مساحة اعلانية

مجلة الكترونية دولية مستقلة تعنى بشؤون الفكر والثقافة والأدب والفنون ..

" مصل الحقيقة" بين العلم والأدب لدى أمين الساطي - أحمد محمود الباشا

 



من جديد يتحفنا ويطل علينا الكاتب والأديب أمين الساطي بقصته القصيرة الجديدة التي عنونها وسماها "مصل الحقيقة"، ومن عنوانها نرى أن كاتبنا اتجه نحو عالم آخر غير عالمه الذي عرف واتسم به وهو عالم الخيال والأوهام واللاواقعي، الذي طغى وسيطر على قصصه القصيرة ورواياته، وكان كاتبنا قبل هذه القصة اتجه بالكتابة للأطفال ودخول عالمهم من خلال قصة الأمير والحوت الوردي. وبالعودة إلى القصة الجديدة " مصل الحقيقة" التي عبر فيها عن حالة اجتماعية واقعية معاشة وملموسة وتحصل في مجتمعنا مستخدماً فيها أسلوباً علمياً ومصطلحات علمية طبية من خلال بطل القصة الطبيب مأمون، الذي يعمل في مشفى عام "المجتهد" وفي المساء لديه عيادة يعمل بها، وهو متزوج من فتاة اسمها سلمى.
في البداية كانت حياتهما هانئة وسعيدة، وبعد بضع سنوات من زواجهما رزقا بطفلتين جميلتين. لكن الزوجة بدأت تشعر بإهمال زوجها لها وفتور عواطفه نحوها، وأنه لا يبادلها العلاقة الزوجية الحميمة، حيث إنه يكبرها بثلاثة عشر عاماً، وبدأت المشاجرات والمشاحنات بينهما لتلك الأسباب، وأعربت عن رغبتها بإنهاء علاقتهما حتى لو كان ذلك بالطلاق، إلا أن الزوج مأمون امتص غضبها، وتروّى وضبط أعصابه رغم أنه سمع من أخته أن هناك شائعات كثيرة حول علاقة زوجته بابن عمتها واستمرارها حتى بعد الزواج. فكر الزوج بطريقة ذكية و"أسلوب علمي طبي" وكي يعرف الحقيقة بعيداً عن العادات والأساليب التقليدية الهوجاء المتهورة التي يتم التصرف بها في حالة كهذه، ورغبته بأن يعرف الحقيقة كاملة من زوجته. فطلب منها أن ترسل ابنتيهما إلى منزل أهلها ليقضيا معاً ليلة مخملية حمراء، وفي يوم الخميس بعد أن بقيا وحدهما، ولكونه طبيباً مختصاً فهو يعلم أن هناك دواء اسمه "بنتوثال الصوديوم" يتم إعطاؤه حقناً بالوريد اصطلح على تسميته علمياً "مصل الحقيقة" يستخدم عادة بالمصحات العقلية للتحليل النفسي كي يتوقف المريض عن الكذب، فقرر أن يستخدم هذا الدواء مع زوجته سلمى، فسكب لها كأساً من النبيذ ووضع فيه مسحوقاً مهدئاً للأعصاب من دون أن تشعر بذلك، ليتمكن من السيطرة عليها، ومن ثم حقنها بإبرة من ذلك الدواء، وبدأ يسألها أسئلة بسيطة ويستدرجها شيئاً فشيئاً، وسردت له كل أمورها وأحوالها، وأخذ الدواء يأخذ مفعوله معها فقل نشاطها الحركي، وبدأت تروي كيف كانت بداية حياتها وعلاقتها مع ابن عمتها وأمها لا تريد تزويجها منه، وترغب بأن يكون زوج ابنتها طبيباً اختصاصياً رغم أن العلاقة بينها وبين ابن عمتها تجاوزت كل الحدود، ومارسا العلاقة الحميمة على أتمها وفقدت عذريتها، وأن أمها وجدت لها طبيباً أجرى لها عملية ترقيع، وأنها في بداية حياتها الزوجية حاولت إقناع نفسها بعدم المقارنة بين زوجها وحبيبها، وحول عودة تفكيرها مجدداً بابن عمتها والاتصال به، وأنه جرت عدة لقاءات بينهما على أمل منها أن يطلق ابن عمتها زوجته ويتزوجها، وأنها في آخر لقاء معه أخبرته بذلك، لكنه أخبرها أن الحب الذي بينهما انتهى وأنهما يعيشان علاقة جنسية عابرة، هنا أدركت أنها أخطأت التصرف وقررت الانفصال عما هي فيه وأن تعود لتعيش حياتها في بيتها مخلصة لزوجها وابنتيها، وقد سجل الزوج كل هذه الاعترافات على شريط آلة تسجيل، فكر بأن يعطي نسخة لعائلتها، أو أن يعطي نسخة لأخته لنشرها بين صديقاتها، إلا أنه فكر ملياً بمستقبل ابنتيه، وأن عليه أن يجري فحص الحمض النووي "وهو مصطلح طبي علمي" على طفلته الصغيرة ليتأكد أنه أبوها البيولوجي أيضاً "مصطلح علمي" أخيراً أخذ قراره وذهب إلى فراشه محاولاً النوم.
بعد انتهاء مفعول الدواء "بنتوثال الصيديوم"، استعادت سلمى وعيها وتذكرت الإبرة والتجربة التي مرت بها بكل تفاصيلها، ووجدت إلى جانبها آلة التسجيل، فأدارتها، فهالها أن تسمع صوتها وهي تتحدث عن مشكلاتها وعلاقاتها الماضية، فما كان منها إلا أن اتجهت للبلكونة وألقت بنفسها من الطابق الرابع فكانت هذه نهايتها ونهاية القصة.
من خلال ملخص قصتنا "مصل الحقيقة" فإن كاتبنا جعلنا نعيش واقعاً موجوداً حقيقة في حياتنا ومجتمعنا وبيئتنا، وظهر فيها سعة أفقه وأنه قادر للانتقال من عالم إلى آخر وعلى استعداد لتجسيده في أعماله وفق الرؤية التي يراها وانتقل فيه من ذاك العالم الذي اتسم وسيطر عليه في قصصه ورواياته التي منها "شوارع الغضب، نبوءة على التلفاز، قصص قصيرة مرعبة، أوهام حقيقية، الممسوسة " ومن ثم دخوله عالم الطفل والكتابة له من خلال قصة الأمير والحوت الوردي.
وما ميزه في قصة "مصل الحقيقة" هو استطاعته إدخال أساليب ومفاهيم ومصطلحات علمية ودخول ذلك في القصة يعتبر شيئاً بارزاً ونادراً ما يدخل الكتاب ذلك في أعمالهم، وقد تجلى لنا ذلك على سبيل المثال بالدواء الذي حقن فيه مأمون زوجته وهو طبيب اختصاصي، وكذلك المسحوق المخدر الذي وضعه في كأس النبيذ، ومن ثم تحليل الحمض النووي، وكذلك التسجيل.
 وآلة التسجيل كأداة ودليل إثبات ضد زوجته، وأخيراً الأب البيولوجي. كلها تدخل في الأسلوب العلمي والمفاهيم والمصطلحات الطبية والعلمية، وبهذه الطريقة والفكرة الطبية والعلمية البحتة أوصل الكاتب بطل قصته للحقيقة التي أراد أن يعرفها بلسان زوجته نفسها لا من أحد آخر.
أخيراً لا يسعنا إلا أن نرفع القبعة بكل تقدير واحترام لكاتبنا وأديبنا الأستاذ أمين الساطي الذي يثبت لنا يوماً بعد آخر بأنه كاتب وأديب بارع ومبتكر ومجدد من الطراز الرفيع، له بصماته في قصصه التي لا تمحى، ويتقن مختلف الأساليب والفنون الأدبية ويوظفها مع العلمية بكل حرفية ومهارة في سبك وحبك قصته هذه والقصص الأخرى التي سبقتها ووصوله فيها إلى ما يريد أن يوصله للقارئ ويرسخه في ذهنه ويجعل كل قصصه شيقة ومثيرة تستقر في ذهن القارئ. وإلى مزيد من التميز والنجاح المستمر لكاتبنا المبدع والمجدّد أمين الساطي.

ليست هناك تعليقات

يمكنك التعليق هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.