مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

حمّى الأفانين الجنسية في الرواية العربية - نبيل سليمان


 تميزت الصورة الروائية العربية للحياة الجنسية غالبًا بالندرة، واللغة المواربة، والهامشية، والغلالة الرومانسية، وذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى أن بدأت أنسام الحداثة تلفح الرواية، وتخلخل تلك الصورة. وسرعان ما بدا كأن الرواية العربية تعوّض ما فاتها من حضور الجسد الأنثوي بخاصة، بما يعني ذلك من الشهوية في الوصف، والعلاقات، واللغة، والتفاعل مع التراث الإيروتيكي العربي، وتصاعد التذويت، والسيرية الروائية والرواية السيرية، وتحدي التابو الاجتماعي والديني، كلما تعلق الأمر بالجسد وبالجنس والجنسانية، كما في روايات شتى، لليلى بعلبكي، وكوليت خوري، وجورجيت حنوش، وسهيل إدريس، ومن بعد لحيدر حيدر، وهاني الراهب، وحنا مينه، وإدوار الخراط، ورشيد بو جدرة، ونوال السعداوي.
لكن اللافت أن عناية النقد بهذه المدونة التي جعلت الحديث عن الإيروتيكا في الرواية العربية ممكنًا، بل وضروريًا، ظلت عناية محدودة. وهنا تسرع الإشارة إلى الكتاب الرائد لغالي شكري (أزمة الجنس في القصة العربية ـ 1971). وبعد نثار نقدي خلال أكثر من أربعين سنة تذهب الإشارة إلى كتابي الكبير الداديسي (أزمة الجنس في الرواية العربية بنون النسوة ـ 2017)، وداود سلمان الشويلي (قضية الجنس في الرواية العراقية ـ2 018). ويلاحظ في النقود المتأخرة أنها تتعلق بـ(الجنس)، مثل كتاب غالي شكري. ولكن في زمن ذلك الكتاب لم يكن الحديث قد استوى بعد عن الجنسانية التي لا تقف عند البيولوجي كما هو مقتضى (الجنس)، بل تمضي من البيولوجي إلى المشاعر والسلوكيات والأفكار والأخيلة والهويات، وهذا هو بالضبط ما في الروايات والإيروتيكا الروائية، بخلاف البورنوغرافيا.
في العقدين الماضيين من هذا القرن، وفي غمرة الطوفان الروائي، أخذت الجنسانية تحضر، وبقوة غالبًا، وغالبًا في ما تقدم الأصوات الجديدة، شبابيةً. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الأمر بدا كأن لوثة بعض الجوائز، ولوثة بعض الترجمة، قد أصابتا نسبة غير قليلة من الإنتاج الروائي، وبالطبع بدرجات متفاوتة. أما الأسباب فلا تنحصر فيما صار يعشي من بعض الجوائز، ومن وهم الترجمة إلى اللغات الأخرى، ووهم الحداثة وما بعدها. ذلك أن ما تتلاطم فيه المجتمعات العربية من أزمات روحية وثقافية وسياسية واقتصادية وفكرية، بالغة التواشج بما هو عليه العالم من أزمات.

1 ـ المحارم
وأبدأ مع رواية (حكاية مجنون ـ 2000) ليحيى إبراهيم (مصر)، التي يسرد فيها الراوي الشاب سامي لُمَعًا من حياته تتتوّج بهزيمة 1967، فيستذكر من طفولته مداعبة مدرس الرسم له، ومن مراهقته يستذكر مصادفته لرجل يتحرش به في السينما، وممارسته الجنسية الأولى مع عاهرة، وصداقته مع شاب مثلي. أما الأهم فهو اكتشافه فجأة أن شقيقته نادية صارت صبية يبهره جمالها، فبدأ ينشغل بها وحدها. وبعد التحاقه بالجيش، يحضر في إجازة، ويتبادل مع نادية اللمسات، فالقبل، إلى أن يستعيدا عصر الفراعنة بينما تنشب الحرب. وقد كتب الشاعر والمترجم المصري الراحل رفعت سلام (1958 ـ 2020) عن هذه الرواية: "عمل مفاجئ، مدهش، يخترق مناطق لم يطأها قلم في الكتابة العربية يعريها ويهتك حرماتها الزائفة، بلا شعارات، أو لافتات. كتابة مضادة للتواطؤ الضمني الصامت، مضادة للرعب من مواجهة الذات والعالم".
وفي رواية "يصحو الحرير" (2003) لأمين الزاوي (الجزائر) تقوم شبهة المثلية بين البطلة حروف الزين وشقيقتها التي تطالبها بأن تظلا ملتصقتين في الحياة، بل وعلى فراش زوجها، كما كانتا في الرحم. والأهم هو أن حروف الزين بعد وفاة أمها تُفتن بأبيها متوهمة أنه يرى فيها صورة أمها، وأنه يبادلها العشق، وهي متيقنة من أنها وحدها يمكن أن تحل محل أمها، وأن الأب وحده من سيسعدها بحماقاته وعصبيته وانهزامه وطفوليته. وإلى ذلك تضيف حروف الزين (التلصص) على شقيقتها وزوجها، وعلى الجار في العمارة سليم مع الكلبة.




تتمحور رواية "عندما تشيخ الذئاب" (2008) للكاتب الأردني الراحل جمال ناجي (1954 ـ 2018) حول سندس العشرينية، مطلقة صبري، التي تتزوج من الوجيه رباح بعد ترمله. وبعد شهور تبدأ بغواية عزمي ابن زوجها، فيقاوم إلى حين، تكون قد أقامت فيه علاقة مع الشيخ عبد الحميد الجنزير. وقد ثارت شكوك الأب بابنه وبزوجته، وغادر عزمي البيت، لكن سندس لحقت به بعد وفاة أبيه، فاستجاب لها، وبلغ بها الأمر أن أخذت تلح عليه بالزواج.
من أمثلة زنا المحارم روائيًا، أيضًا، هي ذي "الرواية الملعونة" للكاتبة السورية الراحلة أمل الجراح (1945 ـ 2004). كانت هذه الرواية قد حازت على جائزة مجلة "الحسناء" عام 1967، تحت عنوان "خذني بين ذراعيك"، لكنها لم تنشر إلا عام 2017 تحت عنوان "الرواية الملعونة". في الرواية، تعشق حنان أباها بعد موت أمها، وتمضي في إخفاء آثار الأم، ولا توفر حيلة إلى أن يكون لها ما تشتهي. ومن أهون ما نقرأ: "سيدي أنت وحبيبي، زوجي وعشيقي وأبي، خلقت لك، وصرت منك وإليك".

2 ـ المثلية
ثمة روايات ظهرت فيها المثلية الذكورية منذ عشرات السنين عبر شخصية روائية محورية، كما في الرواية الرائدة "الخندق الغميق" (1958) للكاتب اللبناني سهيل إدريس (1925 ـ 2008)، أو في رواية غادة السمان "بيروت 75" من سورية، وقد صدرت عام 1976، وروايتها "ليلة المليار" (1986). وكذلك في رواية "عمارة يعقوبيان" (2002) لعلاء الأسواني من مصر. ومن الغمر الروائي التالي تواترت ـ هل أقول تدافرت؟ ـ الروايات التي تسيدت فيها المثلية النسائية، لذلك سيكون للحديث عنها مقام آخر. أما الروايات التي تسيدت فيها المثلية الذكورية، فمن غمرها ـ وهو الأدنى من غمر نظيراتها ـ رواية "في غرفة العنكبوت" (2017) لمحمد عبد النبي من مصر، التي استعاضت عما شغل غيرها من تصوير الفعل الجنسي بالغوص في أعماق المثلي، حيث العشق، والصد، والقبلة، واحتقار الذات، والهرب إلى المخدرات والكحول، والتخفي، والخارج المرعب.



وفي رواية "سرير بقلاوة الحزين" (2012) لنبيل الملحم من سورية يتفاعل بحرارة الجذر الجسدي والروحي للمثلية الذكورية مع الجذر السياسي الاجتماعي، وذلك عبر علاقة العسكري رباب في السجن الصحراوي السوري (تدمر) الشهير مع رئيسة العقيد صلاح. وقد مارس العقيد أفانين التعذيب الجنسي، كما في أمر الدكتور الشاعر نزار بممارسته العادة السرية أمام الجنود، أو الاعتداء الجنسي لعسكري على الدكتور. والعقيد هو الذكر الوحيد بين ثماني أخوات، كانت المرأة كائنًا مجهولًا عنده. وسوف تكشف له المجهول ملكة العاهرات (بقلاوة) التي يسير خلف مؤخرتها طابور من أصحاب القرار الوطني بحسب السخرية الروائية الكاوية. أما علاقة العقيد بحارسه رباب فقد بلغت القيادة، فهجره خوفًا، ولكن إلى حين. وفي ذلك الزمن الممتد منذ نشوب الصراع المسلح بين الإخوان المسلمين والسلطة في سورية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حمل صلاح رتبة اللواء وأحيل إلى التقاعد، وكان ما عرف بالربيع العربي، حيث عاد اللواء المتقاعد إلى قريته مع حارسه رباب الذي فقد رغباته، وزهد في استعراض جسده أمام معلمه.
في رواية "طريق الغرام" (2013) لربيعة ريحان من المغرب، تزوجت فوزية من سمير، وبعد حين من (العسل) اكتشفت في قعر خزائنه ملابس جنسية وحليًا مما للمثليين. وبعد إنكار، اعترف متبجحًا، لكن فوزية تتساءل لماذا لم يختر عاهرة مثله، فالمثلي عندها عاهر إذًا. وقد اكتشفت أنه حين كان يلاطفها ويحضنها، ربما كان يستقي ذلك من حركات رجال يفعلون الشيء نفسه معه.
أما رواية "الحياة الثانية لقسطنطين كافافيس" لطارق إمام من مصر فقد اختارت شخصية الشاعر اليوناني الإسكندراني الشهير في رحلته الأخيرة من أثينا إلى الإسكندرية مع الشاعر اليوناني الشاب سينجو بولس، عشيق كافافيس في سنواته السبع الأخيرة. وتعود الرواية إلى عهد كافافيس في الإسكندرية، عندما كان يلتقط عشاقه من صِبْية المقاهي وعمال الورش، ويدفع لهم لقاء الصحبة الجنسية.




توثق رواية "إيثاكا" (2015) لرؤوف مسعد من مصر لحادثة ملهى (كوين بوت) الشهير عام 2001، عندما أطبقت الأجهزة الأمنية على المثليين الذين كانوا في الملهى على متن باخرة، وترامت التهم بين الاحتفال بزواج شابين والانتماء لجماعة عبدة الشيطان وممارسة الفجور.

3 ـ الأفانين جميعًا
إذا كانت رواية ما قد شُغِلت بعنصر واحد، كالمثلية، أو زنا المحارم، فمن الروايات ما شُغل بعناصر جمّة، مثل رواية "سلالم النهار" (2012) لفوزية شويش السالم من الكويت. فمن قاع المجتمع، حيث فئة الـ(بدون) في الكويت، تخرج فهدة، التي ترقص مع من يحترفن هزّ المؤخرات أمام علية القوم. وفي اللحظة الروائية الحاسمة تتزوج فهدة سرًا من ضاري، لأنه من تلك العلية، ويجوب الزوجان آفاق العالم والمتع الجسدية، إلى أن يبلغ ذلك ذروته في باريس، فلا يفوت الزوجان ـ وبطلب من ضاري دومًا ـ واحدًا من أفانين الجنس، إلى أن يقضي الرجل وهو يعتلي فهدة التي شعرت بإنسانيتها فقط في باريس، ثم تابت بعد تلك الميتة.
تتصدر هذه الفئة من الروايات (المشهدية الجامعة) رواية "اسمه الغرام" (2009) لعلوية صبح من لبنان. ففي مستوى فني رفيع جاء بناء الشخصيات النسائية، وبخاصة ما تعلق بالجنس والجسد وبأزمة منتصف العمر. وتنهض بالعبء الأكبر شخصية نهلة الكاتبة والشاعرة المتزوجة، منذ كانت تمارس العادة السرية إلى زمن الجامعة وعلاقتها مع عزيزة الخجولة الجاهلة جنسيًا، والتي صار لها قاموسها الذي يتسع لمعاجم الجنس جميعًا، ولم تجد وفيًا لجسدها إلا إصبعها الذي يساوي الدنيا عندها، ويغنيها عن الرجال، كما تقول لنهلة. ومن المثلية تقدم الرواية علاقة المدرسة لبنى بنادين التي (تحررت) من التجربة، ومارست الجنس مع رفاق النضال الذين أقنعوها بأن تحرر المرأة يبدأ بالحرية الجنسية. تلي ذلك علاقة نادين مع الدكتورة سحر، التي تتخلى عنها سريعًا "أنت نزوة بحياتي" كرمى لصديقتها. وتتعدد علاقات نادين، من ثريا أول من قادها إلى المثلية، إلى ميرنا التي أسلمت وتزوجت ممن تحب، وإلى ذلك كانت تحب شعيرات جسم نادين.



ومن لبنان، أيضًا، أشير إلى رواية "باء مثل بيت.. بيروت" (1997) لإيمان يونس حميدان، وإلى رواية "إنجيل آدم" (2006) لمحمد علاء الدين من مصر، حيث تتدافر علاقات الميكانيكي والصِبية، والمتأله وشقيقته، المثلية الأربعينية و... لكأن الفوضى الجنسية تشتبك بالبدائية بالشبقية التي كان لها مشاهد مميزة وبديعة في الرواية.
لئن ظلت الإيروتيكية العلامة الأكبر ـ مع التفاوت والفروق ـ لأغلب ما مرّ ذكره من الروايات، فقد مضت بعض الروايات إلى البورنوغرافيا، كما في رواية "انتصاب أسود" لأيمن الدبوسي من تونس، أو رواية "انسي السيارة" لرشيد الضعيف من لبنان، وكذلك روايته "تصطفل ميريل ستريب" للضعيف نفسه.
في المقابل، لكثير من الكتاب والكاتبات روايات أخرى كانت للحياة الجنسية فيها صورة أخرى، من قبيل ما يوصف بالطبيعية، وليس بأي من الصور السابقة التي توصف بأنها غير الطبيعية، من روايات إدوار الخراط، والطيب صالح، وهاني الراهب، وجمال الغيطاني، وسحر خليفة، ومحمد برادة، وغالب هلسا، وآخرين ربما كان منهم كاتب هذه السطور، وهو ما تواصل من بعد في روايات خليل صويلح، وممدوح عزام، وخالد خليفة، وخليل النعيمي، ويعرب العيسى، وشعيب حليفي، وشكري المبخوت، وآمال مختار.

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.