مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

الفلك في حضارة وادي الرافدين - د. سعد عباس الجنابي

 

 
تميزت حضارة وادي الرافدين بكونها أكثر الحضارات القديمة تقدماً في علم الفلك، وقد درس الباحثون المتخصصون في علم الفلك هذه الحضارة وقدموا كثيراً من المعلومات الفلكية القيمة التي فاقت بها الحضارات المعاصرة لها. عندما يتحدث الباحثون المتخصصون في علم الفلك والحضارات القديمة يقولون إن حضارة العراق القديمة تعد أهم حضارة فلكية في التاريخ القديم، وقد أكد هذه الأهمية أكثر من باحث علمي، يقول الأستاذ طه باقر: من الأمور التي أجمع عليها مؤرخو العلوم أن أسس علم الفلك، مثل الرياضيات، قد وضعت في حضارة وادي الرافدين قبل نحو 4000 سنة، وحين تتحدث الكاتبة الفرنسية " مارغريت روشن " عن علم الفلك الرافديني تقول: إن من بين سائر العلوم التي أنشأها البابليون واستخدمها الكلدانيون يحتل علم الهيئة مكاناً مرموقاً، لا يعلو فوقه سوى الرياضيات. وتقول أيضاً: تظهر اللوائح واليوميات المدونة بموجب الرصد روحاً علمية حقة، غير أن المعارف التي وصلتنا لا تبين لنا بأن البابليين ـ الكلدانيين توصلوا إلى شرح هذه الظواهر وفق نظم الفيزياء، إنما ظلت منوطة إلى آخر الأمر بمفاهيمهم الدينية التي كان علم الفلك خاضعاً لها، فبقيت النظريات الفلكية عرضاً وصفياً، والذي لا ريب فيه أن الفلك والتنجيم يتداخلان في هذه الحضارة كما في سائر الحضارات القديمة الأخرى.
فعلم الفلك عند أهل بلاد الرافدين ذو طبيعة دينية تنجيمية، يقول هاري ساكز: تنص قصة الخليقة بشكل خاص على أن الأرض هي القسم المقابل للسماء، ولذا فإن أي حدث السماء لا بد أن يكون له مقابل على الأرض. ويتحدث هاري ساكز عن علاقة الفلك بالتنجيم في وادي الرافدين بقوله: ومن الأمور المسلم بها بصورة عامة أن علم الفلك نشأ ء التنجيم، غير أن الأدلة من بلاد بابل لا تؤيد هذا الاستنتاج بصورة جلية، ومن المؤكد أن بعض الارصادات الفلكية الأولى قد استخدمت لتزويد المادة لقراءة الطالع. أن الأستاذ " طه باقر " يؤكد أن التنجيم كان من النتائج الثانوية لعلم الفلك حيث نشأ هذا العلم من الحاجات لضبط الفصول والتقويم والزمن وقياسه وحسابه. لقد لعب تقدمهم في الرياضيات دوراً مهماً في تطوير المعلومات الفلكية وجعلها علماً منظماً دقيقاً ولا سيما أنهم في عصورهم المتأخرة - منذ القرن السادس قبل الميلاد - استبدلوا الرصد المباشر للأجرام السماوية بالحسابات الفلكية فنشأ الفلك الرياضي وبلغ أوج تقدمه في العصر السلوقي في العراق - القرن الرابع قبل الميلاد - حيث دخلت الحسابات الأرضية في الفلك. لقد اهتمت حضارة وادي الرافدين بالأجرام السماوية التي تستطيع رصدها بالعين المجردة، ومن التلال ويبضع أدوات فلكية بسيطة، كالنجوم والكواكب السيارة والشمس والقمر والظواهر الكونية الواضحة، ولا شك أن الهدف لم يكن علمياً بالمعنى العلمي المنهجي، لكن هذا الاهتمام أنتج في الأثناء فلكاً وأرصاداً سماوية جمة.
يذكر الباحثون أن أهم ما خلف لنا سكان وادي الرافدين من إنجازات مهمة هو " نظام العد الستيني " فقد جعلوا الوحدة الكبيرة في العد (الستين)، فقسموا الدائرة إلى 360 درجة، وقاسوا الزوايا بالدرجات والدقائق والثواني وهذا النظام فاق النظام العشري ببعض الميزات ولا سيما في الحسابات التي تضم الكسور التي كانت أيسر قسمة، لأن الترقيم ستين يقبل القسمة على عدد كبير من الأرقام: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 10، 12، 15 ، 20 ، 30.
لقد كان أبناء العراق القدامى راصدين متقدمين جيدين، يعتقد الباحثون في تاريخ العلوم أنه ليس هناك دليل ـ في الوقت الحاضر ـ على وجود أرصاد فلكية منظمة الألف الثالث قبل الميلاد، وأن أقدم الأمثلة المعروفة لمثل هذه الإرصادات جاء من عهد الملك (أمي صادوقا) أحد ملوك سلالة بابل الأولى. وجداول (الزهرة – امي صادوقا) هي  ألواح طينية تحتوي على أرصاد خاصة بالزهرة أجريت زمن الملك امي صادوقا، وهي من الأرصاد الفلكية المدونة الواصلة إلينا من العهد البابلي، وهي تتحدث أساساً عن شروق الزهرة وغروبها. وقد أخذت على الأكثر لقراءة الطالع ومن خلال هذه الأرصاد عرف البابليون أول ظهور الزهرة وآخر ظهور لها، وعرفوا أيضاً مدة اختفائها. إضافة إلى ذلك أدرك العراقيون القدماء (في العصر البابلي)(*) أموراً فلكية عديدة منها: أن الشمس والقمر والسيارات الخمس اتبعت في مسيرها منطقة محددة في السماء عرفت بمنطقة البروج. وهي منطقة مقسمة إلى اثني عشر قسماً، والقسم الواحد ثلاثون درجة (أي 12 برجاً) كما نعرف الآن، والبروج هي عبارة عن مجموعات نجمية ذات أشكال محددة. إن ملاحظة ورصد البابليين للسماء وبشكل مستمر أفرز أرصاداً فلكية كثيرة ومادة علمية جيدة أغنت الفلك القديم، وكان تنظيم التقويم يتطلب من البابليين القيام بوضع يوميات تخص الشمس والقمر والنجوم. وكانوا قد ثبتوا في عهد قمبيز لوائح باتصالات القمر بالكواكب الخمسة الأخرى ولائحة أخرى تمدد اتصالات الكواكب فيما بينها. وعرف سكان وادي الرافدين أدوات فلكية بسيطة كالمزاول وأدوات أخرى، والمحصلة النهائية أن المعلومات والملاحظات الفلكية التي وفرها البابليون والأرصاد الكثيرة التي قام بها سكان وادي الرافدين جعلتهم أهم الحضارات القديمة في  مجال علم الفلك.



                                                         شكل (1): ختم أسطواني سومري 
شكل (1): تظهر الوثائق التاريخية اكتشاف كوكب بلوتو في شباط 18 – 1930 من قبل الفلكي كلايد توباف، لكن بلوتو يظهر بوضوح في الخطوط التي تطبعها أسطوانات الأختام السومرية. هناك أيضاً كوكب إضافي. الكوكب الذي يسميه العلماء - الكوكب الغامض اكس وهو لا يزال مجهولاً وبعيداً جداً في منظومتنا الشمسية - انظر طبعة الختم الاسطواني موضوع الكلام أعلاه وانظر حول الشمس واحسب عدد الكواكب التي تدور حولها - هذا الختم عمره أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة سنة.
وحكم الملك آمي صادوقا هو ما بين 1646 – 1626 ق.م. أورنمو: وهو مؤسس سلالة أور الثالثة التي - حكمت مدينة أور.
ويعد " لوح أمسادوكا البابلي لكوكب الزهرة " أقدم : فلكي باق عن الكواكب وهو نسخة اكتشفت في القرن السابع قبل الميلاد وهي عبارة عن قائمة ببعض الملاحظات الخاصة بحركة كوكب الزهرة ربما يعود تاريخها إلى بداية الألفية الثانية قبل الميلاد. ومن أرصادهم أنهم عرفوا أن القمر والكواكب السيارة لا تبتعد في حركتها مسافة بعيدة خط العرض من مدار الشمس في منطقة البروج Ecliptic ومعنى ذلك أنهم أعطوا شيئاً عن معنى المدارات للكواكب التي عرفوها آنذاك. كما رصدوا المواضع النسبية للكواكب والنجوم في تلك المنطقة الضيقة من السماء Zodiac ثم إنهم حسبوا مدة قرآن عطارد بخطأ لا يتجاوز خمسة أيام.
والواقع أن البابليين ساهموا مساهمة كبيرة في ميدان الفلك، وأنهم المؤسسون للفلك العلمي. ويعود الفضل إلى تقدم الكلدانيين والرومان إلى البابليين. كما أن هناك احتمالاً كبيراً في تأثير البابليين على الأقوام في الشرق كالإيرانيين والهنود. وبناء على رواية تسوماشين Ssu machien (أي منتصف القرن الثاني ق.م.). يستنتج " بيزولست " أن الصينيين تعرفوا على التنجيم البابلي قبل 523 ق.م. ترجيحاً.
تقول الأسطورة البابلية: " إينوما إيليش " (حينما في العلى). إن "مردوخ" بعد أن خلق السماء والأرض من الماء وضع لها أبراجاً من النجوم تعين ببزوغها وأقولها السنة والشهر واليوم، وضع المشتري ليحدد واجبات الأيام وأوقات ظهورها. كذلك رسم للشمس طريق الشروق والغروب ووضع لها أبواباً تفتح وتقفل و.. أمر القمر أن يطلع، ووكله بالليل، وجعله من كائنات الظلام لقياس الزمن، وراح يزينه كل شهر بتاج (في مستهل الشهر إذ تطلع في السماء ليقس قرناك أياماً ستة، وليظهر نصف تاجك في اليوم السابع. وحينما تكون بدراً فلتواجه الشمس.... وحين تسبقك الشمس في كبد السماء قلل من ضيائك واعكس نموك) .
ونورد فيما يلي مقتبساً من أسطورة الخليفة البابلية:
" حينما في العلى " لم ينبأ عن السماء (لم تسم باسم)، وفي الدني (الأسفل) لم تذكر الأرض باسم، وحين كانت مياه " أبسو " الموجود الأول والدهم، والأم " تيامة " والدة جميعهم واحدة مختلطة، ولم يكن وجد أي مرعي ولا يرى أي شيء حتى هور قصب، حينما لم يظهر إلى الوجود أي من الآلهة، ولم تذكر أسماءهم، ولا خصصت وظائفهم وأقدارهم، ثم وجد الآلهة في وسطها (وسط أبسو وتيامة) ..... "
وبعد ذلك تتحدث الأسطورة عن صراع كبير بين الإله الشاب " مردوخ " مع " تيامة" وانتصاره عليها وقتلها وشطر جثتها إلى شطرين خلق منها الكون، إذ جعل من نصفها الأعلى السماء، ومن نصفها الأسفل خلق الأرض، وعين للآلهة العظام وعلى رأسهم " أنو " و " إنليل " و " أيا " الأجزاء التي يحكمونها من الكون. ولما تم ذلك لـ " مردوخ " ارتأى أن يوجد مخلوق سمي  بالإنسان (من أجل أن يخدم الآلهة..... وفرض عليهم " أيا " على هذا الإنسان خدمة الآلهة ليريحها من العناء والتعب.
وفي أسطورة أخرى قالت الإلهة الخالفة " نتو ":
" إلي يرجع صنع كل شيء لائق متقن، فليكن الإنسان، ليكن من الطين، ولتدب فيه الحياة بالدم ".
فخاطب الإله " أيا " الآلهة العظام:
" ليضح أحد الآلهة، ولتمزج الآلهة ننخرساك الطين بدمه، فتمتزج الآلهة بالإنسان ".
وتقول أسطورة أخرى:
" في البدء لم يكن موجوداً أي كائن، فلا بيوت مقدسة» للآلهة، ولا أحراش قصب وأشجار، ولم تصنع آجرة، ولم يبن بيت ولم تشيد مدينة، فلم تكن " نفرا... ولم تؤسس «أوروك .... ولم تقم " أريدو ". كانت الأرض اليابسة بحراً، ثم شيدت أريدو... وشيدت بابل من جانب مردوخ... وخلق (الإله مردوخ) البشر لكي يريح الآلهة في معابدها، وخلق الحيوانات وجميع الأحياء في البرية، وخلق دجلة والفرات ودعاهما باسميهما، وأوجد الحشائش وأحراش الأهوار وغابات الشجر..... وحول الأهوار أرضاً "يابسة".
 

             شكل (1) حمورابي أشهر ملوك بابل وأول من وضع القانون في تاريخ البشرية
 
حمورابي حكم بابل بين عامي 1792 – 1750 ق.م حسب التأريخ المتوسط وهو من الكلدانيين، كانت بلاد الرافدين دويلات منقسمة تتنازع السلطة، فوحدها مكوناً إمبراطورية ضمت كل العراق والمدن القريبة من بلاد الشام حتى سواحل البحر المتوسط وبلاد عيلام ومناطق أخرى، وكان حمورابي شخصية عسكرية لها القدرة الإدارية والتنظيمية والعسكرية . ومسلته الشهيرة المنحوتة من حجر الديوريت الأسود والمحفوظة الآن في متحف اللوفر بیاریس، تعتبر من أقدم وأشمل القوانين في وادي الرافدين بل والعالم. وتحتوي مسلة حمورابي على 282 مادة تعالج مختلف شؤون الحياة. فيها تنظيم لكل مجالات الحياة وعلى جانب كبير من الدقة لواجبات الأفراد وحقوقهم في المجتمع، كل حسب وظيفته ومسؤوليته بعد وفاة حمورابي تولى الحكم خمسة ملوك آخرهم " سمسو ديتانا " الذي هاجم البلاد زمنه في عام 1594 ق.م واحتلوها، وخربوا العاصمة ونهبوا كنوزها بعدها رجعوا إلى جبال طوروس.
_____________
 
(*) الفلسفة البابلية: مدرسة فكرية في علم الدين والدراسات الأشورية تقول إن الكتاب العبري والدين اليهودي اشتها مباشرة من الحضارة البابلية والميثولوجيا البابلية ظهرت هذه المدرسة في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وزادت شعبيتها في القرن العشرين الميلادي، ودعمها خاصة الفرد يرمياز، ما تزال الحركة مهمة في الدراسات الميثولوجية بسبب التشابهات الواضحة في ميثولوجيا متعددة الآلهة القديمة وقصص الكتاب المقدس الحدث نسبيا.
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.