مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

من الزمن الغيبي إلى الزمن الوجودي. جدل البدايات والنهايات بين محي الدين ابن عربي و هيدغر ونيتشه. هل تلقف نيتشه أنموذج الإنسان الأعلى من الحقيقة المحمدية الأبدية لابن عربي؟ بقلم محمد بصري باحث من الجزائر

 




لا يوجد تفسير نسقي عابر للزمن في الأنظمة المعرفية المجلوة ببرهان العقل وطبيعة التجربة والخبرة البشرية . فهو نظام وجودي أنطولوجي يربط الأنا بالآخر كما كان يردد إيمانويل لفيناس: أن الزمن يمثل امتلاءً يتناثر فوق الوجود الانساني، فالكائنات البشرية لا تشعر بالزمن إلا وهي تفكر في الأبدية  فوجودها  الأنطولوجي وحضورها المادي  بتوصيف ابن عربي هو زمان بين عدمين أي بين الماضي المنتهي المعدوم والمستقبل المُتوهم. الزمن دائري ويبدو أن ابن عربي قد كان على اطلاع بفلسفة والتراث الإغريقي والأرسطي الذي يعتقد بكليانية الزمن واستقلاله عن المكان كونه مبدأ كوني وجوهر مستقل له دلالة ومعنى مقولي.
أفلاطون يتجاوز بكثير التصور الطبيعي للزمن والذي كان سائدا في الثقافات الشرقية والأثينية التقليدية كإطار لتفسير الكوسموس فالزمان كثيمية théme  لم يعد هو الكرونوس chronos المبجل أو الألهة وهي أسماء لاتينية ومسميات للإله الوثن الذي يلتهم أبناءه، لأنه يخشى على ملكه لذا يفر الإنسان دائما من كرونوس إلى أيون aion وتعني آيون زمن الأبدية وهي مرادفة للسرمدية، للأزلية في محاولة  منه للتغلب على شر الزمان.شروح الأفلاطونية لا تخرج عن النزعة المثالية التي ترى في الواقع انعكاس للسماء .الفضاء الشاسع أو السماء هي الزمن"الزمن والسماء إذن أتيا إلى الوجود في اللحظة عينها،وشكلت السماء على غرار نموذج الطبيعة الخالدة"[1]
هل يوجد الزمان في الوجود أم الوجود في الزمان. يرى هيدغر أننا لا يمكن أن نفكك معضلة الوجود ونفهمها بدون فهم الزمن العصي على الوعي البشري .لذا فهو مجرد شعور يرقص في الوعي ليس له ما يقابله في عالم الحس.نحن ندرك الزمن لكن لا نقبض عليه ماديا. وهي إحدى مقولات كانط الزمن مسألة ميتافيزقية قبلية سابقة عن التجربة البشرية و لا تعدو كونها مسلمة ابيستيمولوجية ضرورية للمفهمة والمعرفة.
العقل قاصر بالمعنى الصوفي وواهم بدون الكشف. الزمن متوهم ومتوقد فقط كطيف تصوري وغير منضبط دون معرفة إشراقية. أسبقية محي الدين ابن عربي لاستشراف تفكيك فلسفي غنوصي دقيق للزمن،  هو استثماره  في الرؤى الشرقية الفارسية والتقليدية والإغريقية التي توسمت الطرح الكسموبولتيقي للزمان كونه دائري يمارس تجاذبا ميتافيزيقيا بين فلسفة البدء و معضلة النهايات .الأحداث تدور في نفس الفضاء المغلق. تصور ابن عربي كان ثيولوجيا نابعا من فلسفة علم الكلام الاسلامية التي شكّلت نسقا عقديا منظما تم تكثيفه وفق منطق التوحيد الاسلامي والثروة التراثية النصية الحرفية التي تزخر بها الثقافة الناطقة والمكتوبة بالعربية. .يكون ابن عربي أول من ساهم في الإفصاح عن العود الأبدي والدورة الكونية قبل فيلسوف الحداثة فريدريك نيتشه  Friedrich Nietzsche.الذي اعتقد أن الزمن لا يعرف الاتجاهات الخطية فمساراته متشاكسة وغارقة في فوض النهايات فالماضي والمستقبل النتشويين هما مجرد وهم مركب فالحضارات دائما تدين لبداياتها الأسطورية والغامضة وتتلاشى في حاضرها الضائع، هناك عناد بين عدمين هما الماضي والمستقبل واللحظة الفارقة هي الحاضر.الزمن النتشوي يشبه الدائرة المشاكسة التي تطير فيها الأحداث صوب كل الاتجاهات كالسهام المارقة  .التطابق بين مفهوم انشتاين للبعد الرابع أي "الزمكان" الذي صار لغزا فلسفيا في الماكنة العقلية لنيتشه ما كان إلا تطوير لفكرة تلازم المادة في طاقتها وكتلتها وسرعتها مع التحول في المكان وهو ما أشار اليه ابن عربي في قوله "إن الزمان هو مكان سائل والمكان زمان متجمد". العود الأبدي في أسمى تجلياته هو الزمن اللامتناهي المستمر وغير المتوقف، لم تكن فيزياء انشتاين لتفصح عن نفسها افتراضيا دون الجهد الإسلامي ممثلا في داهية التصوف ابن عربي وفي مماحكات وشطحات نيتشه. وكأن تفسير الزمن هو وليد الجنون النتشوي والعرفانية الاسلامية الحلولية.
إبن عربي ميز بين الزمن الوجودي والزمن الكوني أو الأفاقي واعتبر النفس جزء من وجود أناسي وتختلف أزمنة البشر بتغير شعورهم وهنا تكمن عبقرية هذا الأمرد بتعبير ابن رشد.فقد لقيه في قرطبة وتصافحا  وتسامرا وقال له كيف لشاب أمرد أن يحدث هذه الضجة.الزمن الأفاقي تجاوز به فكرة نسبية انشتاين وهو تعدد الأزمنة بتعدد الأكوان. وبتعدد الأمكنة الفراغية في الفضاء وهو ما اثبتته رياضيا الهندسات الفضائية نتاج تحول أكسيومي انقلابي في فلسفة الرياضيات الكونية. .
  محي الدين ابن عربي تجاوز الفلسفات والثيولوجيات السابقة بذكاء عرمرم حين أضاف فكرة "الأعيان الثابتة"بها تجاوز كليات وجواهر وهويات ومقولات الفلسفة الإغريقية وألبسها لباس عرفاني.الأعيان هي الموجودات المعدومة في الوجود غير ممكنة  في الامكان ولكنها حاضرة بالقوة  في الوجود الإلهي واللوح وما الحقائق الأرضية إلا ظلال وهمية لها، فعلاقتها هي علاقة وجود بماهيته ليست صلة اقتران زمكاني أو حلول وتماهي كما تؤيد ذلك بعض الفلسفات الوجودية بل هو حضور يلازمه غياب في حضرة الزمن الغيبي الإلهي. الموجودات هي نسخة باهتة من صور هيولية بالمعنى الأرسطي أو حقائق مؤقتة لجواهر كلية ثابتة مطلقة في الزمن الغيبي. جوهر الأشياء سابق عن وجوده فقد تماهى في زمن البدء من العدم مع تكوثره الأول فهو يتجلى تجلِ ناقص في عالم المحسوس بل مناقض له بالمفهوم العربي (نسبة لابن عربي). وهنا يستعين هذا المفكر الصوفي النادر الأيقونة بالحقيقة المحمدية هذه المسارات لا يمكن الكشف عنها بالعقل المعرفي الذي يسير وفق فضاء ابستيمولوجي بل وفق معقولية محاطة بسر العرفان وحدوسه الرهيبة أي "العقل المؤيد" .زمن الغيب بدأ  بمحمد عليه الصلاة والسلام وانتهى به في عالم الشهادة "فمجيئه أي محمد عليه السلام هو مدار وجود الزمان بقسميه الغيبي والمشهود حيث كان ابتداء دائرة الزمان به وكذلك اتصل آخر الدائرة بأولها لتكتمل به من ناحية أخرى ..فجاء فرد الزمان إلى أصله الذي حكم الله عز وجل به عند خلقه'"[2] .الزمن المحمدي دار مع الأفلاك وحركة الأجرام والأكوان فروحه هي بداية الخلق وانبجاس الوجود وتدور حركة الأزمنة مع الزمن الغيبي الذي خلق الباري فيه روح محمد عليه الصلاة والسلام. أكد ابن عربي "كان عند أول خلق الزمان بحركته خلق الروح المدبرة روح محمد صلى الله عليه وسلم ثم صدرت الأرواح عند الحركات فكان لها وجود في عالم الغيب دون عالم الشهادة وأعلمه الله بنبوته وبشره بها وآدم لم يكن إلا كما قال بين الماء والطين وانتهى الزمان بالاسم الباطن في حق محمد صلى الله عليه وسلم وإلى وجود جسمه وارتباط الروح به وانتقل حكم الزمان في جريانه إلى الإسم الظاهر فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بذاته جسما وروحا"[3]
نيتشه لم يجد إلا الانسان القوي الأعلى الذي يلعب دور الريادة والتأثير في عوده الأبدي.( ألا يمكن أن تكون نسخة الإنسان الأعلى هي الصورة الباهتة للتصور المحمدي للحقيقة الزمنية التي تتأبد من عالم الحقائق المطلقة "الأعيان الثابتة" إلى عقد مؤقت نسبي للزمن في تجليه الغامض للعود الأبدي الذي ينشد كائنا متعاليا يملك مواصفات مفارقة وغرائبية ومطلقة لا تخضع للوثنية الميتافيزيقية بل هو نموذج خلاصي متمثل في رجل القوة والتميز النتشوي "إنسان القوة والكائن الأخير "
انسان الدزاين "الذي يملك وجوده بذاته هو تدوير وجودي عميق للإنسان الأعلى النتشوي وفق حفر انطولوجي عميق .إدراكات نيتشه كانت تيــــــهًا ميتافيزيقيا كقارب تلاشى في بحار لجية بدون مجاديف بينما خلاصة محي الدين ابن عربي للزمان كانت سباحة صوفية في بحر العرفان والإشراق وحدوس ربانية مؤيدة بذوق العارف الذي تذيقه سكرته كؤوس خمرة معتقة بثمالة  نورانية مسربلة بفتوحات الكشف والمكاشفة.
ابن عربي داهية عربي نادر  عالج مفهوم الزمان بقلب صوفي واستدلال الفيلسوف وهو الذي كان  يلح دائما على التضحية بالاستدلال لصالح الذوق.الاستدلال البرهاني تافه أمام ثورة الباطن.يربط هذا  العارف بالأسرار الإلهية المؤيد بحال الاشراق بين التجلي الأعظم للأسماء الحسنى الإلهية السبحانية بتجديد الخلق في دورة أبدية سرمدية خارجة عن الزمن الأرضي والموضوعي الفيزيقي فالزمن يقوم بدورته الأزلية وهو يجدد استمرارية الأحداث والحياة والجزيئات وهذه الأعراض هي صورة لكليات  محجوبة وكأن هناك زمن أزلي هو الذي يبث الروح في الأزمنة الأخرى وينفخ فيها روح الحياة والتجدد وهذا لا يمكن كشفه إلا بتأمل كشفي للأسماء العظمى للذات الالهية.وهو فعل هرميونطيقي تأويلي مستمر من زمن غامض للعدم إلى زمن الوجود أو لنقل  اللازمن الذي أبدعته الإرادة الإلهية من الخلاء و الفراغ والعدم الذي سبق الخلق.وهنا يستدل ابن عربي بقصة عرش بلقيس الذي نقله من موضعه بقصرها " الذي عنده علم من الكتاب" قبل أن يرتد طرف عين النبي سليمان .فقد حدث هذا التحول في زمن معدوم نسبة للحواس  غيبي لا يمكن أن تدركه الحواس والأبصار بل هو رهن البصيرة والحاسة السادسة التي يتمتع بها العالم  الصوفي انظر د/مديحة حمدي عبد العال مرسي كلية الاداب الفيوم ص 320) الزمن  والوقت عند محي الدين.وهو ماتحول الفيزياء الحديثة الكشف عنه بالغوص في البعد الرابع أي الزمكان .
مارتين هيدغر Martin Heidegger  الشغوف بالزمانية تجاوز ميتافيزيقا الزمن ليستعيض عنه بسؤال الوعي في الوجود.لأن  لعنة الميتافيزيقا حلت بهذا الأخير و وسرقت منه سؤالا جوهريا وهو من أكون ؟ماهي ماهيتي ؟ هل أنا مجرد كائن متزمن؟ بدل الإجابة عن إشكاليات اختمرت عقودا ودهورا في اللاوعي البشري انطلاقا من حدود هذا الكائن الانطولوجية قفزت الميتافيزيقا لتقترح أجوبة متعالية مفارقة وأحيانا مناقضة لهذا الوجود. دزاين Dasein   هيدغر هو الانسان الأعلى لنيتشه لأن سؤال ما الزمن هو إفراط في التساؤل وانهاك للوعي والمخيلة البشرية ،والتفكير هو المجال الأرحب للهدر الزمني .فالفكر هو التموقع الصحيح للدزاين في وجوده وهو يُشكِّل انطولوجياه الخاصة فالدزاين يعيد إنتاج ذاته من خلال تاريخيته وحضوره في التراث إذ نحن نمارس التأمل وفق تمثلات زمانية( [3] ولا تتأتى هذه المواضعة إلا داخل كينونة أن الدزاين لا يوجد بل يكون ويحقق كينونته في " الهنالك " حيث يتحد الماضي والحاضر والمستقبل في الوعي.لذا كان وجود الزمان وجودا واعيا لا يتجاوز حركة العقل وانفعالاته في التاريخ والمكان.هذه الإحراجات هي من تحدد هوية الدزاين ظروفه شروطه الوجودية حضوره التاريخي كينونته رغم "الهم" أو القطيع أو الشعب أو "الآخرية" الذين يحددون مجال فاعليته ووجدانه وحتى طبيعته الاجتماعية وهذا الشطط يجعل الدزاين قلقا في انفتاحه على كينونته يجعله مغلقا وهو يعيش اضطراب واغتراب ميتافيزيقي."الهم" أو الآخر هو تدمير لوجود الانسان  وحريته  التي هي عنوان كينونته وهو الخبز الميتافيزيقي المسموم الذي يرافق شقاء الموجود في الزمان.
قد يكوون من قبيل الأخطاء المفاهيمية واللغوية الشائعة هذا  الخلط بين الزمن الغيبي والزمن الموضوعي البشري. لا يوجد ما يسمى زمن غيبي.لأن الغيب يتوقف عنده الزمن نهائيا يصبح هناك اللازمان.واللامكان. هناك تصورات لا تصلح أن تكون طعاما متافيزيقيا تقتات عليه عقولنا المبرمجة زمنيا. هناك الأزل . وهذا المفهوم فارق ومفارقة وبارادوكس paradoxe، إنه أي الأزل خارج الزمن فهو غير محدد بسقف زمني كما يقول اسبينوزا.وهو فرق كذلك بين الأزل والخلود .الخلود يجري في زمن لا بداية له ولانهاية.الله وحده الأزلي فهو خارج الزمن وخالقه.والروح أزلية فهي من أمر ربي وليست من علمه .ولو كانت الروح علما لاستطاع المتحذلقون المتحاذقون والبيولوجيون والروحانيون بلوغها لكنها أمر رباني لا قدرة للعقل البشري الوصول ليها ولو وصل حدود الفناء المعرفي.لذا كان ابن عربي الداهية يقول الزمان مكان سائل والمكان زمان  متجمد.
محمد بصري باحث جزائري
هوامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش:
1-      محمد فكري عكاشة مفهوم الزمان بين الفكر الفلسفي اليوناني والفكر الفلسفي الاسلامي ص 12 بحث منشور لنيل الدكتوراه.
2-      أنظر  د/مديحة حمدي عبد العال مرسي  الزمان والوقت عند محيي الدين بن عربي دراسة تحليلية نقدية للجوانب الفلسفية والكلامية مجلة الاداب والعلوم الانسانية كلية الاداب   جامعة الفيوم ص 331
3-      نفس المرجع ص331
4-      انظر مارتن هايدغر نهاية الفلسفة ومهمة التفكير ترجمة وعد علي الرحية دار التنوين ص15)

هناك 5 تعليقات:

  1. خالد اليماني15 أبريل 2024 في 2:07 ص

    ما أجمل أن يقرأ المرء مقالًا قويًا ومتماسكًا أول ما يستيقض من النوم، وبعده كل ما يأتي يكون أسهل وأيسر. شكرًا على المقال الرائع.

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لاهتمامك وذائقتك الفلسفية خالد صديقك صاحب المقال م .بصري

      حذف
  2. مقال رائع وخاصة عند حديثك للتصوف داك ابداعك

    ردحذف
  3. Toufik
    كالعادة متميز في الكتابة مبدع فالرسم الفلسفي بالتوفق استاذنا الفاضل

    ردحذف
  4. شكرا استاذ على هذا المقال الجميل، موفق ان شاء الله

    ردحذف

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.