى الدّخان في الهواء، فتلاشت معه بعض الهواجس.
كان جالسا في مكانه المعهود بالمقهى، معتمدا بمرفقيه على سطح الطّاولة الّتي لم تفارقها النّدبات رغم جهد النّادل المتزايد في مسحها ليلا نهارا. نظر يمنة و يسرة. أين ذهب النّادل ؟ لماذا لم يحضر له قهوته الّتي دأب على ترشّفها منذ أمد طويل ؟
 لم يجد عبد السّتّار ما يفعله سوى أن يسرّح بصره في الرّائحين الغادين في الطّريق. كانوا يسيرون مختلفين في هيئاتهم. هذا فارع الطّول، و ذاك قصير القامة، و الآخر يسير سيرا متعثّرا، إنّه يشكو مقدارا زائدا في الوزن. أمّا النّسوة فكنّ مختلفات أيضا. هذه نحيفة، و تلك بدينة، و الأخرى لا تكاد تظهر ملامح وجهها من أثر المساحيق.لا يدري من قال له مرّة : " لا توجد في الكون امرأة جميلة، و لكن توجد امرأة أجمل من الأخرى. "
كان يراقب الأقدام و هي تخبط الأرض خبطا. و فجأة، مرّت بالمكان فتاة في العشرين من عمرها. لم تكن جميلة بالقدر الكافي، و لكنّها ذكّرته بفتاته، تلك الّتي أحبّها منذ عشر سنوات. إيه ! كيف مرّت تلك السّنوات العشر و لم يتفطّن إليها ؟ لكأنّها أسراب من الغمام مرّت في سماء حياته و لم تجد عليه بشيء يذكر، لا بجودها و لا برهامها. رهام!  نعم كان اسمها رهام. لم يكن يعرف معنى اسمها، و لكنّه قرأ عنه مرّة في أحد الكتب القديمة. لم يكن جمالها أخّاذا، لكنّ سرّا غريبا كان يثوي في ملامحها. لو كان المرء يختزل لاختزلها في عينين برّاقتين، منهما تنبع الأشعار و الحكم و أناشيد الأطفال. أجل ! لقد كانت عيناها تجمعان كلّ ذلك، تارة يجدها طفلة، و تارة أخرى يجدها في طور الشّباب، و أحيانا تبدو كامرأة حكيمة تضع الشّيء في موضعه. 
تصاعدت من جوف المذياع أغنية لفيروز، فازدادت الذّكريات مشهديّة، و كأنّه أمسى مخرج أفلام : " ورقو الأصفر شهر أيلول.. تحت الشّبابيك.. ذكّرني ورقو ذهب مشغول.. ذكّرني فيك.. "
يا للمصادفة  !كان آخر عهده بها في شهر أيلول. كانت الأشجار حينها تبكي،  كانت تذرف أوراقا ذهبيّة. كانت الأشجار تخاطبه و تقول له : " لا تبك يا عبد السّتّار! سنبكي نحن عوضا عنك، الرّجال لا يبكون. "
لطالما تناهت إلى مسمعيه بعض الكلمات اللّاذعة من هنا و هناك،.لكنّه لم يكن يعيرها اهتماما : " ما شاء الله ! عبد السّتّار و رهام ! انظر إلى ذلك التّناغم بين الاسمين، كأنّهما قيس و ليلى، روميو و جولييت. " لم يكترث بما يقال، فقط أراد أن يثبت لمناوئيه أنّ الحبّ قادر على الجمع بين محبّين عاشقين رغم فارق السّنّ. " ألا ينظر إلى نفسه ؟ إنّها في سنّ ابنته ! اخجل من نفسك يا رجل ! "
و هكذا تهاطلت عليه الكلمات، بل تساقطت عليه تساقط الحجارة من أعالي الجبال. في ذلك اليوم قال في نفسه : " لن أكون مثل أبطال المسرحيّات و روايات المراهقين، لن أكتفي بالبوح بمشاعري. سأرسل في خطبتها، و سأثبت للنّاس أنّي جدير بها. " لكنّها قابلته بمجرّد علمها بأنّه سيزور والديها كي يطلب يدها.
كان الطّقس خريفيّا، تلوح فيه الشّمس شاحبة كوجه سقيم لم يكتب له الشّفاء. كانت واقفة بشموخها المعهود، قالت دون مقدّمات : " اسمع يا عبد السّتّار ! لا أريدك أن تفهمني خطأ. إنّ القدر لن يجعل منّا زوجين كما تتصوّر، أكرّر لك، أرجوك، لا تفهمني بصورة خاطئة ! "
كانت تلك آخر كلماتها، و ها هو اليوم يمضغ ذكرياته و يلوكها رغم مضيّ السّنوات. يبدو أنّه هو الّذي فهم الحياة بصورة خاطئة. كان يظنّ الحبّ نبراسا يضيء حياته، عصا سحريّة تحقّق المستحيل. و لكن، هيهات ! لقد كان حبّا من طرف واحد.
كان يقلّب بصره في النّاس يسيرون سيرا حثيثا. كان يرى السّعادة تطلّ من وجوههم رغم الهموم الّتي قد تطفو على السّطح. كان غارقا في تأمّلاته بينما امتصّت أذناه وقع أقدام النّادل و قد أقبل مزهوّا كعادته :
ـ تفضّل، قهوتك المعتادة !
ـ لا، شكرا ! لم يبق لي وقت لتناولها.
ـ خيرا إن شاء الله !
ـ أنا مضطرّ للمغادرة الآن، تذكّرت شأنا هامّا.
و في حركة روتينيّة أمسك بكفّيه العكّازين اللاّمعين تحت أشعّة الشّمس الصّباحيّة، و توكّأ عليهما بخفّة، ثمّ أخذ يتقدّم بتؤدة. كان منشغلا، كان يفكّر في شأن هامّ.
 
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.