مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

حنين الصايغ: أنا نسويّة دون أيديولوجيا - لوركا سبيتي - لبنان

 


بيروت: أثارت رواية الكاتبة اللبنانية حنين صايغ "ميثاق النساء" جدالا منذ صدورها، نظرا إلى أنها تعالج واقع المرأة في الطائفة الدرزية التي تعدّ من أكثر الطوائف الدينية والاجتماعية محافظة تصل إلى حدّ السرية. 

"ميثاق النساء" عنوان روايتك الصادرة عن "دار الآداب"،ما القصد من أخذك عنوان إحدى رسائل "كتاب الحكمة" لدى طائفة الموحدين الدروز؟ وكيف تلقف القراء في بيئتك الرواية؟

أجد "ميثاق النساء" عنوانا مناسبا وله دلالات متعددة. ما أشير إليه في العنوان هو ميثاق الألم المشترك والفهم والتضامن بين النساء، وأظنني أردت أن تتعامل النساء مع هذا الميثاق بالقدسية نفسها التي ينظر بها الانسان إلى أي نص مقدس. أما في شأن ردود الأفعال فقد كانت متفاوتة: أثار العنوان غضب بعض الأشخاص المحافظين حتى قبل أن يقرأوا الرواية، واستاء آخرون لمجرد أن الرواية تغوص في المجتمع الدرزي وتفككه أسطوريا واجتماعيا. لكنني في المقابل فوجئت باحتفاء شديد من النساء الدرزيات اللاتي أحببن الرواية وتماهين مع بطلتها، ووصلتني رسائل مؤثرة جدا من شيخات درزيات بكين أثناء قراءة الرواية لأنها تسلط الضوء على معاناة النساء في المجتمع الدرزي الجبلي.

سراديب

تهدين الرواية إلى ابنتك وتقولين: "اعذريني لأنني لم أكن ابدا بكاملي معك، أنا أربيك يا صغيرتي وأربيني، سامحيني"، هل الكتابة عالجتك من عقدة الذنب التي ترافق الأمومة أحيانا؟

أعتقد أن سراديب الشعور بالذنب أعمق من أن تُنبش ويضاء عليها عبر كتابة رواية، لكن الكتابة بلا شك ساعدتني في رؤية الأمور من زاوية أخرى وفي كسر أنماط التفكير التي عشتُ رهينتها لفترة طويلة. في الحياة العادية نكون متورطين بمعضلاتنا ومشاعرنا، أما أثناء الكتابة فيخلق النص مسافة بيننا وبين هذه المعضلات والمشاعر، مما يسمح لنا برؤية قضايانا وانفعالاتنا وفهمها وتحليلها بشكل أوضح وأكثر تجردا. الفهم هو الخطوة الأولى على طريق الشفاء.

من خلال نصك الروائي، نسمع أصواتا خائفة وصرخات مكتومة، هل أمل، بصوتها الحيّ هي حنين الصايغ؟

لم أقدِّم العمل كسيرة ذاتية ولكن كرواية. للرواية شروط فنية لا يمكن أن تخضع للخط الزمني ولا لوتيرة الحياة العادية. طبعا استلهمت وقائع وشخصيات من حياتي، لكني لجأت أيضا إلى التضخيم والخيال لتمرير أفكار مستفزة لمواجهة القارئ باحتمالات لا يتوقعها وربما لا يقبلها. فضاء الرواية يسمح للقارئ برؤية نفسه والتفاوض معها أثناء القراءة بدلا من التلصص على حياة الكاتب واستخدام النص كوثيقة لاستخراج معلومات عنه. مع ذلك أقول إن هذه الرواية ببطلتها وشخوصها من نساء ورجال وكل الأفكار التي طرحت فيها، تمثلني تماما.

أكثر الروائيات كتبن بغضب عتيق ورثنه عن جداتهن النساء وهاجمن الرجل بندية، لكنك على الرغم من أن نساء روايتك الستّ، من أمل إلى جدتها الى والدتها إلى العمة سليمة، سكنّ في الجب وتخبطن في حياة قاسية لم يعشنها كما يجب، وصادقن المعاناة الممتدة كأنها شريك، لا نراك أعلنت العداء للرجل، لماذا؟

كما ذكرتُ سابقا، فإن مدخلي للكتابة هو محاولة للفهم والتحليل لا لإدانة أحد أو تصفية حسابات معه، ولا أظن ان الفهم يتحقق من دون تعاطف. تعاطفي مع النساء في الرواية أمر بديهي، ولكن هذا لا يعني أن أخوض حربا ضد الرجال، فأنا لا أؤمن بالتراشق بين معسكرين. لذلك لا توجد صورة نمطية للرجل في روايتي، فهناك الرجل الظالم، وهناك الرجل الضحية، وهناك الرجل المنقذ. هناك رجل قتله الحب، ورجل أحياه الحب، وثالث أصبح قاسي القلب لأنه لم يعرف الحب يوما.

أنا نسوية بمعنى حقوقي وليس بمعنى أيديولوجي. الحقوق لا تتجزأ. مشكلتي مع الايديولوجيات أنها تبدأ دائما بفكرة جميلة كفكرة العدالة، لكنها تفتح بعد ذلك ساحات حرب غير متناهية وتصبح مولّدا للكراهية بدلا من خلق أرضية مشتركة بينها وبين من تختلف معهم. الأدب بالذات عليه أن ينأى بنفسه عن هذا المسار.


الألم والكتابة

"الألم هو ميثاقنا المقدس"، مرّت هذه الجملة واختصرت حياة بأكملها. هل الألم ذاته هو الذي يكتبك؟ وهل ضمدته الكتابة؟

الألم في حد ذاته لا يخلق أدبا أو فنا، ولكن طريقة تعاملنا مع الألم والفلسفة التي نستقيها منه تغيّرنا كأشخاص وليس فقط ككتّاب. كتّبني الألم وكتبته، لكني ألاحظ أننا نُحَمِّل الأدب فوق طاقته حين نزعم أنه يشفي ويحيي ويقاوم. على الجانب الآخر نلاحظ ميل بعض الكتّاب إلى عبادة الألم وتقديم حيواتهم كقربان على مذبحة. أقدس ما في الحياة هو أن نعيشها ونستمتع بها وأن نخفف آلامنا وآلام الآخرين، لا أن نعتبر الألم دجاجة تبيض ذهبا على شكل روايات وقصائد. الألم وسيلة لفهم الحياة والعبور إلى واقع أفضل، ويجب ألا يكون غاية في حد ذاته.

الأم والابنة "وجهان لحب يكمله الخوف"، والأب والزوج هو "الصوت المتربص الفطري الموجود في نفس كل امرأة". هل وجدت الحل من خلال روايتك؟ ماذا تقولين لامرأة خائفة تقرأ روايتك؟

قد تبدأ المرأة بالتحرر من الخوف حين تدرك أن أشباحها وأعداءها يقطنون في داخلها في المقام الأول. هي من تعطي المتجبّرين صوتا وسوطا وسلطة حين تقبل بدور الضحية وترضى بظروف أشبه بالعبودية. بطلة روايتي أمل بونمر، تحررت من الحصار الذكوري المفروض عليها من طريق العلم والعمل، وكذلك من طريق الصدق مع الذات ومواجهة كل المخاوف والأشباح التي أمضت حياتها في الهروب منها. أقول لكل امرأة ما أقوله لنفسي دائما: الخوف شكل من أشكال الموت، والحرية أسمى صور الحياة.

لا يمكن الإمساك بـ"لغز" الشعر وانما يمكن تقديم تأويلات، بحسب بورخيس، وانت كتبت الشعر وذهبت أخيرا إلى الرواية. ما تأويلك حول فن الرواية، هل لها لغزها الخاص أيضا؟

لكل كاتب تأويله الخاص للحالة الشعرية وكذلك للحالة الروائية. علاقتي بالشعر سلبية، بمعنى أنني لا أسعى أبدا لكتابة قصيدة إلا حين تفرض نفسها عليَّ كسحابة منفردة تنهمر بتلقائية من دون حسابات وبغض النظر عن أي سياق. أما الرواية فأذهب إليها متعمّدة نتيجة لإلحاح ما ورغبة في الإفصاح أو البوح، وهذا البوح يشبه النهر، وعلى الكاتب أن يحفر لنهره مجرى وأن يصمم له القنوات والسدود إذا لزم الأمر. هناك اتفاق غير معلن بين الروائي والقارئ أن هذا النهر سيتحرك الى الأمام ليصل إلى مصبٍ أو هدفٍ ما. مع ذلك فالسحابة والنهر والمصب هي في النهاية الشيء نفسه، ولكن في أشكال ومراحل مختلفة.

الكتابة والخوف

هل كتبت كل ما ترغبين به أو فقط ما تستطيعينه؟

كتبت كل ما أريد قوله في سياق الحكاية التي أحكيها من دون تردّد أو خوف. وأعتقد أن على الكاتب الذي يكتب بحذر أو خوف من ردود الأفعال ألا يكتب من الأساس. فالميثاق الذي يربط القارئ بالكاتب هو صدق الكاتب وشفافيته من جهة واستعداد القارئ للتواطؤ معه في تصديق الخيال من جهة أخرى. ولكن كما نعلم جميعا، فإن الأدب هو فن اقتصاد اللغة، وفي الرواية بالذات نستغني كثيرا عن قصص مشوقة وأفكار جذابة لتجنب إقحامها في سياق لا يناسبها ولا يخدم الحبكة.

في مجتمعات لا تقرأ وأخرى تستولي عليها أيديولوجيا رجعية، هل تغير الرواية طريقة تفكير المجتمع؟

لست متأكدة من أن مجتمعاتنا لا تقرأ، فهناك جيل جديد يقرأ بنهم ولكنه ربما يفضل الروايات الأجنبية بسبب التشويق وغرائبية العوالم التي تصفها. ولكن حين تتحقق معادلة سلاسة اللغة مع عمق الفكرة، يُقبل القراء أيضا على الروايات العربية. إنه طموح كبير أن نتوقع من الأدب أن يغير المجتمع، ولكن للأدب القدرة على توليد التعاطف والرغبة في فهم الآخر ومناهضة التعصب والكراهية، وكلها آليات تؤدّي إلى تغيير بطيء في المجتمع.

كتب أكثر من ناقد وناقدة عن روايتك "ميثاق النساء"، واستحثت الكثير من الناس قبولا أو رفضا، وهي في طريقها للترجمة إلى الألمانية. ما الذي يجعل من هذه الرواية (وهي بكرك) كتابا بهذه الأهمية، اللغة المتينة ام القصة التي تفضح خبايا مجتمع مليء بالأسرار؟

- أسعدني كثيرا أن ناقدات ونقادا كبارا أشادوا بجرأة القضايا التي تطرحها الرواية وأيضا بقيمتها الأدبية والإنسانية، خاصة أنها تعالج قضايا المرأة الشرقية من دون المظلومية والصور النمطية المعتادة، وتغوص أكثر في سيكولوجيا المرأة وعلاقتها بذاتها وجسدها وصورتها المشوهة عن نفسها. كل هذه الأمور شجعت دار نشر ألمانية كبيرة على ترجمة الرواية، وهناك حديث عن ترجمتها للغات أخرى. أعتقد أن دور النشر الغربية تبحث عن روايات لها طابع محلي لكنها تعالج قضايا إنسانية عالمية، كما يهمها أن يكون العمل مكتوبا بلغة جذابة وله حبكة متينة.

"أن تقول تقريبا الشيء ذاته" هو تعريف الترجمة بحسب امبرتو ايكو، وانتِ عملت كمترجمة للأدب من العربية للإنكليزية. هل تخافين على روايتك من الترجمة؟

أخاف على قصيدتي من الترجمة أكثر مما أخاف على روايتي. لأن مساحة سوء الفهم في الرواية محدودة وإن حدث سوء فهم في بعض الجمل، فإن هذا لا يدمر العمل بشكل كامل كما قد يحدث في ترجمة القصيدة. في النهاية، الترجمة ليست إلا ثوبا آخر للجسد نفسه، ويجب أن يفصّل بعناية وأمانة.

 المجلة

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.