مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

هوامش على دفتر تاريخ الهنود الحمر - الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 



للهنود الحمر عبر التاريخ القصصي القابع في أذهاننا منذ قرون سيرة ذاتية استثنائية من أبرز ملامحها الوحشية والقتل والطباع الفطرية غير المهذبة اجتماعياً ، ورغم ذلك امتلك هؤلاء قدراً من الحكمة التي جعلتهم لفترة في مواجهة المستكشفين لعوالمهم المجهولة ، ومن هذه الحكمة ، حكمة قديمة تقول إنك لو اكتشفت فجأة أنك تركب فرساً ميتاً أو بالأحرى على وشك الموت فإن أفضل طريقة هي أن تنزل عنه بسرعة .
وهذه الفكرة تروق لكثيرين من مدربي التنمية البشرية الذين ملأوا الأرض صخباً وجدالاً ولغطاً نفسياً حتى أصبح بعضهم وليس الكل عبئاً على مجتمع ينهض لأنهم لا يزالوا يفكرون بمنطق القرون الوسطى ويظنون أن التنمية البشرية أشبه بالعلاج النفسي للمريض المزمن وهي ليست كذلك بالطبع ، وهذا منطق معظم المصريين اليوم الذين يفكرون في القفز من على الحصان الذي لم يمت بالفعل بل إنه بحاجة ماسة إلى استخدام استراتيجيات وطرائق متعددة لبث الحيوية فيه وفي الفارس أيضاً الذي يمتطيه.
والبعض يرى أنه من الأفضل استخدام سوط ( كرباج ) سوداني أو صومالي أو قطري أو من أي بلد من أجل إيقاظ هذا الحصان فتكون النتيجة القطعية هلاكه لا نشاطه . والبعض الآخر يظن أن مقارنة هذا الحصان بأحصنة أخرى تبدو ميتة أو ميتة بالفعل هي أفضل وسيلة لقبول الأمر الواقع المرير .
هذه التقدمة كانت كفيلة لرصد بعض التحولات التي حفظها المشهد السياسي في مصر منذ قيام انتفاضة يناير 2011 العشوائية من مخاضها الثوري المتشتت بعض صور للتحول الديموقراطي ، كان أبرزها الظهور الاستثنائي المفاجئ وغير المحظور وغير المقنن أيضاً لجماعة الإخوان المحظورة والمنحلة التي صارت بعد ذلك عبئا على كاهل مصر والمصريين حتى وقتنا الراهن،  فعقب نجاح هذه الانتفاضة العشوائية بحكم قوانين الثورات والاحتجاجات بصورة مؤقتة شاهدنا انتفاء قرار الحظر والمنع والرفض السياسي والمجتمعي لجماعة الإخوان التي كانت محظورة دون أحكام قضائية أو حزبية تبيح الحظر أو فك الحظر .. ومع ذلك قبلنا لأننا نعيش عهد الربيع الثوري ، وهذا الظهور لحقه وأتبعه ظهور خاص لكافة التيارات والتنظيمات والتجمعات الراديكالية الأكثر تطرفا والتي كانت أكثر قمعا لجميع طوائف المجتمع منذ سبعينيات القرن الماضي.
وبعدها بقليل أصبح للجماعة ذراع سياسي هو حزب الحرية والعدالة الذي استطاع رغم ولادته المبكرة أن يحصد المقاعد التاريخية للحزب الوطني المنحل سواء في مجلس الشعب أو مجلس الشورى وهو يتعهد بتحقيق مطالب الثورة من العيش والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية ، وبالضرورة لم يحقق ما كان يدغدغ به مشاعر البسطاء الحالمين بجنة الأرض لأنهم لم يفطنوا إلى الغياب الحقيقي لما عرف آنذاك بمشروع النهضة.
 وبالفعل نجح الحزب برعاية الجماعة التاريخية الضاربة في النضال السري غير المعلن والمعروف دوما بممارسة الاغتيالات السياسية للخصوم لأكثر من ثمانين عاماً في تحقيق الحرية والعدالة فقط من حيث تحقيق الديموقراطية لمن والاهم في الملامح الفكرية والأطر المرجعية العامة لاسيما منطق السمع والطاعة في المنشط والمكره حيث سمحوا للتيارات السلفية والجماعات الإسلامية وحفنة قليلة من السوريين أن يتواجدوا في مشهد الصدارة في إحداثيات المجتمع المصري.
وفي كل يوم وليلة كنت وغيري نفاجأ بقيادات الحزب الذين هم بالضرورة المنطقية يمثلون قيادات الجماعة يؤكدون بأنهم اختيار الشارع وأن وجودهم السياسي جاء بطريقة شرعية وليست عرفية أو مزورة من خلال ثقة المواطن في الجماعة ككيان سياسي ديني وكذلك ثقتهم في رموز الجماعة والحزب .. ولا أعرف على حد اليقين لماذا كان يريد الحزب ويصر دائما الوقوف في موضع المدافع عن نفسه وتبرئة أعضائه من اتهامات مستدامة ، في الوقت الذي كان ينبغي عليهم العمل بالمشاركة للارتقاء بهذا الوطن الذي كان يحلم ببداية قوية واستثنائية عقب الاحتفال بنجاح مزيف لانتفاضة قام بها بعض الشباب غير المؤهل للثورة ، بل أكاد أزعم قولا بأنهم غير مؤهلين لمصر الضاربة في التنوير والتطوير والحضارة.
ولكن كم كنت أتمنى أن يراجع هذا التنظيم الذي احترف السرية بقدر احترافه للاغتيالات الدموية وترويع المواطنين حتى لحظة الكتابة  نفسه بعد هذا الصعود السياسي والمد الاجتماعي الرهيب الذي تحقق له وقت الصعود في ظل أحداث تشير بالفوضى والانفلات وهذه ظروف مواتية وسانحة لتصاعد أي تنظيم راديكالي متطرف لا يرى سواه ولا يسمع سوى صوته وصداه فقط ، بدلاً من أن هذا التنظيم وغيره من التيارات المتطرفة فكريا رغم مراجعاتها المتعددة  أصبحت مهمومة بالرد على الاتهامات والانتقادات التي توجه إليها ، وجملة الافتراءات التي تلتصق بها ليل نهار ، وحقاً إن المشكلة الرئيسة في أن هذه التيارات التي باتت تحترف الإرهاب والتطرف  لم تستوعب الدرس جيداً من مشاهد أخرى مماثلة حدثت في كثير من البلدان عبر التاريخ ، لكن هي مشكلة الطوائف المتطرفة دوما أنها لا ولم ولن تقرأ سوى ما يقذفه أمراؤها في عقول الأتباع والمريدين وذوي الانصياع المطلق للأوامر بغير تدبر أو تحليل لها  .
وتوقع هجمة شعبوية ضد جماعة الإخوان وكافة التيارات الراديكالية كالسلفية الجهادية وأنصار بيت المقدس ، وجماعة التكفير والهجرة التي كفرت منذ ثمانينيات القرن الماضي نصف المجتمع المصري عن طريق حفنة من الرجال غير المؤهلين علميا أو فقهيا حسب رأي علماء الأزهر الشريف،   كان أمراً منتظراً أو بصورة أخرى رهن الانتظار ، فمصر بطبيعتها المتجددة كنيلها تحيا ثقافة رفض القمعية والتطرف والغلو وتأبى أن يمارس بحقها صور التهميش والإقصاء والتمييز .
ولقد ظل الخطاب السياسي لهذه التيارات والجماعات المتطرفة على الهامش لفترة طويلة باعتباره على الدوام خطاباً خارجاً عن سياق المؤسسة الرسمية ، وبحد وصف كبار المحللين السياسيين الذين أصيبوا كرهاً بالغياب السياسي عن المشهد ؛ بفضل تنظيراتهم الغارقة في اجترار ذكريات الماضي ، بأن هذا الخطاب ينفلت بحكم كونه منتجاً خارجاً عن المعايير الشرعية السياسية إضافة إلى أنه نص سياسي يفتقد الكثير والكثير من شروط إنتاجه ، ورغم هذا التهميش القصدي ظل هذا الخطاب الشعبي يمارس كافة حقوقه الشرعية بل شكل صداعاً مزمناً ومستداماً برؤوس الأنظمة.
ومشكلة هذا الخطاب السياسي الراديكالي والذي ظهر بقوة أخرى جديدة متمثلة في العمليات الإرهابية بحق جنود مصر البواسل  ليس في لغته أو في نصه وإحداثياته ، بل تكمن المشكلة الحقيقية له في عملية تأويله وتحليله ، واختلاف آليات فهمه وإدراكه ، وبالأحرى تباين التوجهات الأيديولوجية حينما تتلقى هذا النوع من الخطاب السياسي . لكن الأدهش في هذا الموضوع أن خطاب الشعب السياسي يستحيل بمرور الأيام لاسيما عقب الفعاليات السياسية الكبرى كالثورات أو الانتفاضات الشعبية إلى معيار أو محك أو أحكام استشرافية يمكن من خلالها التنبؤ بمشاهد سياسية واجتماعية في المستقبل ، وهذا ما رأيناه جميعاً منذ اشتعال الانتفاضة الشعبية البيضاء في الخامس والعشرين من يناير ، وتجسد الأمر بضراوة أيام حكم المعزول بإرادة الشعب محمد مرسي .
وقديماً كان الخطاب الشعبي لهذه التيارات والطوائف الدموية يطلق عليه اسم منشور سري ، وسرعان ما تحول المسمى القديم بفضل عقاقير الديموقراطية وأمصال الليبرالية إلى مسميات معاصرة مثل بيان رسمي ، أو إعلان ، أو نداءات أو ثمة استغاثات تتحول إلى تحذير موجه إلى أي نظام حاكم ، وكل هذه الأسماء التي التصقت بالخطاب السياسي الراديكالي  دليل قاطع على تباين تلقي الخطاب نفسه ، وربما معاناة خطاب الشعب السياسي من الإقصاء والتمييز هو الذي دفع إلى تعدد مسمياته ، وحينما حاولت الأنظمة السياسية الرسمية في تهميش حركة الخطاب السياسي الشعبي وعزله عن الفكر السائد للمؤسسة الرسمية استطاع هذا الخطاب في حجز مقعد دائم له ولمدشنيه في الشهود المجتمعي والبقاء لفترات طويلة على الألسنة وفي الأذان أيضاً بل وجد لنفسه مكانا رحبا هادئا على بعض القنوات المشبوهة التي تحمل الكراهية لمصر وللمصريين على السواء وتبث سمومها الإعلامية من الخارج بالتعاون مع أعداء الوطن من الخونة والمرتزقة بالداخل.
وقد هيأ أصحاب الخطاب السياسي الشعبي أنفسهم على أن يكونوا على الدوام هامشيين يرتدون قناعات مستترة تقيهم ـ حسب ظنهم المريض وقناعاتهم الكاذبة ـ  وطأة بطش الأنظمة السياسية والدول البوليسية التي اعتادت ملاحقة النشطاء السياسيين وهذا هو ما يدعونه على الدوام بل ويدربون أذهان أتباعهم على اعتناق هذه العقيدة ، واكتفى هؤلاء بجعل نصهم السياسي هو المركز والمحور الرئيس غير مبالين بالتهميش الذي ينال أسماءهم وكنههم الشخصي ، وربما هذا الاكتفاء بدور المهمش هو الذي مكن الخطاب السياسي الشعبي من الاستمرارية والبقاء ومن ثم التوالد والتكاثر من أجل وقوف رمزي أمام أي حاكم أو نظام سياسي رسمي .
ولقد أصبح السؤال الأكثر احتداماً في البحث عن إجابة عنه هو : هل نجحت النخب الدينية بعد انتفاضة يناير 2011 وثورة يونيو الشعبية المجيدة 2013 في التقريب بين وجهات النظر لدى عموم المسلمين في مصر ؟ . وهل كان النجاح بمثابة طوق نجاة للمجتمع من أجل خروج آمن من معضلة تجديد الخطاب الديني من عدم . باستقراء بسيط وسريع للطروحات الفكرية والأيديولوجية التي دارت حول هذا السؤال ولم تتناوله بصورة قصدية مباشرة نستطيع إقرار حقيقة مفادها أن التناول لم يخرج عن سياج الحديث المطلق دون عمق في ضرورة الالتحام بسدة الشريعة ورغبة عموم المصريين في تطبيق شعار الإسلام هو الحل الذي لم يعد حكراً على جماعة الإخوان المسلمين التي تواصل انهيارها المجتمعي وسط غضبة مستمرة يمكن توصيفها بالغضبة الشعبية ، بل صار الشعار طرحاً جماعياً لكافة الفصائل والتيارات الدينية ، ولكن هذا الطرح لم يستعرض إجراءات ووسائل تطبيقه وتغلغله في نسيج المجتمع .
لذا اجتهد الكثيرون في الالتحاف بهذا الطرح الأيديولوجي وتقديمه بصورته الخام مع التقاط بعض التفاصيل الفرعية المرتبطة به والتي من شأنها باعدت كثيراً بين هؤلاء العموم وبين الطرح الديني ذاته .ولكن الأمر الذي لابد من الإشارة إليه بغير مواربة أو استحياء فكري هو أن هذا الطرح العام للنخب الدينية ساهم في تأزيم الموقف الاجتماعي ، وازدياد استعار اللغط السياسي الذي أدى إلى زيادة انقسام المسلمين إلى فرق وجماعات ، ولخطورة الموقف كان بعض صور الطرح الديني طعاماً شهياً يغذي الشحن الطائفي أيضاً.
على النقيض من دور النخب الدينية في التواجد الشرعي لها بين عموم المسلمين ، فشلت هذه النخب في جذب المواطن وسلب عقله بمنطق أن الدين سلاح سريع وخطير في دغدغة مشاعر المرء ، لكن خلو خطاب النخب الدينية من المصطلحات السياسية التي صارت من مفردات لغة المواطن اليومية مثل الثورة الشعبية والحرية وتداول السلطة والفصل بين السلطات كانت من أبرز العوامل التي باعت بين النخب الدينية وبين المواطن .
في الوقت الذي نجحت فيه بعض الفصائل السياسية ذات الطابع الديني في استلاب المجتمع بخطاب سياسي ذي هوية دينية ، مبرزة أن مشكلة تأخر المجتمعات الإنسانية ومنها المجتمع المصري هو البعد عن الدين ومبادئه وتعاليمه ، وتجريده من البدع وتبرئته من الخرافات رغم ما شاب عملية الدعاية الانتخابية الخاصة بهم من خرافات وادعاءات افتراضية هي بالأساس بعيدة عن الدين الإسلام الحنيف .
ونحن بإزاء المشهدين المختلفين للطرح الديني بين مشهد النخب الدينية وبين التيارات السياسية الدينية نستطيع أن نقرأ كيف تعامل كل منهما مع المواطن ومعارفه وأيديولوجياته الفكرية الحاكمة له ، فالنخب الدينية تعاملت مع معارف المواطن الدينية بطريقة عرضية سطحية مثل سرد الرقائق والقصص المسلية أكثر منها الداعمة له والاعتماد المباشر على النقل والرواية والحكاية رغم ما تتمتع به هذه النخب من حرية مطلقة في الظهور وتناول التراث الإسلامي بغير اتهامات مسبقة توجه إلى أقطابها .
أما التيارات السياسية الدينية التي برزت بقوة جنونية عقب انتفاضة يناير في عام 2011 فنجحت في التعامل مع معارف المواطن الدينية بطريقة رأسية أي التي تعتمد على النقد والتحليل وتأويل التراث بما يتوافق أولاً مع مرجعية تلك التيارات ، وما يجد صدى وقبولاً في التلقي لدى المواطن ذاته . وبالرغم من أن كافة الكتابات والطروحات الليبرالية اتفقت على هجوم التيارات الدينية السياسية والدفاع عن النخب الدينية المتمثلة في أئمة ومشايخ الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وأساتذة الشريعة واللغة العربية بالجامعات، إلا أنه من الصدق أن نقول بإن هذه النخب وطرحها الديني خلق حالة من الفصام بين المواطن المثقف وواقعه ، وأن هذا من شأنه أفرز تخلفاً فكرياً ، وبات واضحاً حاجة هذا الخطاب أو الطرح الديني لتجديده وإصلاحه وبناء قدرات المواطن المفكر والنقدي.
ومأساة النخب الدينية في مصر أنها اقتصرت على الحكمة والموعظة الحسنة التي تدعو إلى الخير والرشاد فحسب ، دون التماس طريق مباشر بينها وبين المواطن وواقعه وعالمه المعاش والافتراضي أيضاً ،وهذه المأساة هي التي دفعت بالنخب الدينية إلى الشعور بالكمال والاكتمال المعرفي والغرور الديني . في الوقت الذي أمسكت فيه التيارات والفصائل السياسية بزمام المبادرة نحو الاتصال الفعال مع المواطن من خلال الخطب والندوات والمنشورات والمطبوعات الدينية المجانية والتي حاصرت المواطن في كل بقعة يرتادها لذا كان طبيعياً أن تجد هذه التيارات وطرحها الديني والفكري قبولاً لديه.
ولم تدرك النخب الدينية الرسمية أن واجباتها ومسئولياتها أكثر شمولاً من النخب السياسية والثقافية ، وهي بذلك القصور في إدراك تلك الواجبات لم تفهم متطلبات المجتمع والمواطن بالقدر الكافي فكان خطابها الديني مجرد رصد لإحداثيات المشهد السياسي دون تحليله أو تأويله ، واقتصر دورها على التسليم المطلق بما تقرره الميادين الثائرة فقط ، أما طرح التيارات الدينية السياسية فبدا مختلفاً كل الشئ ، كان ثائراً كثورة الميادين ، وكان محفزاً ودافعاً للمواطن نحو المشاركة في صناعة الحدث السياسي .
ولو قارنا بين إمكانات ومقدرات النخب الدينية الرسمية وبين التيارات الدينية السياسية لاكتشفنا على الفور أن تلك النخب الرسمية تمتلك أدوات مؤثرة في تكوين المجتمعات وفي التأثير فيها ، ورغم ذلك وجدناها بعيدة تمام البعد عن تجديد الفكر الديني ، أو عن ممارسة النقد العلمي للتراث أو صياغة مشروع حضاري ، اللهم سوى فئة قليلة من هذه النخب التي اجتهدت بصورة فردية دون حراك جماعي ممنهج ففقد جهدها وسط تخاذل جمعي واستعلاء وغرور وابتعاد القدر الأكبر من النخب الدينية .
وإذا كان المواطن قد وقع في َشَرَك وفخ القضايا الدينية الثانوية والهامشية مثل تفسير الأحلام ومشروعية النقاب واللحية وإخراج الجن من الجسد وهل العولمة حرام أم حلال ، فإن النخب الدينية كانت فريسة سهلة المراس لهذه القضايا ، فبدلاً من أن تهتم بتصحيح مسار العقل لدى المواطن نحو هذه القضايا وجدناها أكثر تناولاً لمثل هذه الفتاوى السطحية والساذجة ، مما ساعد على انتشارها وهيمنتها على واقع وقلب وعقل المواطن .
وكم هو محزن حقاً أن التحول الديموقراطي المصاحب للثورات الشعبية لم يصب النخب الدينية في مصر ، وأن الاهتمام بالشأن العام لم يكن أمراً ضرورياً لديها ، وكان الحديث الرائج ولا يزال لدى النخب المصرية هو حديث عام وعائم أيضاً مفاده الحرص على وحدة الصف وعدم الفرقة وهم بذلك لا يعلمون أن الثورة قامت في الأساس عن طريق توحيد صفوف المصريين في المطلب الجماعي واختلافهم الفطري في الأيديولوجيات الفكرية ، لكن النخب الدينية تتعامل مع مواطن الثورة كما كانت تتعامل معه قبلها ، وهي في ذلك لم تدرك بعد أن ثورة الشعوب علامة فارقة في حياتها .
حتى في تعامل النخب الدينية والتيارات الدينية السياسية مع الملف الطائفي ندرك الخلل والقصور الواضح في الرؤية والطريقة ، فالتيارات الدينية التي تسيدت المشهد السياسي في مصر عقب الثورة الشعبية كانت ولا تزال تتناول الآخر المخالف في العقيدة أقصد المصريين الأقباط بصورة مباشرة وبغير تحايل دعوي من حيث إنهم شركاء في الوطن وأنه من الضروري المساهمة يد بيد من أجل إصلاح الوطن حتى وإن ظهرت بعض الرؤى الفردية المتطرفة التي استبعدت التواجد القبطي في المشهد السياسي فإن ذلك الاستبعاد السياسي نحو السلطة ومنافذها الرسمية لم يكن ذا صلة بالحياة الاجتماعية التي يشارك فيها المسلم نظيره المسيحي .أما النخب الدينية الرسمية فاستمرت في تطبيق منهجها الرتيب والقديم في التعامل مع الآخر حيث إنها تظهره دوماً في صورة لوحة الإعلانات أو التعامل معه عن طريق الكيانات المسيحية الرسمية من خلال اللقاءات والمؤتمرات .
والمستقرئ للفترة الزمنية التي وصلت فيها الجماعة بحلفائها إلى سدة الحكم في مصر ، يدرك أن الرئيس المعزول محمد مرسي رئيس الجماعة  استخدم كثيرا لغة رمزية ربما لم يفهمها سوى أهله وعشيرته وقيادات مكتب إرشاد الجماعة وحدهم ، فضلاً عن استخدامه لمؤشرات رمزية استثنائية حفل بها خطابه السياسي الذي من المفترض أنه رسمي يصدر من مؤسسة الرئاسة لكنه فضل استخدام لغة خاصة تشير إلى فكر ظل سنوات بعيدة يعمل في الظل وبغير وجهة شرعية ، لذلك لم يستطع الرئيس المعزول وقتها التخلي عن الشفرة الكودية الخاصة بلغة تنظيمه السري . في حين أنه كان عليه استخدام لغة مباشرة لاسيما حينما نال بالتلميح بعض الشخصيات المجتمعية والقضائية والإعلامية في مصر. ولا ينبغي التغافل عن أن حديث الرئيس المعزول محمد مرسي السياسي كان من أبرز العوامل التي دفعت الملايين من المصريين للخروج عليه والمطالبة بعزله وعزل تنظيمه عن سياق النسيج المصري .
وتبدو مشكلة أخرى عند تناول النص السياسي الشعبي ، وهي ما يسعى إليه غالباً المحسوبون على النخبة التنظيرية التي أصابت الكثير من المصريين باللغط والجدال ، هذه المشكلة هي قراءة المتحول بالثابت ، والمتحول هو الخطاب الشعبي ، الذي لا يستقر ولا يهدأ ولا يميل إلى استعمال مفردات سياسية ثابتة بل طالما أدهشنا هذا الخطاب بتنويعات لغوية مثيرة ، فالذين يستخدمون آليات الثابت في التحليل يدعون أنهم يمتلكون وحدهم حق المعرفة السياسية وربما الحقيقة أيضاً ، في حين أن المهمشين قصداً يعمدون في خطابهم السياسي الشعبي إلى امتلاك حق الإحساس بنبض الشارع بغير مشاركة .
وأصحاب الخطاب السياسي الشعبي لم يكونوا يوماً مجافين للواقع المشهود ، لكنهم يعتبرون أنفسهم دوماً رجع الصدى وصورة حية لاستكناه مشاعر المواطنين البسطاء الذين لا تصل أصواتهم الباهتة إلى أصحاب القرار السياسي الرسمي ، وربما غفل علماء الاجتماع رغم دراساتهم وأبحاثهم الكثيرة والمترامية على أرفف المكتبات الجامعية والتجارية أيضاً عن البحث الدقيق لتحليل دوافع هؤلاء الذي أخذوا على عاتقهم كتابة خطاب سياسي شعبي بغير تذييل لأسمائهم أو إعلان لهويتهم .
ورغم أن كافة دول العالم تدغدغ مشاعر وعواطف مواطنيها بدعاوى الديموقراطية والإيمان بالتعددية السياسية والنفور من الإقصاء والتمييز ، إلا أن ثمة فوارق بينية تكشف عن التمايز بين الخطابين السياسيين الرسمي والشعبي ليس في مصر وحدها ، بل هي فوارق نجدها ثابتة وراسخة في جميع الثقافات أيضاً ، فبينما يبدو الخطاب الرسمي خطاباً فوقياً ، فإن تحتية الخطاب السياسي الشعبي أشبه برياضة تسلق الجبال ، بل هو خطاب يشبه مقولة الروائي العالمي جابرييل جارثيا ماركيز إن المتعة تكمن في تسلق وصعود الجبال وليس البقاء والاستقرار على قمة الجبل ، وهذا ما يدفعنا لتفسير سر ابتعاد أصحاب الخطاب الشعبي عن المشاركة في الفعاليات السياسية الرسمية كالانتخابات والذهاب إلى صناديق الاقتراع أو المشاركة في أي برنامج سياسي رسمي بعد استقرار أي استحقاق ديموقراطي ، وهو أيضاً ما يجعلنا نقبل طوعاً  سر بقاء تفاصيل الخطاب الشعبي السياسي على ألسنة المواطنين لفترة أطول من الخطاب الرسمي لأنه يسير ببطئ ويشحذ الذهن بخطى ثابتة ، في حين أن الخطاب الرسمي عادة ما يقترن بمناسبة رسمية أو بأمر طارئ فسرعان ما تنتهي آثاره .
إذن ، فالقراءة هي التي تمنح النص السياسي الراديكالي شرعيته وخلوده ومن ثم بقاءه لفترة طويلة أو قصيرة والقدرة على الحراك السياسي ، إضافة إلى قوة صاحب الخطاب نفسه ومدى تمتعه بالقبول السياسي العام ، وأيضاً مدى قدرة الخطاب السياسي على قبول الآخر والانفتاح عليه بغير قيود والسرعة في المباشرة عند تناول الأحداث الجارية .
وربما بدأ الشباب المصري الأكثر وطنية ووعيا بالوطن في الاهتمام بالدراما الخلاقة التي عرضتها شركات الإنتاج الفني الوطنية والتي تحكي عن قوة وشجاعة وبطولات وبسالة الجيش المصري العظيم ومواجهته للإرهاب المسلح على أيدي أنصار الجماعة وداعش وأنصار بيت المقدس وربما جماعة التكفير والهجرة أيضا ، ولهم أقول أنه تم  رفع الأحذية ثلاث مرات في وجه تلك التنظيمات المعادية للوطن ؛ الأولى أمام منصة الجماعة التي نصبت بميدان التحرير الثوري ، والثانية في أثناء مسيرة جامعة القاهرة والتي نقلت الصحف وبعض الفضائيات نبأ رفع المسيرة أحذيتهم في وجه أنصار الجماعة وبعض التيارات المنسوبة بالخطأ إلى الإسلام السياسي المسلمين .والثالثة في وجه الإخواني محمد البلتاجي في جمعة إنقاذ الثورة وتقرير المصير .
وثقافة الأحذية ليست ببعيدة عن التأثير الوجداني ، فهناك أحذية دخلت التاريخ رغم أنفها ، منها حذاء سندريلا في القصة الشهيرة التي قرأناها ونحن صبية وهي الفتاة الجميلة التي اختفت من حفلة ملكية بعد أن وقع الأمير  في غرامها ولم يستدل عليها إلا من فردة حذائها التي خلفتها وهي تجري قبل أن تدق الساعة الثانية عشرة، وأيضاً الحذاء الأشهر الذي ضرب به منتصر الزيدي الرئيس الأمريكي جورج بوش وهو يلقي بيانه في العراق منذ أعوام قلائل مندداً بما فعله بوش بالعراق وأهلها والدمال الذي خلفه الاحتلال الأمريكي للعراق .
وأشهر الأحذية أيضاً كان لرئيس الاتحاد السوفياتي في عام 1956 أثناء إلقائه لخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فانفعل وهو يلقي بكلماته التي كانت تحمل تهديداً باستخدام القوة والتدخل المباشر  لوقف العدوان الثلاثي على مصر . وفجأة انحنى خلف المنصة فجأة امام المحتشدين رؤساء الدول الذين اعتقدوا لأول وهلة أنه أصيب بحالة إغماء مفاجئة ، ولكن سرعان ما ظهر وهو يحمل فردة حذائه وضرب بها مرات عدة على المنصة التي يعتليها ، وهو يوجه تحذيره إلى الدول المعتدية .
وربما لا تستشعر قادة هذه التيارات الإرهابية دلالة هذا العصيان الجماهيري والشعبي ضدها وضد الجماعة المنحلة والتكفير والهجرة بصفة خاصة ، رغم أن دلالات هذا العصيان والرفض واضحة للعيان وللشهود ، وهؤلاء المواطنين الذين رفضوا وجود هذه التنظيمات العدائية المتطرفة على أرض مصر المحروسة  كانوا على وعي بما يفعلون ، لأنهم سنحوا ومنحوا وقتاً كافيا لمثل هذه الجماعات الموتورة فكرا ومرجعية  في حل مشكلات مصر واستنهاض البلاد ، إلا أن فوجئوا بجماعات وطوائف وتيارات متطرفة تتفرغ لمهاجمة الوطن بدلاً من المساعدة ، واقتناص مساحات من الوطن لمصالح ومطامح خاصة بأمراء وشيوخ هذه الطوائف لا الوطن .
وإذا كان المجتمع المصري اليوم يريد أن ينهض وهذا النهوض لا ولن يتحقق إلا بقبول متفاهم مع الآخر المتباين ، فشريطة هذا كله مفاده الحوار والتواصل بقواعد الحوار السليم والهادف الذي لا يعرف للإقصاء سبيلا ، ولا يفطن للاستلاب طريقا .
وكلمة الحوار ذاتها كلمة تبدو مرنة وجميلة رغم كونها في الأصل إجراء يتطلب الكثير من الممارسات والصفات الإنسانية السمحة ، وهذا يتحقق بالتعليم وحده ، هذا التعليم المتمثل في مدرسة متطورة مستنيرة تستهدف إقامة حوار بناء بين الطلاب ، وخلق فضاء للنقد المتصالح ذهنيا ونفسيا وتكوين الفكر المستقل لدى الطلاب ، وهذه الأهداف تتحقق في ظل إدارة تربوية غير تسلطية ولا تتمتع بقمع الموهبة والإبداع.
والبحث عن هوار هادف بناء يجعلنا مضطرين إلى التفتيش عن مكانة المهارات اللغوية داخل مدارسنا وفي مجتمعاتنا العربية ، ولا أعني بالمهارات القراءة والكتابة والتحدث ، بل ما أقصده هنا مهارة الاستماع ، والتي تعني الإصغاء والإدراك وتفسير الأصوات المنطوقة ، وهي بالقطع عملية عقلية يعطي فيها المستمع اهتماما خاصا وانتباها مقصودا لما تلقاه الأذن من أصوات . والمشكلة أننا لا نسمح للآخرين بحق الكلام وبذلك نقمع عادة الاستماع الإيجابي لدينا ، رغم علمنا وفطنتنا بأن الاستماع هو الذي حفظ لنا تراثنا الثقافي والاجتماعي والحضاري عبر الأجيال ، وساعد على احتفاظ كل أمة بخصائصها وعاداتها وتقاليدها . ورغم أهمية مهارة الاستماع بين مهارات اللغة فإنها لم تحظ بالاهتمام اللازم لا في مدارسنا ولا في حواراتنا .
حتى أولئك المتعصبين من أهل الفكر والرأي وربما العقيدة أيضا يحتاجون إلى مساحات واسعة من التسامح والصفاء الذهني مع أنفسهم أولا ، إذا ما قرروا أن يشاركوا في بناء الوطن ، وهذا الصفاء يتحقق في حالة واحدة فحسب هي قبول التعددية الثقافية التي ترى ثقافات متغايرة بعدسة ثالثة أكثر مرونة . وربما تظل النوبة تلك القعة الساحرة بجنوب مصر المحروسة خير دليل عالمي على التعددية الثقافية التي نرى بها كيف تتعايش الثقافات بغير تناحر أو تصارع ، بل إن النوبة وحدها والتي لست منها نسبا أو مكانا هي التي نرى بها مشروع التسامح طاقة نور وتنوير تقودنا إلى احترام الآخر، وجودا ورأيا وحقوقا.
وهذا القبول للآخر بغير تسامح لن يبقى ، ويخطئ كثيرون حينما يظنون بأن التسامح هو التنازل عن المعتقد أو الخضوع لمبدأ المساومة والتنازل. لكن  التسامح في أرقى صوره وملامحه يعني القبول بالآخر والتعامل معه على أسس العدالة والمساواة.
جميل ، حقا كل ما سبق جميل لكنه يفتقر إلى التوظيف أو الوظيفية في الممارسة ، ومن هنا نبدأ القول ، فعلى الجامعات والمدارس أن تتبنى سياسات تعليمية جديدة وممارسات تؤدي إلى قبول الآخر والتعايش الإيجابي المشترك من خلال النشاطات الطلابية ، ومن أجل تطوير التربية العربية الراهنة ، فنحن بحاجة ماسة إلى تجديد الخطاب التربوي نفسه ، وإيجاد إطار مرجعي يحكم الظاهرة التربوية التي تمارس في مؤسساتنا التعليمية الضاربة شرقا وغربا ، وإذا كانت الحياة اليوم تتسارع بصورة رهيبة ، فبات أولى الاكتراث بضرورة تنويع خطابنا التربوي العام مستهدفين خلق جيل جديد من الطلاب يستطيعون مواجهة تحديات المستقبل . وإذا كانت التربية الفوقية التي تصدر عن صانعي القرار التعليمي لا تعكس واقعنا المدرسي الحقيقي فغن هذا يزيد من تفاقم أزمة التربية التي تشارف نهاياتها إذا لم ندرك المفارقة القيمية بين قرار تربوي يصدر ، ومشهد تعليمي مغاير،  وعلى الإعلام بوسائطه المتعددة أن تكرس ببرامجها وحواراتها وأفلامها ومسلسلاتها لثقافة الحوار والتواصل ،وإيجاد وسائط إعلامية متطورة تنبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع.
تجربة : أمكنة الطفولة مثل عناق المطر بالشجر .
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
كلية التربية ـ جامعة المنيا.
 
 
 
 
 
 

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.