مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

الشعبي - د. م. أسامه مجدي الشوا

 

جاءني أبو العريف ينتفض غضباً، ويكاد ينفث أنفاسه غصباً، وينظر يميناً وشمالاً ويبصّ، كأنه يبحث عن لصّ، ويفرك بيديه كمن أصابه داء البُرص، ولم أشأ أن أزيد في همّه، فأشحت وحوقلت، وألقيت السمع وصمتّ.

قال أبو العريف والشرر يقدح من عينيه:

"يا بش مهندس ألسنا من يدعوننا (الشعب)، ألسنا من تدّعي حكوماتنا أنها في خدمة الشعب! أليس أساس الدولة هو الشعب؟ فلماذا إذن كلما وصفوا شيئاً ساقطاً وحقيراً، مبتذلاً أو ناقصاً أو فقيراً، وصفوه بأنه شعبيّ؟ فهزّ الأرداف رقص شعبيّ، والفن المبتور فنّ شعبي، والأدب الساقط أدب شعبي، والمطعم القذر مطعم شعبي! حتى أحياؤنا يسمونها أحياء شعبية! وألبستنا المتوارثة أزياء شعبية، وأفراحنا المحدودة فرح شعبي، ومطربنا مطرب شعبي!! وباختصار شديد، كل ما يسمونه شعبي يعني إهانة، رغم استخدامهم كلمات رنانة، وإعلانات طنانة، بأنهم رعاة الشعبية، وحفظة الموروثات الشعبية!

ورغم أن كثيراَ من حكوماتنا خرجت من النظام الملكيّ، وأصبحت تدّعي أنها من الشعب الأبيّ، فإن أي وصف يلحق بها يوصف بأنه ملكيّ، فحفلاتها مستواها ملكيّ، وألبستها طرازها ملكيّ، وسفرتها ملكيّة، حتى ولا مؤاخذة حماماتها ملكيّة!! اللهم لا حسد ولا فراغ عين، بل غضب يكاد يُخرج البؤبؤ من العين!"

وهنا قال المهندس المكلوم له: (يا أبا العريف رفقاً بنا، فنحن في المقهى وكل الناس بيننا، يسمعوننا ويحفظون قولنا، وكثير من الحيطان حولنا، وهي كما تعلم - لها آذان- تسجّل ما نقول، وستنقل كلامنا إلى موظّفٍ مسؤول، فتتيتّم أولادنا، وتترمّل نساؤنا، ونفقد مصدر رزقنا، ونساق إلى غيابة السجن يا ويلاه، فارفق بنا يرحمك الله، واحفظ شكواك وقلها في سرك ونجواك لله).

فانفجر أبو العريف كالمرجل، وسألني سؤالاً مفحماً لا يؤجّل:

هل نحن نقول بهتاناً، ونلقي الكلام على عواهنه أشكالاً وألوانا؟ وهل إذا كُمّمت الأفواه نصبح أفضل؟ أليس لنا عقل يعمل؟ وهل خُلق الإنسان ليصمت ويحلم، وليجلس في البيت كالقرود الثلاثة، لا يسمع، لا يرى، لا يتكلم؟ أنا -صحيح أنني إنسان جاهل- والحكومة تعرف كل شيء، وأنا أمامها لا شيء!، لكن "قد بلغ السيل الزُّبى" وغمر البرية، (وقد سمعت هذا التعبير من صديق خريج مدرسة محو الأمية، فأـنا لي أصدقاء جهابذة ضليعون في فك رموز الأحرف العربية، ويقرؤون لي عناوين الصحف اليومية برويّة)! فكلّ مُهان شعبي، وكل قبيح شعبي، حتى السّكن المخصص لنا شعبي!! مواده رخيصة، بناؤه رخيص أشبه بالقبور، ماؤه آسن، هواؤه فاسد يملأ الصدور، صرفه الصحي يصرف فوق البلاط، فينهار الدهان وما تحته من المُلاط، ويتخلخل البلاط، وتتوالد الحشرات، وتنتشر الأمراض والآفات، وتمتلئ الطرقات الضيقة بماء الصرف، ولا ينفع فيها نحو ولا صرف، فنسير فيها للركبة غارقين، مشمرين ولأحذيتنا حاملين، فإذا رفعنا الشكوى لموظف الحكومة، أجاب وفيه رغبة في شتمنا مكتومة: (لا تنتقدوا الحكومة الأبيّة، فهي تفعل المستحيل بما تسمح به الميزانيّة، وقد تفضلت وبنت لكم هذه المساكن الشعبية، وواجبكم الشكر لا الأنين، فاذهبوا غير مأسوف عليكم يا مساكين).

قال أبو العريف:

(يا بش مهندس، أهذا الوضع كويّس؟ نحن نسكن مع الفئران، ونأكل مع الفئران، ونعاني ضنك العيش في بيوت شعبيةّ، بحجة عدم الإمكانية في الميزانية! بينما حكوماتنا تسكن في قصور ملكية، تستعمل الأدوات الملكية، وتأكل من الموائد الشهية، وتركب السيارات الفارهة الأوتوماتيكية، فأين تجد الحكومة الأبيّة هذه الميزانية؟)

وهنا أدار المهندس المكلوم وجهه عن أبي العريف موارباً، وأسرع مهرولاً في طريقه هارباً، فقد تجمهر الناس حولهما، وبدأوا يتمتمون:

والله صحيح! أين يجدون الميزانية؟

هناك تعليق واحد:

  1. ليس من السهولة كتابة السجع، وخصوصًا عندما تكون الألفاظ خادمة للمعاني كما في مقالتك.
    امين الساطي

    ردحذف

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.