مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

المجتمع المدني في الموصل ايام زمان - اسامة غاندي

 


سعد الله ابو الكيك (ابو الكيك)، هذه لحقته أخيرا عندما مارس بيع الكيك بالصينية في اسواق الموصل، الا انه قبل هذا، كان سعدالله الشاب الوسيم الذي تعيّن في مصلحة نقل الركاب بصفة جابي (محصل)، وكان بهذه الوظيفة من المسرورين.
سعد الله يبحث في السوق عن (فرشاة ) ثياب من تلك التي تزيل الغبار عن الثياب، كما هي العادة في شباب وكهول ذلك الوقت، ويبدو انها انقرضت مع انقراض الوجاهة وظهور موديلات الملابس الممزقة والرثة والملصق عليها التراب للاثارة، او كاكسسوارات لازمة.
اعتاد سعد الله ان يشتري (الفرشة كما يقولونها بالمصلاوي) من مخزن خيري الدباغ في شارع غازي، ولما دخله لم يجد المرحوم خيري ووجد عاملا، طلب منه 120 فلس ثمنا للفرشاة، بينما حاول سعد الله افهامه بالحاح بانه كان يشتريها بمبلغ 80 فلس فقط ، هنا لاحظه العامل، وأراد ان يلقي عليه محاضرة في مزايا الفرشاة الانكليزية، وأن الملكة فكتوريا الانكليزية دام ظلها، تستخدم نفس الفرشاة، وأننا  لا نملك الا أن نذعن لتسعيراتهم وشروطهم في البيع، لكن سعد الله وفي محاولة يائسة عرض مبلغ 100 فلس ثمنا اخيرا للفرشاة، الامر الذي أشعر العامل بالانتصار واعطاه اشارة خاطئة الى أن ما القاه من محاضرة في مناقب الصناعة الانكليزية، أصاب الهدف، فتمسك بموقفه وكلامه،  في حين رفض سعد الله هذا واعتبره ابتزاز وجشع من العامل، وانقلبت القضية من مساومة على بضاعة الى نوع من التحدي، وخرج سعد الله غضبان أسفا.
لكن سعد الله وفي طريقه الى البيت يتحشد نفسيا لكي يقنع نفسه بانه على حق، وان الفرشاة غالية، وأن هذا الاستعمار الانكليزي البغيض، الذي خرج من البلد، لم يزل في البلد (معشش) إن في شكل هذا البائع المغفل، أو في شكل هذه البضاعة التي لم تكن ولن تكون ابدا صاروخا فضائيا لا يمكن تقليده او الاستغناء عنه. وفي غمرة توتره جلس في البيت يفكر في هذه الملفات ( الساخنة ) الشائكة جميعها، رغم ان سعد الله لم يكن سياسيا، ولم يكمل تعليمه اكثر من الدراسة الابتدائية، ولم يكن له اهتمام او نشاط صناعي، او اقتصاديا يُذكر، مع ذلك فانه التهم صحن (البامية) المقدم له على الغداء، وهو يفكر في شيء، لم ينقطع هذا التفكير الا في اليوم الثاني بعد الظهر ، حيث انهى  عمله في المصلحة ، وتوجه فورا الى سوق النجارين في الميدان، يشرح لاحد النجارين امكانية صنع قطعة  خشبية بيضوية وشقها افقيا نصفين، ليثقب الشق العلوي بثقوب يضع فيها خيوط شبيهة بتلك الخيوط الخشنة المتوفرة في الفرشاة. في اصرار وتَحَدٍ لصنع فرشاة، ودفع سعد الله لهذه التجربة مبلغ دينار كامل (1000فلس) ، لان النجار  كان هو الاخر من بقية ما تركت بريطانيا من كتل ادمية متفحمة، ولم يحاول ان يتفهم ( نزوة هذا الثائر)ـ
واخيرا صنعها سعد الله، صنع الفرشاة ، وافتتح ورشة صغيرة لصناعة الفرش المحلية، وتوسع فيها رغم محدودية الانتاج، الى انتاج فرشاة قماش وفرشاة تيل وفرش أخرى تعتمد نفس المبدأ في التصميم .
لكن لم يجد داعما حكوميا ولا داعما مدنيا، كما أن المستهلك كان مرتهنا ايضا، بذلك الرباط الذهني الاستعماري الذي أخذ صورة الاقتصاد بدل الاستيطان. انتهت قصة سعد الله .
وهنا عليّ أن افجر قنبلة دخانية حول الموضوع، اذا كانت الفرشاة غير ذات اهمية، وهي قضية كمالية، كما أن سعد الله كان فردا واحد ولا يتمتع بميزات ولا سند ولا تأهيل علمي او فني ما ، والقضية كلها كانت قضية اثبات ارادة لشخصين متواضعي التفكير والتناول ، فما بال ثلاثة ملايين نسمة هم سكان الموصل بكل ما فيها من جامعات ومعاهد وورش واثرياء ورؤوس اموال واصحاب شأن ونفوذ وعلاقات وخبراء وووووو . واقفين عاجزين تماما الا من الكلام فقط والدعوة الى انقاذ منارة الحدباء من السقوط ، وبانتظار الفرج من حكومة ، لم تفرغ بعد من عّد الغنائم والمخصصات ، والكل يتباكى على منارة الحدباء ، ومنارة الحدباء ليست مَعْلَماً موصليا ولا عراقيا فقط، بل هي مَعْلَمٌ عربي اسلامي يحمل في طياته كل الذاكرة التاريخية والمجد،  ويُعد ايقونة موصلية، لم يبق من الموصل الا هي.
قد يكون هذا سؤال استفزازي، لكن منه سادخل لاشرح كيف يمكن للشعوب ان تبنى، وان تفكر، وأن تخرج من قوقعاتها الوجاهية وسجونها الاجتماعية المتمثلة بالحصون الثقافية والمؤسساتية، والتي على الاغلب لم تشم رائحة تراب يوما ولن تره على ملابسها الانيقة.
الان في العراق ما يُقارب 177 مؤسسة مدعومة وممولة تُعرف بمؤسسات المجتمع  المدني، وكلها تتلقى الاعانات والتغذية الفنية والاقتصادية من دول خارجية، ومن صناديق مالية معتبرة، لكنها على القطع تحوي من الجواسيس والمجندين لادامة الفوضى أكثر مما تطرح من عمل وانتاج .
لكن الجهات الممولة لها والمغذية، والجهات صانعة القرار السياسي للعراق تعرف جيدا، أن الافراد باتوا اعجز من أن يديروا شؤونهم بانفسهم، فلا ما نع ان تتولى هي مسألة استيعابهم ضمن هذه المؤسسات المشبوهة، وتمييع الجهود الخيرة ان وجدت، والقضاء على روحية الشعب المنتج المفكر المتصرف.
مع ازدياد رقعة المجتمع وازدياد الجامعات والمعاهد، وتطور وسائل الاتصال والتصنيع ويسر توفر المكائن والمعدات والنظم الحديثة في الصناعة، مع وفرة الخبرات الصناعية والهندسية والعلمية، قياسا الى ذلك الزمن الفقير نسبيا. والعاري من كل هذه الاشياء، استطاع اولئك أن يزحزحوا قليلا عجلة التقدم، ويخففوا وطأة الحاجة والافتقار الى الضروريات.
سوف استعرض في حلقات قادمة بعضا من صور  اقدام الناس بصورة فردية ومجردة من كل دعم وتمويل ومعدات، اقدامها على صنع الحياة وصنع الياتها، وجعلها سعيدة ما امكن او فيها شيء من البحبوحة والرخاء. (( هو الذي جعل لكم الارض ذلولا. فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور))ـ
في مناسبة الحديث عن منارة الحدباء وقصتها ومرثياتها الادبية التي طالت ولم تقصر، ساسوق لكم حدثا لما جرى في هذه المنارة وما حولها،  وبطل هذا الحدث هو الوجيه الراحل مصطفى محمد الصابونجي، وكيف استطاع هذا الرجل بحكمة ودهاء وعقل تجاري ونية انسانية سليمة ، ان يعيد بناء الجامع الكبير هذا ، ولي عودة الى سيرة هذا الرجل في حلقات قادمة ، والذي اعتبره انا شخصيا رائد المجتمع المدني في العراق كله  والسباق الى بناء مجتمع مدني ، ولم يُسْبَقْ في هذا في العراق كله ، واعتبره صِنْوَ طلعت حرب في مصر رائد الاقتصاد المصري.
القصة حكاها لي الراحل اسطيفان البنا، رجل مسيحي كان يسكن محلة الميدان، وكان شاهدا عليها، يقول
بعد سنوات 1914 وزمن الفوضى اواخر الحكم العثماني وانفلات الامن وهزيمة الاتراك ترقبا لدخول القوات البريطانية الى الموصل، كان الجامع النوري ( الكبير ) متداعيا وبعض اجزائه ايلا للسقوط، ولم تكن سلطات الاتراك تهتم به ولا الوقفيات، فهجره المصلون تباعا ، وتحول في بعض اجزائه الى موضع لرمي النفايات ، وفي اجزائه الأخرى الى حضائر للمواشي والخيول لبعض اهالي المنطقة، واتخذت المساحة الصغيرة الملاصقة للمنارة، ولانها كانت مستوية (معدلة) مكانا للف الخيوط والحبال وصبغها، واستمر حاله هذا الى الاربعينيات عبارة عن خرائب، الا أن اقدم الراحل مصطفى الصابونجي، وقدم عرضا الى المسؤولين، وأعلن عن نيته ترميم وصيانة الجامع واعادة تأهيله، على شرط أن يسمحوا له  بوضع  اكوار جص ( جمع كور ) فيه لسهولة النقل والترميم، لان الكلفة ستكون باهظة  لو جرى جلب مادة الجص من مناطق بعيدة بعضها خارج الموصل انذاك، على ظهور الحمير الى الجامع.
وتمت الموافقة على طلبه وعلى شروطه، واستطاع بفكره التجاري ان يبني الجامع و يعمره، وان يُسهل حصول المواطنين على مادة الجص من منطقة قريبة داخل الموصل،  فكان ان كسب الدنيا والاخرة، واذا تجردنا أكثر قلنا (ضرب عصفورين بحجر واحد)، واضاف الى القبة المنائر الاربع الموزعة الان على زوايا الاسطح، واعاد تأهيله، ولم يخسر دينارا واحد، اضافة الى ارباحه من بيع مادة الجص،
طبعا هذه الرواية تحريت صدقها وصدقيتها من اكثر من مصدر، وحصل لي معها بعض اليقين، خصوصا واني رأيت صورا لما كان عليه حال الجامع في تلك الفترة، ارفقها مع هذا المقال.



ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.