مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

المرأة والتاريخ - ايمان عمارة

 


المرأة الغائبة في التاريخ
يظل غياب المرأة عن الفضاء العام هو القاعدة في العديد من المجتمعات لغاية يومنا هذا. أكثر من مجرد غياب فيزيائي، تخفّيها تحت طبقات من الملابس، خطواتها العجلة، صوتها المنخفض وضحكاتها المكتومة، رأسها المطأطأة، ضمان للإستقرار العام والهدوء.
جسد المرأة يهيج المخاوف والشهوات، يجب إذا حجبه عن الأنظار. صوت المرأة مثير، يشبه مزامير الشيطان ونداءات الحوريات الغاويات. إسم المرأة لا يذكر إلا مقترناً برجل أو بإنجاز حتى يكون وجوده شرعياً على صفحات التاريخ.
النساء، كمكوّن إجتماعي، نادراً ما يذكر منفرداً ويقترن بالأطفال: “النساء والأطفال أولاً”، “لا تقتلوا النساء والأطفال”. عندما وصل Lévi-Strauss لقرية رحل رجالها للصيد كتب : “لم يكن هناك أحد. فقط النساء والأطفال”.
النساء لسن أحداً. عندما تذكر النساء كمجموعة فغالباً ما يكون ذلك لتنميطها والتعامل معها كمجموعة متجانسة.
التاريخ أيضاً صامت بخصوص المرأة. وصلنا عدد قليل جداً من آثار النساء وصدى حيواتهن اليومية. التاريخ الرسمي لا يهتم بالمرأة إلا بمقدار تفرّدها وتميّزها. بالإضافة لذلك، لفترة طويلة من تاريخ البشرية، لم تحصل النساء على العلم الكافي للكتابة مثلاً حيث كانت حكراً للرجال، لم تمتلك غالبيتهن الوقت لذلك لإنشغالهن داخل وخارج البيت وبالأطفال. لم تدوّن النساء يومياتهن لأن الرجل زرع في رؤوسهن قناعة أن حياتهن وما يحصل فيها لا أهمية له، هن مجرد نساء بعيدات عن الحياة العامة ولا يؤثرن في مجرى التاريخ. لكن، ربما فكرت بعضهن في ذلك فعلاً وتراجعن بسبب الخوف من كشف عوالمهن الخفية في مجتمعات تنظر لهن دائماً بعين الريبة والشك.
في المقابل، هناك وفرة لا مثيل لها بخصوص تصوير وتصوّر المرأة عبر التاريخ. تحدث الرجال كثيراً عن المرأة وماهيتها وما الذي يجب أن تكون عليه أو تقوم به. رجال الدين، الفلاسفة، الأطباء، النحاتون، الرسامون، كلهم تناولوا جسد المرأة وروحها من كل الزوايا. لكنهم نادراً ما أوصلوا صوتها أو نظرتها هي لنفسها.
نحن غارقون في صور النساء في كل مكان منذ فجر التاريخ: الرسومات الجدارية، اللوحات، التماثيل، الإعلانات، كلها تعتمد على صورة للمرأة من خلال نظرة الرجل وفرشاته وعدسته ومعاييره. لكن من يخبرنا كيف كانت المرأة ترى صورها هذه؟ ما الذي كانت تفكر به موديلات عصر النهضة مثلاً؟ هل كن راضيات عن إنعكاسهن؟ هل هذا الإنعكاس حقيقي أم مجرد تمثيل لما يريده الرجل؟
خصلات الفتنة
عند الحديث عن شكل المرأة وجمالها، فإن الشعر له وجوده الخاص وشبه المستقل. شعر المرأة يجب أن يكون طويلاً وكثيفاً، يفضل أن يكون ناعماً أو متموجاً، لكن في حدود المعقول حتى لا يذكرنا بالإنسان البدائي الذي يترك شعره يطول دون تهذيب أو تشذيب. في نفس الوقت، كان البعض يرى أن طول شعر المرأة ماهو إلا دليل على طبيعتها المتوحشة القريبة من الحيوان، لذا وجب ترويضها. الشعر الطويل الكثيف في المسيحية البدائية كان رمزاً للمرأة الآثمة: مريم المجدلية جففت قدمي المسيح بشعرها وصورها عصر النهضة بشعرها المسترسل، عكس صورة مريم العذراء، حتى بعد أن أصبحت قديسة.
في التراث الأوروبي، كان العشاق يهدون بعضهم بعضاً خصلات من شعورهم يحتفظون بها داخل علبة مخملية أو داخل رصيعة. في قصة قصيرة عنوانها la chevelure, يحكي Guy de Maupassant عن رجل يفقد عقله بعد أن هام عشقاً بخصلة شعر وجدها في قطعة أثاث قديمة. الأمهات أيضاً كن يحتفظن بأول خصلات أطفالهن.
في التراث العربي، تصفف الفتاة شعرها على هيئة ضفيرة أو أكثر. لا تفرد المرأة شعرها إلا بعد دخولها على الزوج المنتظر. من هنا ربما أتت عبارات مثل “دايرة على حل شعرها” بمعنى ترافق الرجال وتحل ضفائرها كناية على ممارستها الجنس معهم. في الجزائر، صباح ليلة الزفاف، تقص العروس شعرها حتى يسهل عليها غسله أثناء الوضوء الأكبر بعد كل علاقة جنسية مع زوجها.
لمعاقبة المرأة، يتم حلق شعرها. رمزياً، تُحرم من أنوثتها المتمثلة في شعرها الطويل. حلق الشعر إهانة أيضاً تستخدم ضد الأسرى وضد المساجين. حلق الشعر يرمز للتطهير من الذنوب والخضوع، يحلق الرهبان شعورهم عند دخولهم الدير. في فرنسا، عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، عوقبت عشيقات وزوجات الجنود والضباط الألمان من الفرنسيات بحلق شعورهن في الساحات العامة.
شعر المرأة فتنة وغواية لذا يجب تغطيته جزئيًا أو كليًا وتصفيفه بعناية في الفضاء العام حتى لا يثير الرجال. غطاء الرأس دليل على حشمة المرأة وتواضعها وعلى أنها محترمة. في أوروبا، لغاية منتصف القرن العشرين تقريباً، كانت المرأة لا تخرج دون قبعة ولا شعرها غير ملموم. عبارة “une femme en cheveux” في اللغة الفرنسية تعني أنها دون قبعة أو شعرها غير مصفف على هيئة شينيون أو صغيرة وكانت تشير للنساء الغير جديرات بالاحترام. لغاية اليوم، بعض الكنائس تمنع دخول النساء دون غطاء رأس.
غطاء الرأس كان ولا يزال منتشراً على ضفاف حوض المتوسط لكنه لم يكتسب صفته الإجبارية إلا مع ظهور المسيحية. عند الاغريق والرومان، كان غطاء الرأس مستحباً خاصة لنساء الطبقة الغنية وأيضاً لحضور طقوس دينية معينة وفي هذه الحالة كان يفرض على الجنسين للدخول إلى قدس الأقداس مثلاً داخل المعابد. بداية فرض غطاء الرأس دينياً كانت مع القديس بول الذي طالب به المرأة المتزوجة عند خروجها من بيتها وإلا عوقبت بحلق شعرها تماماً إن هي أظهرته لرجال عدا زوجها. في المسيحية، المرأة ملك لرجلها وغطاء الرأس رمز لسلطته عليها التي يجب أن تكون ظاهرة للجميع. تدريجياً أصبح الغطاء رمزاً للشرف والعفة. طرحة العروس تجد جذورها في هذا المفهوم حيث يسمح فقط للزوج بإزاحته تماماً كما يسمح له هو فقط بامتلاك جسد زوجته. الراهبات يلبسن غطاء رأس محكم كرمز لعذريتهن ولمنحهن أجسادهن للمسيح. قبل ذلك، من ضمن طقوس الدخول في حالة الرهبنة وترك العالم، يحلقن شعورهن تماماً ويتخلين بذلك عن أنوثتهن ويمنحنها للرب كقربان.
بداية قص النساء شعورهن في أوروبا، كفعل تمرد على المجتمع ومعاييره، كان مع قيام الطالبات الروسيات بذلك في أواخر القرن التاسع عشر عند إنضمامهن للحركات الشيوعية، ثم انتشر في باقي دول أوروبا في أوساط المثقفات والفنانات.
في المقابل، شعر الرجل يحبذ أن يكون قصيراً، لا يعيقه في حركته وأشغاله ولا في الحروب. ومثلما رأت المسيحية أن شعر المرأة يجب أن يكون طويلاً حتى يغطي جسدها إن تخلت عن ملابسها، فإن الرجل لا يجب في أي حال من الأحوال أن يتشبه بالنساء ويطيل شعره. لكن الرجل يملك لحية كرمز للرجولة والفحولة. اللحية ترمز أيضاً للحكمة والأبوة والتاريخ. الرجل أقدم من المرأة وجوداً لأن الله خلقه قبلها، لذا لحيته طويلة. ورد عن قديسات مسيحيات أنهن يطلبن من الله في صلواتهن الحصول على لحية كي يحتفظن بعذريتهن. الحصول على اللحية هنا يرمز الإنتقال للجنس الآخر.
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.