مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

كعب أخيل أم حريم النقاد؟ ميسلون هادي

 


 
                                  
 وأنا أقرأ مقالة الناقد الدكتور محمد صابر عبيد المعنونة (كعب أخيل: عاصفة الرواية النسوية والمعركة الخاسرة)، والمنشورة بجريدة الدستور الأردنية يوم 21-12-2012، شعرت بأن الناقد الدكتور عبيد يمتشق أدواته النقدية ويستنفر همته اللغوية من أجل أن يبخس الرواية النسوية حقها، وهو لم يفعل ذلك بطريقة خفية تستلزم الكشف عن المسكوت عنه، أو قراءة ما بين السطور، ولكنه يهاجم بطريقة صريحة تريد إخلاء الساحة من اللاعبات (بالغلط) وإعادة الملعب لأهله من اللاعبين الذكور متمنياً في نهاية المطاف انطلاق “السهم المقصود، الذي سيأتيها من الأخ الشقيق ويصيبها في مقتل، وينهي أسطورتها، ويكنس مخلفاتها الهائلة، لتقبع أخيراً في مكبّات فضلات السردية العربية الحديثة.”
وقد رأى أن يقوم بذلك (النفي) من خلال كلمة حق أراد بها باطلاً، وذلك عبر تشخيصه الدقيق لانشغال بعض الروايات النسوية بالجانب الإيروتيكي من الأنوثة ومغازلة القارئ (المكبوت) بنصوص جريئة تجعل هذه الجوانب الحساسة من الحياة مطروحة بشكل مستفز من أجل تعطيل جسد الرجل وتحويله إلى آلة تشتغل بامرة الخيال الإيروسي الأنثوي الضاغط في الرواية على حد تعبيره. وبالتأكيد إن وجهة نظر متحفظة على الجانب الإيروتيكي في المشهد الروائي النسوي، عندما تأتي بصوت ناقد رجل، فإنها تغاير المألوف من دعوات الكثير من النقاد والمثقفين التقدميين الذين يعانون من ازدواجية رهيبة في الفكر والسلوك، فهم يرفعون شعارات تحرير المرأة ويواصلون إقحامها ضمن أولويات تمردهم وتقدميتهم من جهة، ومن جهة أخرى يتلصصون على كتابات المرأة من ثقب الباب.
من هنا نقول: إن رفض الناقد لهذا النسق في الكتابة النسوية هي وجهة نظر لا تجانب الصواب خصوصاً عندما يحيل هذه النوع من الروايات إلى ثقافة الجرأة المقصودة للشهرة والنجومية أو ما يسميه الدكتور عبيد بالتسويق السياحي. ولكنه يعمم بطريقة ماحقة، مع الأسف، ويخلط الأوراق ببعضها البعض، فيعتبر ثورة السرد النسوية برمتها أسيرة هذه النظرة الأحادية القاصرة، بل رهينة حساسية مريضة تتغذى على نفسها، مشككاً بنوايا الاهتمام بهذه الثورة، ومتسائلاً عن علاقتها بمنجزات العولمة، لاغياً العلاقة الطردية بين متغيرات المجتمعات العربية وبين استجابة المبدعات لهذه المتغيرات وما رافقها من تفريعات متعددة أهمها أن المرأة العربية قد عانت ماعانت من قمع المجتمع والرجل، وقد فتح لها عالم السرد منفذاً لتكون ملكة على منصتها تتحدث فينصت لها الرجل الذي لا يؤمن بجدارتها ولا يعتبرها نداً له في أي شيء. وهذا، مع الأسف، هو ما تماهى معه الناقد محمد صابر عبيد، عندما قام بتبني هذه النظرة الذكورية السائدة تجاه المرأة وتعميمها على ماتكتبه من روايات عبر وصفه للخطاب الروائي النسوي بأنه:
“خطاب ثقافي وأيديولوجي في آن واحد، يعمل على إنتاج لغة سردية مضادّة ضعيفة الإنتاج والصيرورة والتقدّم والنضج، لأنه يسير في نسق خطي واحد، ويخضع لمقولة سردية واحدة، وله وجهة واحدة غير متعددة، على النحو الذي ينتج في هذا الإطار حساسية شبه مريضة تتغذّى على نفسها”.
وما ذهب إليه الناقد، في هذه الفقرة، صحيح مئة بالمئة، ولكن على شرط رفع تاريخ المقالة من العام 2012 واستبدالها بالعام 1962 أو العام 1972، حيث كانت الكتابات النسوية في القرن الماضي من الزمان محكومة فعلاً بتلك النظرة المقتصرة على الصوت الواحد والبوح المتواصل بعذابات الذات. وبما أن ذات المرأة منكسرة ومجروحة أكثر من ذات الرجل، فقد كانت تأتي تلك الكتابات منكسرة ومريضة وتتغذى على نفسها فعلاً. ولكن الروائية العربية تتغير وتتطور، وتكتسب مهارات وخبرات احترافية فذة وتقوم بتحديث أدواتها الفنية والمعرفية باستمرار، حتى بات هذا المشهد النسوي المحتفَى به (والذي يشكك الناقد فيه بمجمله)، ينبذ تلك الروايات التي تنتمي إلى الخانة التي أدانها الناقد، كما أن الروايات المنكتبة بهذا الشكل الإنشائي أو الذاتي البحت، قد تكون حظيت بالاحتفاء الجماهيري، إلى حد ما، ولكنها لم تحظ بالاحتفاء النقدي الجاد، لا في مجتمعاتها المحافظة ولا خارجها. وليس هكذا يعمم ناقد مهم كالدكتور عبيد حكماً مستبداً على ظاهرة شكلت ثورة في مجال السرد، مستثنياً منها اسمين كبيرين في الرواية النسوية لذر الرماد في العيون، ومتجاهلاً أعداد الكاتبات اللواتي عبرن عن هواجس النساء الحقيقية وهموم الوطن ومشاكل المجتمع وتحركن خارج حدود السيطرة الذكورية للقارئ بمعناها السالب. وقد انهمكت بتفعيل هذه النظرة الجدية التي أفلتت من قبضة الذات المنكسرة ووقفت على مسافة مناسبة من الموضوع، أسماء روائية بارزة، نذكر منها، بالإضافة إلى لطفية الدليمي وغادة السمان، هدى بركات وفوزية رشيد وأميمة خميس وبدرية البشر وزينب حفني وفاطمة المزروعي وفاطمة العلي وجوخة الحارثي وسميحة خريس وسلوى الجراح ورضوى عاشور ورجاء العالم وسحر خليفة وهيفاء البيطار وسميرة المانع وليلى الأطرش وسلوى بكر وأميلي نصر الله وأهداف سويف وليلى العثمان وابتسام عبد الله وهدية حسين وعالية ممدوح وأحلام مستغانمي؛ ما يجعلنا نعتقد أن إغفال الناقد لهذا الجانب المضيء من التجارب النسوية لا ينقل لنا رأي الناقد والمتابع الموضوعي، وإنما يلخص لنا نسقاً فكرياً ذكورياً أقل ما يمكن وصفه بأنه يزدري عقل النساء وإبداع النساء وكتابات النساء..
أطواق الشك والريبة
قبل الوصول إلى حكمه الأخير، يمر الناقد، في تلك المقالة، أولاً على أبجديات كتابة الرواية والتي يحددها بفن الموهبة وفن الوعي وفن التجربة وفن الخبرة وضروة توفر كل هذه (الفنون) على النحو الذي يتحوّل فيه الكاتب إلى روائي محترف. بعد ذلك يتحدث عن الوقت الذي تحتاجه الرواية كي تولد من رحم كل هذه الفنون، مستعرضاً تجارب كاتبين عالميين هما ماركيز الذي انجز (مئة عام من العزلة) في خمسة عشر عاما، ونجيب محفوظ الذي كرّس حياته الطويلة لخدمة الرواية وكأنه خُلق ليكتب الرواية فقط، ثم يحمل الناقد بشدة على من يخرقون هذه القاعدة ويدّعون أنهم يستطيعون كتابة رواية في أسبوع أو شهر أو شهرين كما يفعل الكثير من كتّاب الرواية ممن لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين، على حد وصفه. ولكنه يخلط الجد بالهزل عندما يقول:
“إنّ الرواية على هذا المستوى أضحت اليوم أشبه بالأغنية التي تعتمد على ضربة الحظ لتنقل صاحبها من الخطوط الخلفية المهملة الهامشية إلى الصدارة والواجهة، ولم تعد المسألة بحاجة إلى سنوات مضنية، وموهبة كبيرة، وكدّ ذهني عالٍ، ومعرفة عميقة، وخيال واسع ونشيط وخلاّق، لكتابة رواية، إذ يمكن لأي راغب في تعلّم كتابة الرواية أن يطّلع على كتاب (كيف تتعلّم كتابة الرواية في خمسة أيام بدون معلّم) من أجل أن يتقن اللعبة، لأننا سبق أن تعلمنا كلّ لغات العالم بهذه الطريقة عبر كتب الجيب الصغيرة التي كانت تعلّمنا هذه اللغات في خمسة أيام”.
إن تشخيص الناقد المهم حول استثمار الشحنة الإيروتيكية في الرواية النسوية لمآرب أخرى، لم يكن يستدعي هذا التهكم على المشروع الروائي الذي كرست الكثير من الكاتبات له العمر والجهد والمعرفة، ولا التقليل من شأن جائزة بوكر العربية أو إثارة سؤال التشكيك بلجان تحكيم هذه الجائزة. فبالرغم من كل المآخذ عليها هي لا تضع (كوتا) للمرأة العربية كما يعتقد الناقد، ومن الظلم الذهاب بإثارة مثل هذا التشكيك لأهلية الكاتبة العربية عبر هذه الفرضية وفرضية أخرى تفرض طوقاً آخر من الريبة وتقليل الشأن، يلغي من خلالها امكانية كتابة الرجل لرواية من طراز رفيع فكيف يمكن أن تفعل ذلك (المرأة) في ظل المناخ القمعي للمجتمعات العربية الدكتاتورية والإتهام الدائم بأن هناك من يكتب لها:
“فكيف يمكن أن ننتظر رواية من هذا الطراز تكتبها المرأة، في ظلّ مناخ قد لا يسمح كثيراً للرجل بمثل هذا الإنجاز المحتمل، وفي ظلّ اتهام دائم بأن وراء كل كاتبة مبدعة رجل يكتب لها، من يكتب للمرأة يا ترى؟ ولماذا؟”
وبدلاً من الخوض في الأبعاد السياسية والاجتماعية لمفهوم النسوية الذي لا يعني جنسنة الكاتب بقدر عنايته بترسيخ حضور المرأة الفاعل داخل اللغة والمجتمع، واستعادة علاقتها المتوازنة والطبيعية مع العالم الذي تعيش فيه، وبدلاً من استحضار الأمثلة المشرقة لكتابات جريئة كانت أذكى من السقوط في فخ الجرأة الفجة المفتعلة المقصودة للإثارة أو للفت الإنتباه، فإن الناقد يبتعد عن ذلك كله ويثير هذه العاصفة الهوجاء من التساؤلات والشكوك مبرهناً على تلك الشكوك والفرضيات، على ما يظن، بكون الرواية النسوية أكثر حضوراً في المجتمعات المحافظة.. “وكأنها ردّ فعل عنيف على قوّة الكبت والحرمان والقهر والتضييق على الحريات، وربما تتصدّر المرأة الروائية هذه الظاهرة في بعض مفاصلها”.
واقع الحال أن الدكتور عبيد لم يكن له أن يستغرب من هذه الظاهرة، لأن تعطش القارئ المقهور لمثل هذا النوع من الكتابات (الجريئة) لا يختلف كثيراً عن تعطش بعض المثقفين ممن ينظرون إلى الكاتبة الجريئة على أنها الكاتبة التي تتناول الجنس في كتاباتها بشكل صريح. وهذه المطالبة، برأينا، لا تأتي أحياناً من باب استكمال شروط الحرية والصدق الفني للكتابة، وإنما من باب الرغبة بالتحديق بالصورة المحظورة أيا كان مصدرها، فكيف إذا كان مصدر المرويات عن هذه المحظورات هي المرأة نفسها، حيث تكشف لهم أسرار وخفايا الحريم؟ وتلك الخفايا هي التي سال لها لعاب المستشرقين الأوائل الذين لم يكونوا بمنأى عن هذه العقدة، بل إن فاطمة المرنيسي تشير، في دراساتها عن هذا الموضوع، إلى ما أصبحت تثيره كلمة (الحريم) لدى الغربيين من معنى حسي خالص يثير الغرائز والشهوات بحيث أصبحت هذه الكلمة مثيرة للحرج.
سؤال وجواب
ولاحقاً ستستفيد الكاتبة أحلام مستغانمي من هذه العقدة فتعنون رواية لاحقة لــــ(ذاكرة الجسد) بـــــ(عابر سرير) دون أن يكون للروايتين علاقة جوهرية بالجنس. تأملوا كيف تأخذ هذه المفردات الحسية، هذا الحيز الصاعق من الاهتمام، وهذا لا يعني بالطبع أن الروايتين لا تستحقان هذا الاهتمام، فقد كتبت مستغانمي ببراعة عن تاريخ بلادها، واخترعت ظاهرة الكاتبة (النجمة) في الأدب النسوي العربي. لكن ما أعنيه هنا هو كيفية مساهمة مفردتين (بسيطتين)، كالجسد والسرير، في ترويج لعملين أدبيين خليا من الإباحية. وقد انتقد الباحث والمترجم الأمريكي المعروف روجر ألن عدداً من الروائيين العرب ممن حققوا شهرة واسعة، مثل علاء الاسواني وأحلام مستغانمي ورجاء الصانع، من ناحية تواضع المستوى الفني لأعمالهم واعتمادها على جانب الاثارة، وقال في حوار منشور على (منبر الحوار والابداع) الأليكتروني: إن عناوين روايات الكاتبة أحلام مستغانمي مثيرة مثل (ذاكرة الجسد، وفوضى الحواس، وعابر سرير)، وتساءل قائلاً: ما معنى هذه العناوين؟
لقد كنا ننتظر من الدكتور عبيد، عندما يتساءل هو الآخر عن غايات مفتعلة ومشبوهة مثل هذه ويأتي برأي مغاير للنظرة النقدية السائدة حول مفهوم الجرأة في الأدب النسوي، أنْ يذهب بهذا الاعتقاد لإعلاء شأن الوجه الإيجابي للسرد النسوي. ونحن إذ نتفق معه في وجهة النظر تلك، فإننا نتساءل بقوة لماذا جاءت هذه التشخيصات لتحرق الأخضر بسعر اليابس، ولتصب في مصلحة هدف واحد يلوي عنق الحقائق وينسف، بجريرة كعب أخيل، جهود عشرات الكاتبات الروائيات العربيات المكافحات من أجل التنوير والترقي داخل مجتمعاتهن الذكورية الظالمة؟ هذا التساؤل، على أية حال، يجيب عنه الناقد نفسه، دون قصد طبعاً، عندما يتحدث عن الدكتاتورية التي تعشّش في ذاكرة وذهنية وحلم كل عربي فيقول قاصدا كل عربي، من الجاهل إلى الفيلسوف ومن الصغير إلى الكبير ومن المعتوه إلى الحكيم:
“ففي داخل كلّ منّا دكتاتور صغير كامن سرعان ما ينفلت من عقاله حين يتلقى أيّ فرصة ممكنة تستجيب لطموحاته في الهيمنة والسيطرة والتسلّط”.
إذن باختصار، فالقصة قصة قديمة، وقلما يكون اعتراف هذا النوع من الأدباء الرجال بكتابات المرأة خارج خانة الأدب النسوي، ولهذا تراهم نادراً ما يقتبسون، أثناء إجراء الحوارات معهم، قولاً لكاتبة عربية، كما هم نادراً ما يستشهدون بها وبإنجازاتها، إذا ما أشاروا للظواهر والأجيال والاتجاهات الأدبية والفكرية في بلدانهم، اللهم إلا إذا ما سُئلوا عن (الأدب النسوي)، فتراهم، في هذه الحالة، يوزعون التحايا والهدايا بالمجان على الكاتبات الشاطرات اللطيفات، أو كما في هذه المرة، الأحكام الظالمة بالمجان.

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.